"إنَّ التمييز بين الفضيلة والرذيلة لا يمكن أن يبحث في الدرجة التي فيها يتَّبِع المرء قواعد معيَّنة، بل يجب بالأحرى أن تُبحث الفضيلة فقط بكيفية خاصة للقواعد، أي في علاقتها بالقانون. بعبارة أخرى إنَّ المبدأ المعروف جيِّدًا (مبدأ أرسطو) إن الفضيلة وسط بين رذيلتيْن مبدأ كاذب" (كانط، المعنوي الفيزيائي، الطبعة الإنجليزية – 1996م، ص: 203).
على هامش قراءة ماركيز لجريدته اليومية الصادرة بالإنجليزية – المستقلة – طبعا على صفحات النت، قرأ هذا الأستاذ بالصدفة هذه العبارة التي استهلَّ بها أحد كتَّاب أعمدة الرأي في هذه الجريدة العريقة مقاله، فانتبه إلى أنَّ الكاتِب يعرِّجُ على "الكلب" كانط ليصل إلى "العاق" أرسطو، مشيرا بواسطتهما إلى نواة الأزمة الحداثية التي تعيشها الحداثة التي صدَّع رؤوسنا وأهلك عقولنا الإعلام بالترويج لمميزاتها، التي تَعِدُ ضعاف النفوس مِن القراصنة بجنَّة على الأرض، تجعل الفقير سعيدا والثريَّ يعيش فوق بساط السندباد الساحر.
تلتقي فكرة الفضيلة لدى ماركيز بأفكار الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمان حول الأخلاق، فالفضيلة في هذا السياق هي الأخلاق كما عبَّر عنها ستيفن كوفي على أنَّها مبادئ وأفكار لا تحتاج إلى برهان وصالحة لكلِّ زمان ومكان، ويضيف ماركيز على هذا أنَّ الفضيلة هي ما تطابق مع تلك الراحة النفسية التي تسري في الروح الإنساني عند قيام أحد أبناء البشرية بإنجازها طوعًا.
لطالما كان ماركيز حياديًا، لكنَّه في حالات تحقيق الفضائل على أرض الواقع لا يكون حياديا أبدا، ومستحيل – إن كان هناك مستحيل – أن يكون السيِّد ماركيز على الهامش عندما تحلُّ ساعة إبداء آرائه في القضايا الأخلاقية الكُبرى، مع احتفاظه بالقليل مِن وسطيته المعهودة عندما يحاول الاتصاف بالقليل مِن الانصاف عبر الاتكاء على بعض الجوانب الإنسانية فيه.
تمرُّ المنظومة الغربية كما سبق وأشرنا بأزمة الحداثة (modernity crisis) التي انقلبت على أهلها بتجريد الإنسان مِن إنسانيته، بل وإيقاعه بشكل مدروس ومخطط له في حُفَرٍ وجودية لا سبيل لتخطيها إلاَّ بالعودة إلى روحانيات الديانات على اختلافها، خاصة السماوية منها، بهذا المعنى فإنَّ الفضيلة التي تنبع مِن القيم الدينية والنصوص المقدَّسَة هي المرجعية الآمنة لروح ماركيز وإخوته مِن أبناء الإنسانية، ولكن! تلك العودة إلى الديانات معناه في المجتمعات الكاثوليكية على سبيل المثال لا الحصر، عودة إلى تسليم مفاتيح السلطات الأرضية مِن طرف أصنام المال والأعمال لتماثيل القساوسة والرهبان، وهنا تكمُن المشكلة التي تتعاظم بشكل مستفزٍّ لضمير ماركيز ورفقائه مِن النبلاء.
ليست صدفة أن يحكم ألمانيا حزب ديني يرفع شعارات المسيحية ليؤسس لمنظومة جرمانية اجتماعية وثقافية مبنية على مبدأ "التكافل" الاقتصادي، في تناقض صريح لأهم أركان الحداثة الأوربية ألا وهو الرأسمالية، وليست ضربة حظ أن تحاول الدول "اللبرالية" مثل فرنسا، إيطاليا، اسبانيا والبرتغال إعادة إحياء المبادئ الرومانية القديمة عبر إنشاء والتعصُّب في التمسك بهذا الاتحاد الأوربي من أجل العودة إلى الهيبة المعنوية التي كانت توفرها المظلة لاتينية العريقة، ولا هو مشروع عشوائي سير بريطانيا على خطى جماعة "المطهرين" البروتستانتية عبر فك الارتباط بأوربا القديمة، كلُّ هذا في اعتقاد ماركيز محاولات لصد ارتدادات الحداثة الحيوانية قصد الإبقاء على بعض بقايا أنقاض الفضيلة الشرقية التي تبنتها أوربا في صورة أثينا القديمة.
لم تشهد البشرية وبالا على الفضيلة ومن خلفها الإنسانية كلّها مثلما شهدته في زمن الحداثة بدءً من الثورات الأوربية ضد الديانة المسيحية بتبرير اقتلاع ظلم رجال الكنائس، إرضاء لثلَّة مِن المتعطشين للسلطات، هؤلاء الذين عملوا على البقاء في سدَّة الحكم وتعزيزه عبر نشر العبودية بواسطة شعارات العولمة في كافة أقاصي الأرض، متناسين بأنَّ الضمير لا يُمكن تزويره، فهو فطرة إلهية تقود بنور الكلمات الإنسانية نحو الفضيلة في كافة الأزمان والأوطان.
تنهَّد ماركيز بعمق، ثمَّ أغلق حاسوبه، وأطلق لعيونه الجميلة العنان نحو نافذة غرفته المطلة على السلالم، وهو مرتاح البال، لأنَّه يؤمن بما جاء على يد الأنبياء، النبلاء وحتى الفلاسفة والحكماء، هو مؤمن بالإنسانية على طريقة كونفوشيوس وتشي جيفارا.