"لستُ أرى ما يدعو إلى أن نضع للأمناء من الناس قواعد يسلكون تبعا لها في هذه الأمور؛ إذ أنَّ بوسع هؤلاء أن يهتدوا من تلقاء أنفسهم إلى معظمه" (أفلاطون، الجمهورية، طبعة 1985م، ص: 302 – الفقرة 425).


احتار ماركيز في تصرفات القراصنة عندما لاحظ بأنَّ ما يقولونه يناقض ما يقومون به واقعا، فراح يبحث في مكتبته عمَّا يشرح له هذه الحالة التي بدت له فريدة مِن نوعها، في "مجتمع" لطالما تشدَّق بالأخلاق والفحولة، بل ورفع مِن القِيَم عاليا بين الصغير مثلما رفعها بين الكبير، حتى صارت هذه التعاليم دساتير مِن خزائن الأعراف يحاول المرء الأخذ بها عندما يخضع لامتحان خارق لقدراته الذاتية في الحياة.

بدأ ماركيز في حلِّ هذه الإشكالية من الكلب "كانط" ليقوده هذا الأخير إلى الراهب أفلاطون، وبالفعل وبعد نبش الآثار المكتوبة لمصمم الأكاديمية، وجد أنَّ الفعل المخالف للقول موجود في العوالِم البشرية، حتى أنَّها تكتسب الصفة الطبيعية في وجودها ضمن هذا المضمون، وبهذا السَّقف المعرفي الذي لم يصبح خاصا أبدا، بعد تماس الراهب أفلاطون بما هو سائد في أسواق أثينا.

لا تختلف تلك الأسواق القديمة عن أسواق وتجمُّعات القراصنة المعاصرين، فالأقوال هي بمثابة الأوهام، والأفعال لا تزال ترتكن إلى حيثيات الزمان والمكان وحتى الحضور ونوعية الجمهور، وإن كانت في عوالِم سريَّة، فإنَّنا سنجدها تتكلَّم بألسن غريبة، تُعلي مكانة الأنانية والانتهازية وحتى المكر وعشق الذات أكثر من غيرها من المبادئ والصفات.

في القاموس الذي ينهل منه المسلمون يُعتبر عدم تطابق الفعل للوعد أو القول ضربا من ضروب النفاق، فلا يُؤخذ بشهادات أصحابه ولا يُعترف بفضلهم حتى ولو حصل أو كان حاصلا أو حصيلة في أقوامهم، على سبيل القيام بإبراز ما يقومون به على أنَّه سوء تدبير ونوع من التخدير الذي يصيب الخيول يوم الفَصل.

ما دفع ماركيز إلى التنقيب عن هذه المواصفات هي معايشته لأحد المواقف، بحيث كان بطلها ينمِّق كلامه بما لذَّ وطاب من جميل الأقوال، بينما أفعاله على سبيل المثال لا الحصر، معظمها تناقض ما قاله، حيث تغلب لذّة كسر الآخرين وتخريب حيواتهم على دعواته الواهمة المخدرة للجماهير – حسب رأيه – وهي حالة لاحظها الأستاذ ماركيز عن قرب وعلى مسافة الصفر أحيانا.

لعبة تغيير الأوجه حسب تغيُّر المواقف، واللعب على أوتار المصالح حسب الظروف ومدى تقدير الفوائد على حساب الجماعة أو المجموعة، أضرارها أكثر من منافعها بصورة تكاد تكون مطلقة، وأولى الخسائر هي فقدان الثقة من المحيطين بهذا الأناني/الانتهازي بحيث بمجرَّد تكشُّف خدعه ومكره يجد نفسه كرأس حَرْبَة تنهال عليه كافة صور ازدراء العالمين.

ما يحرِّك كلَّ هذا هو ما نطلق عليه لقب: النرجسية، في محاولة للظفر بما لا يستحقه المرء إرضاء لغرور كامن، يجتهد صاحبه في إخفائه دون جدوى، فيزيد في منسوب غبائه حتى دون تفطنه لما يفعل؛ وبذلك تتضح الصورة الشاملة، وينكشف المستور، ويظهر في أعين الناس كتمثال تظهر عورته من بعيد للأعمى قبل غيره.

يرى الراهب أفلاطون بأنَّ الإنسان الأمين لا يمكنه أن ينتظر أيًّا كان ليخبره عن الطريقة التي يتَّبعها لأجل مطابقة القول بالفعل، كما أنَّه يرى بأنَّ الإنسان بطبيعته الأوَّلية الصافية، قادر على وصف ما يقوم به ببساطة وبكلمات بدائية جدا، تجعله يتفادى بشكل صريح ما يُظهِره بثوب الكاذب أو المنافق، وهي ميزة تولد معَ الفرد، وتنمو في ظلِّ التربية التي يتلقاها، حتى تصبح مرجعية يستند عليها في امتحانات الحياة التي تجعله أكثر يقينا بما يقوم به، وبلا حرج أبدا.