رَنَّ هاتف صوفيا باكرا هذا اليوم، فاستيقظت من نومها على عجل، وعندما شاهدت رقم أخيها على شاشة الهاتف، زاد اضطرابها، دون وعي منها فتحت الخط:
- صوفيا، مرحبا!
- أهلا! كيف حالك وحال الجميع؟
- نحن بخير، كلُّ الأمور تسير على ما يرام، وكيف حالكِ أنتِ؟
- أنا بخير!
- لم نراكِ منذ زمن بعيد، لهذا أردت إعلامك بالجديد
قاطعته بلهفة؛
- وما الجديد عندكم؟
- إنها أمي
- ما بها أمي؟ هيا تكلم بلا مقدمات
- هي مريضة قليلا، تشتدُّ عليها الحمى ليلا، ومنذ أيام وهي لا تردد سوى اسمك، هي ترغب برؤيتك
- آهااااا، سأكون عندكم مساء
وقبل أن يتمكن الأخ من إتمام حديثه، قامت صوفيا بإغلاق الخط في وجهه، وقررت زيارة بيت العائلة ذلك اليوم بالتحديد.
بينما هي تجمع أشياءها لتستعد للسفر، كون أنَّ عاصمة بلاد القراصنة تبعد بعشرات الكيلومترات عن مدينتها التي احتضنت صغرها والمراهقة التي كانت مميزة بالنسبة لها، تذكَّرت أمها، المرأة التي عملت بجهد حاملة أعباء فوق طاقتها لسنوات، ولم تبخل عليها بأيِّ شيء في سبيل إيصالها إلى ما هي عليه اليوم، صوفيا المرأة القوية والمقاتلة العنيدة في سبيل نيل مرادها من الحياة.
أخذت حماما بسرعة، ارتدت ثيابها، لم تكترث لعدم وضع مساحيق التجميل، بل إنها اكتفت بالقليل منها لجعل مظهرها يبدو مقبولا، ثم نزلت من شقتها باتجاه الشارع بحثا عن سيارة أجرة، وهذا ما تمَّ قبل أن تستقل الطائرة بحجز احتياطي، وها هي الآن تحلق عاليا.
بعد ساعة كاملة من الزمن، حطت الطائرة على مطار تلك المدينة النائية الصامتة، ذات الأسرار العميقة، وبعد المعاملات الإدارية الملتوية والمرهقة، تمكنت من شق طريقها نحو البيت العائلي، ولكنَّها بقيت على طول الطريق تحدِّقُ في بنايات مدينة طفولتها، فعلا! لا شيء تغيَّر فيها، وكأنها لم تغادرها أبدا، رغم أنَّها قد تركتها منذ ما يتجاوز العشر سنوات، منذ آخر زيارة لها للبيت، والتي انتهت بشجار مع كبير إخوتها، لترحل وهي عازمة على عدم العودة مهما تكن الظروف، لكن، صوت أخيها الصغير، وهو يخبرها بحالة أمها المزرية على الهاتف، هذا الصوتُ الطفولي الذي يحمل بين ثناياه الكثير من البراءة والحنين، جعلها تعقد العزم على كسر تلك العزيمة التي جعلتها تبقى بعيدة عن موطنها الأوَّل لسنوات، حتى دون أن تفتنها الذكريات، أو تشدها الأشواق إلى ربوع طفولتها الرقيقة، التي ذابت كأجنحة عباس بن فرناس يوم حاول الطيران، مبقية على أحلام لطالما كانت ملجأ قبل أن تكون مولدات أمل.
وصلت إلى بيتها الذي رأته أوَّل مرة بعد ولادتها مباشرة، والذي شهد أولى صرخاتها، أولى ضحكاتها وأولى خطواتها على طريق الحياة، وقفت للحظة وهي تتأمَّل الباب الذي صار لونه يتخذ من السواد عنوانا، ثم جالت بعيونها البنيتيْن عبر كافة ما يحيط بها، بينما كان سائق سيارة الأجرة ينزل أغراضها عن السيارة، سلمته أجرته، وأكملت تأملاتها، قبل أن تدقَّ الباب وهي ترتجف من الحنين، فقد غمرتها مشاعر مختلطة، هي لا تحب هذا البيت، لأنَّه شهد أهمَّ وأكبر مآسيها، ولهذا السبب تركته، غير مأسوف عليه رحلت عنه، ولكنها من جهة مقابلة، هي ترغب بدخوله والبقاء بين جدرانه ما بقي لها من أيام على قيد الحياة، فُتِح الباب وإذا بشيخ هرم يقول: مَن أنتِ يا ابنتي؟
- أنا صوفيا، جئت أطمئن على أمي...
- صوفيا؟؟
وشرع الشيخ في البكاء بكاء يجعل الشمس تنسحب من السماء، الحجر يتفتت حتى يصبح رملا والأموات يصرخون في حضرة الأحياء: كم أنتم قساة القلوب يا بني البشر!! قساة للغاية.