الوضوح والتَهَلِّى في بيان حقيقة التَّجَلِّي
واستدراك أفاده (وَلكِن) تسلية لنبي الله تعالى موسى - عليه السلام -، وتلطفا في خطابه، وتكريما له، كما أنه تعظيم لأمر الرؤية، وأنه لا سبيل لعبد ليقوى عليها، ومن حيث كان في علمه تعالى أنه غير واقع ابتداء، إضافة إلى أنه تعالى لم يخلق في أحد من عبيده قدرة لتحمل ذلكم استقبال لمثل رؤيته تعالى. آخذين في الاعتبار أنها لم تك ممكنة في الحياة الدنيا، وهذا قضاء منه تعالى وحكما.
و"هذا كلام مدبج بعضه في بعض، وارد على أسلوب عجيب ونمط بديع. ألا ترى كيف تخلص من النظر إلى النظر بكلمة الاستدراك؟ ثم كيف بنى الوعيد بالرجفة الكائنة بسبب طلب النظر على الشريطة في وجود الرؤية؟ أعني قوله ﴿فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِى ﴾[1].
ومنه فإن ذلك ليعد توطئة لاستقبال أمره تعالى على طريقة التسليم والانقياد برضا ومحبة، وهو ما نفيده في أمورنا أن نوطيء لأوامرنا كيما يستقبلها المخاطَبُ بها على قبول ورضا واستسلام بتسليم.
وفيه تحويل النظر في الاستدلال؛ بمعنى أنه تعالى لو كان قد منع رؤيته ابتداء على نبيه موسى عليه السلام، لكان قد سمع وأطاع ولا شك، ولكنه سيسمع وقتها من باب القوة القاهرة، ولكنه سيطيع عندها من باب الإذعان وحسب، لكنه تعالى لم يرد أن يبنى كونه على ذلكم نظام، ولذلكم وضع أمامه نقل المسألة استدلالا، ببقاء الجبل على حاله أو لم يبق، وهذا نقل بارع للمستقبِل كيما يكون على قناعة، قبل أن يكون مذعنا، ليترقى انقياده من كونه بإذعان كراهية، إلى كونه عن وتسليم وإيمان طواعية!
ومقابلة النظم قدرة عبد على قدرة جبل أمر ذو بال، ذلك لأن الجبل مع صلابته لم يكن ليثبت حين تجليه تعالى له، بل تفتت واندك وساخ وتدقدق وانهال رملا، فكيف بعبد مركب من دم يجري في العروق، ومن ماء يتدفق في الأوردة؟!
لكنه من باب تقدير هذا الانسان ووضعه في قالب المهارات والاهتمام والاعتناء. ومنه يجب أن يضع الانسان نفسه حيثما قد وضعه ربه تعالى، وحيثما يجب أن يكون أهلا للكرامة والاهتمام. فإن مقابلة الانسان بالجبل يشي بإمكانات ربانية منحها الله تعالى لعموم الانسان وإلا ما قابله سبحانه بجبل شامخ صلب صلد راسخ متين! دلالة على إمكاناته، وموجبا لمكنوناته العظيمة الجبارة. فإن استقلال الإنسان نفسه وقيمته، واستصغاره مواهبه ومنحه، لهو من تلبيس إبليس ولاشك!
واسأل عن أمير المؤمنين الفاروق رضي الله تعالى عنه يوم أن جاهر وحده قريشا كلها أنه مهاجر! فكم كان يملك من إمكانات من دونهم جعلته يجابههم كلهم وحده بمثل هذه المخاطرة الجبارة!!!
ورغم أن الفعل تجلى معناه " ظهر أو ظهر نوره; من قولك وتجلى معناه ظهر؛ من قولك: جلوت العروس أي أبرزتها. وجلوت السيف أبرزته من الصدأ؛ جلاء فيهما. وتجلى الشىء انكشف. وقيل: تجلى أمره وقدرته؛ قاله قطرب وغيره "[2]! إلا أن ما سبق هو التعريف اللغوي لمعنى التجلي، لكن تأويله في حق الله تعالى وجب أن يكون مستصحبا مع قوله تعالى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾[الشورى:11]. وبه يكون تأويل التجلي اكتفاء بأنه تجل يليق بجلال الألوهية، وأنه تجل يوافق جمال الربوبية، وحسبنا ذلك. ومنه فحسن ألا نحوم حول شرح يوقعنا فيما نحن أغنياء عن مثله، من احتمال ولوج في تشبيه أو نفي أو تعطيل، وذلكم مع استدعاء حسن النوايا ابتداء في ذلكم.
ومنه فلا مسوغ لقول من قال إنه مجاز، أو إنه تشبيه تقريبي للمعنى، فذلكم كله صرف لظاهر النص عن معناه، كما أنه تكلف لايحتمله النص.
و(جَعَلَهُ دَكًّا) أى مدقوقا مفتتا، وهو تنبيه على أنه إذا كان ذلكم هو ما حصل للجبل مع شدته وصلابته، مادام لم يستقر عند هذا التجلي، فآدمى مع ضعفه لأولى بألا يستقر.
وذكر القاضي عياض عن القاضي أبي بكر بن الطيب ما معناه : "أن موسى عليه السلام رأى الله فلذلك خر صعقا ، وأن الجبل رأى ربه فصار دكا بإدراك خلقه الله له. واستنبط ذلك من قوله: ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني، ثم قال ﴿ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا ﴾ "[3].
وهو قول موقوف على القاضي عياض رحمه الله تعالى، وسكوت الإمام القرطبي رحمه الله تعالى عنه يجعلنا في حل من الاعتداد به، خاصة وأنه لاينهض بدليل يعضده من آية محكمة أو سنة قائمة.
و(جعله دكا) تشبيه بالناقة التي لا سنام لها، لأن الدكاء هي الناقة التي لا سنام لها، وقيل إن الذي اندك منه لم يرجع وما زال أثراً، وهو تحول من صورة جبل صلد أشم صلب ثابت راسخ إلى صورة أخرى تكاد تكون مغايرة لأصلها.
وشأن جبل أن ينهال لينهار ليصير مثل رمل مدقوقا مهدوما، دال بحقيقته ألا شيء يكون عائقا أو مانعا أو حائلا أمام القوة القاهرة، والقدرة النافذة لله تعالى، لكنه درس لنا باستنهاض قوانا الداخلية التي حبانا الله تعالى بها، وهي ولا شك أكبر قيمة، وأعظم هالة من قيمة جبل أصم، خلق من حجر!!!
وتأويل اندكاك الجبل كونه "انزعاجا من رؤية الله وعدم ثبوته لها"[4]! هو مالا يتفق مع طبيعة جبل قال الله تعالى عن جنسه ﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۚ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الزمر:21]!
وتعليق الشرط بحرفه بحيث إذا وجد الأول وجد الثاني، من حيث إن "الشرط ما يتوقف عليه وجود الشيء ويكون خارجاً على ماهيته"[5].وخاصة أن الشرط ب(إنْ)، إذ لما كان استعمالها محلا لندرة وقوع شرطها، أو تعذره ، لذا كان منه انتفاء وقوع استقرار الجبل ، ومنه فمجيء الشرط لتعليم نبيه موسى عليه السلام وغيره تبعا.
وبمثل ما سبق يحمل ما رواه الترمذي وغيره ، من طرق عن أنس بن مالك : أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّم: قَرأَ هذِهِ الآيةَ ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا﴾، قالَ حمَّادٌ: هَكذا، وأمسَكَ سليمانُ بطرفِ إبْهامِهِ على أنملةِ إصبعِهِ اليمنى قال: فساخَ الجبلُ وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا[6].
وهذا الحديث السابق يؤخذ جنبا إلى جنب مع ما روى عبد الله ابن الإمام أحمد عن أبيه عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا﴾ قَالَ : قَالَ : هَكَذَا ، يَعْنِي أَخْرَجَ طَرَفَ الْخِنْصَرِ قَالَ أَبِي : أَرَناهُ مُعَاذٌ فَقَالَ لَهُ حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ : مَا تُرِيدُ إِلَى هَذَا يَا أَبَا مُحَمَّدٍ ؟ قَالَ : فَضَرَبَ صَدْرَهُ ضَرْبَةً شَدِيدَةً ، وَقَالَ : مَنْ أَنْتَ يَا حُمَيْدُ وَمَا أَنْتَ يَا حُمَيْدُ ؟ [7].
ولست أقول مثل قول من قال "والتجلي حقيقة الظهور وإزالة الحجاب، وهو هنا مجاز، ولعله أريد به إزالة الحوائِل المعتادة التي جعلها الله حجابًا بين الموجودات الأرضية وبين قوى الجبروت التي استأثر الله تعالى بتصريفها على مقاديرَ مضبوطة ومتدرجة في عوالم مترتبة ترتيبًا يعلمه الله"[8]. ذلك لأننا نؤمن أن التجلي على حقيقته التي لا نعلمها ولا نتأولها، وأن الإيمان به واجب، وأن الكيف له مجهول، وأن التكلف فيما وراء النص تحميل لما لا يحتمله! وما زلنا واقفين عند قوله تعالى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾[الشورى:11].
هذا؛ وقد أراد أحدهم أن يرد قول الإمام الفخر الرازي رحمه الله تعالى "فثبت أن قوله تعالى: * (فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا) * هو أن الجبل لما رأى الله تعالى اندكت أجزاؤه، ومتى كان الأمر كذلك ثبت أنه تعالى جائز الرؤية"[9]. فقد أبطل غير حق بغير حق مثله حين قال" بل نقول إنه تعالى تجلى بآية من آياته للجبل فجعله دكا"[10].
إن التجلي حقيقة ربانية وعقيدة في الله تعالى العلي الأكرم، يمنح العبد طاقة إيجابية نحو الإيمان بالله تعالى وزيادته، شرط عدم إقحامه فيما لم تدركه العقول، فتنحو به منحى الإبطال تكييفا أو تشبيها أو تعطيلا.
[1][الكشاف، الزمخشري: (2/285)].
[2][تفسير القرطبي: (7/278)].
[3][ تفسير القرطبي: (7/278)].
[4][ تفسير السعدي:ج2/302].
[5][التعريفات، أبو الحسن علي بن محمد بن علي الجرجاني / 73].
[6][صحيح الترمذي، الألباني ، الصفحة أو الرقم: 3074].
[7][ السُّنَّةُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ ، حديث رقم:431].
[8][ التحرير والتنوير: الطاهر بن عاشور: (1/1632)].
[9][ تفسير الرازي، الرازي: ج ١٤/٢٣٢].
[10][ مع الفخر الرازي في التجلي الإلهي: المطيرفي: مقال منشور على الشبكة العنكبوتية].