جلس إلى طاولة احدى مقاهي بلدته الصغيرة، لفح جبهته تيار جليدي قارس، هو موسم أعياد الميلاد، الكاتدرائية الرئيسية العتيقة في البلدة مزيَّنة بأبهى الأنوار والشراشف، كبقية الكنائس المتناثرة هنا وهناك، أشعل ماركيز سيجارة، ارتشف بعض الشاي على الطريقة الإنجليزية العريقة، قبل أن يفكِّر في مدى استعمال القرصان للمنطق، حيث هناك الكثير من التصرفات، بل معظمها لا يخضع لأبسط القواعد المنطقية في بساطتها التقليدية، وهذا ما جعل ماركيز يحاول التعمق في التفكير بشكل جاد.

يقول كانط: "اختصاص المنطق بالقواعد الصورية للتفكير بشكل عام جعله يسلك درب العِلم الآمن منذ قديم الزمان، كما يتَّضح أنَّه لم يكن ليتراجع خطوة واحدة منذ أرسطو" (كانط، نقد العقل المحض – النسخة الألمانية، ص: 84).

ليس هناكَ منطق في حياة القراصنة، فمنذ ولادة القرصان تجده يتعلَّم كيف يكون فوضويا خلال أيَّامه، فيلقي بكلِّ القواعد التنظيمية – المنطقية في أقرب سلَّة للنفايات، حيث أنَّ الطلاق واضح المعالم بين ذهن القرصان والمنطق.

منذ الطفولة يعمل القرصان على تفادي التفكير، حتى أنَّه يقمع الرغبة الفطرية الموجودة في عمق كلِّ "إنسان" لمحاولة مطابقة الواقع بالفكر، وهي عملية تساعد على ترسيخها كافة ما يحيط بالقرصان، مِن ثقافة الكراهية ونبذ كلِّ ما له صلة بالتفكير باعتبار الفكر والأفكار لا يطعمان الإنسان خُبزا، حسب الأعراف الشعبية على الجنَّة ما وراء البحر، وحتى وصولا إلى الأروقة الأكاديمية التي تشبه زريبة الوحوش الأليفة، لهذا فإنَّ المنطق حتى ولو كان أرسطي يُعتبَر غريبا تماما على هذه الأوساط؛ ومَن يرفض التنازل عن عمل عقله السليم مِن أبناء القراصنة عليه أن يترك هذه الأرض أو يعيش على هامش الحياة الثقافية والفنية.

أرض القراصنة لا تعترف سوى بالأشباه، أشباه المعلمين، أشباه الأطباء، أشباه الرياضيين، أشباه المفكرين، أشباه الكتَّاب وأشباه الفنانين.... الخ؛ لأنَّها تدرَّجت مِن عالَم الرداءة في القرن الماضي – القرن العشرين، لتسقط في عالَم التفاهة السخيفة في القرن الواحد والعشرين، ولكي تكون قرصانا صالحا وله مكانة محورية في "مجتمع" القراصنة، عليكَ أن تكون تافها سخيفا وساذجا، وهذا بالطبيعة والضرورة والحتمية منافي لأبسط قواعد المنطق الأرسطي في صوره القاعدية، ألا وهي: مطابقة الفكر مع التفكير (نفسه).

أوصل الغضب الأستاذ ماركيز إلى أن انزلق من يديه كوب الشاي، فسقطت على سرواله الأزرق الجميل بعض قطراته الساخنة، اندفع جانبا محاولا أن ينادي العامل في تلك المقهى حتى يقدِّمَ له المساعدة، لكنَّه تذكَّر ثانية بأنَّه يعيش على أرض لا تعترف بالمنطق وتعتبر المناطقة أناسا مجانين، لهذا قرر أن يتعامل مع الموقف بمفرده، فاتحا محفظته ومخرجا منها احدى قصاصات الورق التي يستعملها عادة لكتابة بعض الملاحظات العاجلة، وضعها على الشاي المنثور على الطاولة، بعدها سحب كرسيَّه إلى الخلف وراح يتأمَّل منظر الغروب الذي أرخى شفقه الأحمر على البلدة بأكملها.

لقد حمل الغزاة والمحتلون كلَّ شيء إلى أرض القراصنة، بينما حاربوا فيها التفكير بشكل لا مجال للتسامح فيه، وبعد استقلال هذه الأرض عن الحُكم الأوربي التعسفي والمجرم، أكمَل لقطاء الكولون المهمة، فجعلوا كلَّ الموبقات الاجتماعية حلالا زلالا في أعراف القراصنة إلاَّ إنتاج الفكرة الجديدة والأصيلة، هي الحرام والممنوع المطلق، تستطيع المحاكم على الجنَّة ما وراء البحر أن تغفر للتاجر الفاجر، الفاتنة القاتلة، السارق الهمام، ولكنَّها لا تغفر أبدا ومطلقا للمفكِّر النبيل الذي يعمل على رفعة هؤلاء القوم بكلِّ ما له من قوى وقدرات عقلية، بل تحاربه بكافة الوسائل، وأوَّلها وأهمها الدعاية السلبية وإلصاق الإشاعات المغرضة بشخصه، لهذا عزيزي القارئ، أنصحكَ بأن تأخذ بقاعدة ماركيز الذهبية قبل دخولكَ أرض القراصنة: اُترك عقلكَ – منطقكَ على الوسادة صباحا قبل الخروج من البيت.