اعتاد ماركيز على زيارة الكنيسة في أيَّام الآحاد، لهذا هو يستعد اليوم لأداء هذه الطقوس التي لطالما أرهقته جسميا ومعنويا، فقد ورث هذه الديانة – المسيحية – عن أبيه، الذي مات وهو مؤمن بما يحمله من تعاليم، وقد أدَّى كافة العبادات والصلوات حتى آخر رمق من حياته التي امتدَّت لعشرات السنين؛ ماركيز! هذا الابن العاق لأبيه، المتمرِّد عليه وعلى أفكاره كما أسلوبه في الحياة، لا يزال حتى اليوم محافظا على ما ورثه من تعاليم عن هذا الأب المؤمن إيمانا لا نظير له.
استحم، لبس بذلة رمادية اللون، وضع الكثير من العطور الفرنسية الصنع، فالأستاذ ماركيز لا يقبل من باريس سوى عطورها القوية، ثم ارتدى قبعته قبل أن يسير باتجاه الكنيسة التي صارت كاتدرائية بفضل المؤمنين الذين ينافقون الآلهة علنا ويشتمونها سرا وعلنا أحيانا، لكن فيما يتعلَّق ببناء دور العبادة وزخرفتها، تجد هؤلاء المنافقين، هُم أوَّل من يسارع إلى العناية بهذه المؤسسات التي تخدِّر المسيحيين كما تفعل المخدرات بعقول الشباب هذه الأيَّام.
وصل ماركيز إلى الكنيسة متأخرا على غير عادته، وجلس في آخر الصفوف بين حشد من المنصتين لما يقوله الكاردينال المشرف على الصلاة، حيث دارت موعظته حول تجريم أفعال القتل في المجتمع، وراح يسترسل في تمجيد أفعال التسامح والمسامحة، التصالح والمصالحة بين البشر، وهي صفات نجدها بين دفات كافة الكتب الدينية، لكنها غير موجودة بين قواميس تصرفات البشر أينما حلوا، هكذا خاطب ماركيز عمقه بصوت ينصح بعدم المبالاة بما يقوله الموظف الحكومي الذي يدفع أجرته الحبر الأعظم.
بعد انقضاء موعد الصلاة، خرج ماركيز من الكنيسة متثاقلا ومتأخرا أيضا بعدما غادرت الحشود المنافقة ذلك المكان المقدَّس، وقصد بعدها حانة الخشب، أين احتسى نصف زجاجة من مشروبه المفضل "الويسكي" حتى شعر بركبتيْه تشتعلان، وحرارة وجنتيْن تكاد تشنقه، بينما سال عرق بارد جليدي على منتصف ظهره، فأيقظ بداخله هواجس المراهقة التي لا تزال حيَّة في بئره الروحي الخفيّ، أحسَّ بتلك الرعشة التي تزور جسمه في هكذا مواقف، فحاول تفادي ما ينتج عنها من أفكار بإشعال إحدى سجائره بشكل مفاجئ.
سأل ماركيز نفسه في خضم حديث بدا وكأنَّه لا ينتهِ: كيف يصبح الشريف نذلا؟
فكَّر لوقت لا بأس به بعدما ارتشف المزيد من الويسكي، قبل أن يركن إلى إجابة مبدئية: الظروف؛ ظروف الحياة القاسية هي التي تدفع الفرد نحو النذالة عنوة، هي نتيجة إجبار وإكراه، وليست طريقا يختارها النبلاء أبدا.
لكنَّه تذكَّر بأنَّ هذه الظروف القاسية هي التي جعلت من بعض الناس عُبَّادًا ورهبانا، هي التي أخرجت للإنسانية نجوما ومشاهيرا، هي التي صنعت للعالَم عباقرة وفنانين، فقد كان هتلر فقيرا في صغره، وكان سقراط يعاني من غطرسة زوجته، وكان مكيافيلي مطاردا منفيا قبل أن يكتب الأمير، وكان غارسيا غابرييل يأكل الخبز الحافي في ضواحي باريس قبل أن يكتب تحفه الروائية، وكان المسيح عليه السلام نجارا.... الخ؛ إذن الظروف القاسية قد تصنع من الخبيث نبيلا، لهذا لا يمكن أن نلوم الظروف وقسوتها دائما!
تجرَّع بعض الويسكي، استنشق دفعة من الدخان الأوربي، قبل أن يحاول الإجابة ثانية عن سؤال علاقة النذالة بالحياة؟
لابد وأنَّ النذل شخصٌ مريض نفسيا، سقط من مسبحة فرويد وجون ديوي، وراح يحاول الانتقام من الناس مثل الضبع، الذي يعيش بين الأسود حتى تصل هذه الأخيرة إلى سنِّ العَجْز، ليقوم بالغدر بها وافتراسها، يستطيع مَن هو من صنف ماركيز أن يعاشر كافة أصناف البشر وأنواعهم، لكنَّه لا يستطيع أن يعيش مع الأنذال والضباع.
أراد ماركيز شرب المزيد من الويسكي، لكنَّ زجاجته قد نفذت دون دراية منه، فقد كان نذلا في حقها كما تبادر إلى ما بقي من عقله الفلسفي، نهض متثاقلا، وخرج من الحانة باحثا في ذلك الجوِّ البارد عن سيارة أجرة توصله إلى بيته، فلم يجد، لهذا اضطرَّ إلى السير على طول الطريق، وهو يردِّد: النَّذل قد يعيش طويلا، لكنَّه سيعيش حقيرا.