هذا قول نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، بعد الفتح الأعظم فتح مكة المكرمة البلد الحرام، وهذا القول كاشف أيما كشف عن طبيعة هذا الدين، وحين لم يقف صامتا، بل صامدا، أمام حادثة سرقة واحدة! وقعت في عهد الابتداء الأولي للإسلام الخالد، وفي ابتداء بسط له على مكة المكرمة البلد الأمين، ومن بعد الفتح المبين. ولأن السكوت أمام جريمة كمثل هذه الجناية، ليمثل إسقاطا ما مقتضاه هو أن هذا الدين في عيون العالم أجمع! وحين يعلم الناس أن به خلة، ولو واحدةً، يمكن منها النفاذ إلى تعطيل أحكامه، ولو حكما واحدا، ولو مرة واحدة أيضا!!

وذلك لأن هذا الدين كانت الإيجابية من أولى خصائصه، وبحيث لا يمكنه الوقوف سلبا أمام حوادث الزمان ووقائعه، بل يقابلها إيجابا تفاعلا وحركة دائبة، إعلاءً وإمضاءً، وحين كانت نافعة، وازدراء ومقتا وسفها وابطالا ومحوا وحتا ولما كانت تحدث ثلما، ولو ثقبا واحدا، يؤثر سلبا في هذا البنيان الشامخ السامق الرفيع الأبي!

ويكأن هذا الدين يقوم قومته، وحين تظهر بادرة ولو واحدة يمكن منها انفراط عقده، وحين يسكت، وإذ إن النار من مستصغر الشرر.

وهذا الذي نراه الآن في واقع الناس المعاصر، وإذ تحوط بهم الابتلاءات، ومن كل جانب وصوب وحدب، ولما وقفوا سلبا أمام هذا الخروج السافر على القيم والمبادئ والمثل العليا، وتراهم يمرون عليها، وهم خاشعون من الذل والخيبة والدمار والخسار المحيق المحيط! ويوم أن سكتوا أول مرة، ويوم أن أغمضوا طرفها يوم السقطة الأولى!!!

ولهذا السبب كان هذا الجيل الأول، ومتمثلا في شخصية، وكمثل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، قائدا فذا حكيما، وحين لم يغض طرفه عن حادثة ولو واحدة، وإذ كان يمكن أن يجرف طوفانها الأمة بأسرها، وبحيث لا تقوم لها قائمة أبداً، ومصداق ذلكم هو قول الشاعر الكريم:

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت    فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا.

لكن الذي حدث يوم وقعت الواقعة، أن الناس دخلوا مدخلهم إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وبعد اجتماع مَرِرٍ، ومن إثر تشاور كَدِرٍ! وأخذ ورد، ومن خلال حِبِّه وابن حِبِّه أسامة بن زيد!! وفي واقعة أخرى تتكرر كل زمان، وتكشر عن أنياب السقوط إلى الهاوية أنيابها، وكل حين!! لكن هذا النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت وقفته ماثلة، وأمام جحافل الباطل والخزي والتأخر والسلبية وقصر النظر، وحين حسبوا أن عملهم هذا مقصور على امرأة سرقت وحسب!!! ولم يرح بهم تفكيرهم الذي راح إليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن هكذا لذلكم فعل يسقط الدين كله! وسقطة واحدة! فلا يكاد ينهض مرة أخرى أبدا أبدا !!!

وبيد أن العلاقة بين الفعل، وبين استحضار هيبة الدين، وما يجب أن يكون عليه قلب العبد المسلم المستقيم، هو ذاك الذي أوقفنا عليه قول رسول الله ﷺ آنف الذكر، وحين ربطه بالله تعالى، وبمثل هذه الدينونة العظمى، وكمثل هذه النظرة الكبرى، ولحدود الله تعالى العليا، ولو كانت حدا واحدا!!

وهذا الذي أوقفنا عليه النص أيضاً، وحين دوى في الوجود كله قول نبينا محمد صلى الله عليه وسلم:

أتشفع في حد من حدود الله؟! يا أسامة!!!

وإذ وكأني به ﷺ يقول: وقد فتشوا! فلم يجدوا سواك يا أسامة! يا حب بن حب رسول الله ﷺ ؟!

وذلك أن الاختبار الأولي ليكون عند حد واحد!! ومن بعدها تسقط الحدود، في تتابع، لا يمكن وقفه، وفي تهاو للدين، ليس يمكن صده، ولا إمكان من رد زحفه! ولو بكل قوة ممكنة، وإذ لا قوة عندها، ولأن القيم قد انهارت، ولأن العقيدة قد خارت، وسقطت ووقعت وهوت من علٍ!!!

بيد أن الربط النبوي الكريم، وبين كونه حدا من حدود الله تعالى، قد كان أمعن في البيان، وقد كان أسمى في النكران!! وذلك لأن القائد الحكيم، هو ذلك الذي يسند أمور المجتمع المسلم كله، وعلى أساس من تعظيم شعائر الله تعالى، ولأنه تعالى قال ﴿ ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾[الحج: 32].

وليس يمكن أن أعظم شعائر الله تعالى، وإلا حين يكون الربط وبينها وبين السلطة العليا، التي أصدرت الحكم والقانون!

وليس يمكن أن ينال القانون قداسته، وإلا حين تكون العلاقة قائمة متينة حصينة بينه وبين السلطة التي أصدرته، وليس يمكن تخيل، ولو من ثقب ولو كان خفيا أيضا، أن يُرْعَبَ الناس، ولا أن يُحْمَلُوا على تنفيذ القانون، إلا باستحضارهم لهذه السلطة العليا!! وليس ثمت سلطة عليا يمكن أن تعمل في القلوب عملها، وبمثل، أو قريبا من سلطان الله تعالى الحق المبين سبحانه!!!

ولذا كانت هذه الألمعية النبوية في البيان، ومرة أخرى، وحين ربط الناس بوشائج التقوى، وبينهم وبين الله تعالى الخالق العظيم سبحانه، وهنا- وفقط هنا- يؤتي القول أكله، ويثمر الحديث ثمره وينعه!!

وأما حين يكون الربط بين النظام العام والآداب! وهكذا في ضعة، ودغدغة للمشاعر، وأي نظام عام؟! وهذا الرب القدير المتعال، رافع السماء وسمكها، وباسط الأرض وطولها وعرضها، وإذ كان يمكن الربط بسلطانه أقوم، وبتحديد دقيق لسلطانه في القلوب أعظم، وإذ كان أدعى وأقرب وأحكم، وحينها حدثونا عن وقعة واحدة! ويمكن من خلالها أن نقف ولو على استهتار واحد بحدوده تعالى، وعلى مثل هذا الوجه الذي تتفطر أمامه القلوب، وعلى شاكلة هذا الوضع الذي تدمع من هوله الأبصار والمقل والعيون!

هذا النظام العام والآداب الفضفاضي! إن هو إلا عمل هلامي! وإن هو إلا رسم طلسمي! لا يسمن ولا يغني من جوع! وحين يكون مصادما ولو قيد أنملة للنظام العام والآداب القرآني الرباني الإلهي! وأمام سلطان الله تعالى العلي الأعلى سبحانه!!

هذا النظام العام الهلامي! هو الذي أفرز مجتمعا هلاميا مثله! وهو الذي أنتح جمعا غفيرا، وازدحاما مريرا، أمام ساحات المحاكم والقضاء، القائم على هزال القانون، الذي أفرزه هذا النظام العام!! وإذ لا يكاد يحكم القاضي بحكمه، من بابه، إلا وليعود المحكوم عليه يومه التالي ومن شباكه! ومرة أخرى، ومرات، في استهتار أليم، وفي رجوع مريب، وفي تعد معيب، ولو في نفس الصورة، ولو في صورة واحدة! بل صور أخرى! ولو في نفس الشخص، أو في أشخاص كُثُرٍ، كُثْرَ هذه المجتمعات الغفيرة، وقد تراها وقد تركت ما خولها ربها ومن وراء ظهورها!!! وفي تنكب كان عارا وفي استهتارا كان نتاجه دمارا خسارا، ومجتمعا هزالا هزالا، وإذ ليس يكاد إلا منحنيا، وأمام رياح النسيم العليلة، وإذ فما بالك يوم قصفت ريح أليمة؟!

وهذا هو مطلق العدل الرباني، وهذا هو عموم القسطاس المستقيم، الإلهي، وحين وقف رأس الأمة، وقائد عدلها، وأمير قسطاسها- المستقيم- وجه محاولات النيل من قدسية عدله وقضائه، اللذين عليهما قامت السماوات والأرض، وإذ كان يعلم ﷺ أن النيل من هذا العدل، ولو من كَسُمِّ الخياط، إن هو إلا إسقاط لمعالم التوحيد، الذي جاء به، ولأنه من ألف بائه، ولأنه من أول سطر في ابتدائه! هو ذلكم المجد في عدله، وهو ذلكم العدل في حكمه، منارة توحيد الرحمن، والعقيدة الصافية في ربه الديان سبحانه وتعالى، وأن الله تعالى قد أمر، وبأمر ليس يقبل تأويلا، بل وليس يحمل من ذلكم التأويل غير الحق، ولو بصيصا من و كَسُمِّ الخياط أيضا، وحين قال الله تعالى﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾[النحل:90].

ويوم كان الربط بين ذلكم العدل وبين مكارم الأخلاق، ومن لدن رجل كان منصفا، وحين سمع التنزيل الحكيم، والذكر المبين، آنف الذكر، وإذ لم يجد إلا أن يقول أكثم بن صيفي: إني أراه يأمر بمكارم الأخلاق وينهى عن ملائمها، ثم قال لقومه: كونوا في هذا الأمر رؤوسا ولا تكونوا فيه أذنابا، وكونوا فيه أولا ولا تكونوا فيه آخرا.[].[فتح القدير، الشوكاني: ج ٣/١٨٩]! 

ودلك على صحة مذهبنا هذا ما رواه الإمام البخاري رحمه الله تعالى عن ابن شهاب أخبرني عروة بن الزبير أنَّ امْرَأَةً سَرَقَتْ في عَهْدِ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في غَزْوَةِ الفَتْحِ، فَفَزِعَ قَوْمُها إلى أُسامَةَ بنِ زَيْدٍ يَسْتَشْفِعُونَهُ، قالَ عُرْوَةُ: فَلَمَّا كَلَّمَهُ أُسامَةُ فيها، تَلَوَّنَ وجْهُ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقالَ: أتُكَلِّمُنِي في حَدٍّ مِن حُدُودِ اللَّهِ؟! قالَ أُسامَةُ: اسْتَغْفِرْ لي يا رَسولَ اللَّهِ، فَلَمَّا كانَ العَشِيُّ قامَ رَسولُ اللَّهِ خَطِيبًا، فأثْنَى علَى اللَّهِ بما هو أهْلُهُ، ثُمَّ قالَ: أمَّا بَعْدُ؛ فإنَّما أهْلَكَ النَّاسَ قَبْلَكُمْ: أنَّهُمْ كانُوا إذا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وإذا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أقامُوا عليه الحَدَّ، والذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ، لو أنَّ فاطِمَةَ بنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ، لَقَطَعْتُ يَدَها. ثُمَّ أمَرَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بتِلْكَ المَرْأَةِ، فَقُطِعَتْ يَدُها، فَحَسُنَتْ تَوْبَتُها بَعْدَ ذلكَ وتَزَوَّجَتْ. قالَتْ عائِشَةُ: فَكانَتْ تَأْتي بَعْدَ ذلكَ فأرْفَعُ حاجَتَها إلى رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ[].[صحيح البخاري: 4304].