إن أحداث التاريخ متعلقة بعضها ببعض، ومنه مطالبته صلى الله عليه وسلم يهودَ بني النضير دِيَةَ رجلين قتلهما الصحابي عمرو بن أمية الضمري العامري، لحلف كان بين بني عامر ويهود.
وإذ مكرت يهود بني النضير بنبينا صلى الله عليه وسلم، حين طالبها بدية ذين الرجلين الذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري، وبمقتضى ذلكم العهد الذي كان مبرمًا بينهما، ورأتها فرصة لقتله صلى الله عليه وسلم، فهو برهان عمل نقض عهدهم فيهم أبدًا.
إن يهودَ هكذا جِبلتهم، لا تنهض تستريح إلا بنقضٍ، وإن طبيعتهم لا تستكين إلا بكيد، وخبيئتهم لا تطمئن إلا بخلف، وحين أجمعت أمرها لقتله صلى الله عليه وسلم!
إن يهودَ ومن رحمته تعالى أن كانوا عددًا قليلًا – ولا يزالون - لأن هذه القلة عاثت في أرضه تعالى فسادًا، ولربما كان من فعلهم ما يصير به مثل ماء المحيط مِلحًا، فما بالهم لو كانوا كثرة؟ فأي ماء كان سوف يصير من فعلهم ملحًا أجاجًا؟!
إن مسلمًا لا يُستراح له بال إلا بعفو وبذل وتجاوز وإحسان، وإن يهود لا يهدأ لها بال إلا بخلف ونقض وبغي وعدوان، وتبارك بارئ هذا! وسبحان خالق ذاك!
(نعم يا أبا القاسم نُعينك على ما أحببت مما استعنت بنا عليه)[1]؛ هذا رد يهود بني النضير عليه صلى الله عليه وسلم، وحين طالبهم بدية رجلين قتلهما عمرو بن أمية الضمري، لعهد بينهما، وإنما هم قد أخفوا أمرهم، ولا يعلمون أنه تعالى كاشفُ سرِّهم ونجواهم ومخزيهم معًا.
إن قلبًا متصلًا بالله تعالى ما كان لله ليذره، وما بالنا بنبينا صلى الله عليه وسلم؟! وحين أطلعه تعالى على كيد يهود بني النضير به، أو كيد غيرهم أيضًا، وإذ إنه تعالى مانع نبيه صلى الله عليه وسلم، ولكنه الشَّطط حين يملي لصاحبه أضغاث أحلام، تكون بيئة ملائمة لإسقاطه في مستنقع كيده، ومن ثَم َّيكون هلاكه به، والله المستعان.
إن غشاوة وضعها بنو النضير على أعينهم، وكيما تستميت جاهدة استغفال أنفسها، لا غيرها! أنه تعالى ليس مانعًا نبيه منهم، أو من غيرهم، وهكذا يؤدي بهم خداعهم أنفسهم، ولينفذ أمره تعالى فيهم، إجلاء وذلًّا وخَسارًا، وإذ ها هم يجرون أذيال خيبتهم معهم، وليكون تطهير المدينة منهم، ومن رجسهم معًا!
﴿ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [التوبة: 42]: هذا نص القرآن فيمن يتطاول على منهجه تعالى، وهذا برهان وضع أحدنا يده على ذات فؤاده، وليشمر عن ساعدي جدِّ إخلاصه لله تعالى وخشيته.
من ذا الذي تغيب له خافية عن مولاه تعالى؟ وحتى ذهبت ببني النضير الأمانيُّ، وأنه تعالى لا يعلم ما تكِنُّ صدورهم ببغض نبينا صلى الله عليه وسلم، وما يعلنون طاعته في دية القتيلين؟!
مفارقة (1):وإذ قالت يهود: (نعم يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت مما استعنت بنا عليه)[2]، هذا وجه يهود الأول، وإذ قالت يهود أيضًا: (فمن رجل يعلو على هذا البيت فيُلقي عليه صخرة ويريحنا منه؟)[3]، وهذا وجههم الآخر، فخرجوا لنا بوجهين مختلفين، ولسانين متباينين، وفي مجلس واحد، وما تفرقوا عنه بعد، والله المستعان.
وإنه لا تنطلي خفية يزعمها ذو الوجهين، ولأن الله تعالى كاشف خبيئته، وانظر كيف كان صنيعه يوم فعلت ذلك بنو النضير، وليكونوا آية للعالمين، وإلى يوم الدين؟!
وإذ لو عقلت يهود، لدفعت دية العامرِيَّين! وإذ لو استيقظت لم تكن لتتعدى أصول المواثيق، وحين أمعنت في خطة قتل نبيٍّ جاءهم بالهدى ودين الحق، وليخرجهم من الظلمات إلى النور، ولأن ثمن نقضهم كان فادحًا، فأظهر الله سوأتهم، وحين حاولوا طمس خبيئتهم، وكأنما تنطلي عليه تعالى قريحتهم، وهكذا يزعمون، وفي غَيِّهم يعمهون، وهذا جهل بربٍّ قادر قهار، وإله غالب جبار، سبحانه!
وإنه لا مساغَ لاستدراكٍ عليه تعالى، وأنه لم خلق خلقًا كيهود، وإذ هي قريحتهم، ولأنه ابتلاء، كيما يتجدد في العالمين حركة دائبة، يتتبعونهم وراء كل جحر، دفنوا رؤوسهم فيه، وبه تتحقق سنة التدافع الربانية، والتي كانت من أخص خصائص حركة التاريخ في الكون، وفي التصور الإسلامي بوجه أخصَّ.
وليرجع عمرو بن جحاش بخُفِيِّ حُنين، وليردَّ الله كيده ويهود في نحورهم، وحين تنبئ السماء نبينا صلى الله عليه وسلم، أن قُمْ - يا رسول الله - من ها هنا مكانٍ، تُدَسُّ لك فيه سموم يهود وغيظهم!
أنا لذلك: هذا قول عمرو بن جحاش، وحين عرضت يهود من يقتل محمدًا! ثم تستل عناية ربنا نبيه صلى الله عليه وسلم من بينهم، وينقذه وينجيه، لينكفئوا جميعًا، خزايا حيارى، أمام تحدي السماء.
وإذ يقوم نبينا صلى الله عليه وسلم ناهضًا من مكان رجس يهود، ومن بين أيديهم، وها هو نبأ السماء، أنه تعالى أطلع نبيه صلى الله عليه وسلم على مكرهم، وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال!
وجه المسألة الأولى:وإذ أجمعت يهود غيظها إسقاط حجر على نبينا صلى الله عليه وسلم، وفي عقر دارهم، وبلا قيد مروءة، هي ألف باء التعامل البشري، وإذ جرت العادات حماية حِمى ضيف حلَّ، وذلك فضلًا عن إكرامه جائزته وضيافته.
مَنْ أسرَعُ؟! هذا سؤال لا محل له، وإذ خُيِّل ليهود أن تسابق زمنًا، خلقه رب الزمن، وليفحمهم حين يصعد أجيرُ عمرو بن جحاش بحجره، لتنزل السماء إخباره صلى الله عليه وسلم أمرها أن: قُمْ، وإنما تصحبك رعاية مولاك وحفظه، وإكلاؤه وعنايته، وإنما أنت رسوله، وإنما أنت نبيه، وإنما أنت صفيه!
مفارقة (2):وبَونٌ شاسع، وفرق واسع بين رؤيتين: رؤية عمرو ين جحاش وإذ غرته جهالته، وحين أعمى الله تعالى بصيرته، وأنه يمكنه نفاذ أمره، وبين أمر الله، وحين قال: أنا لذلك[4]، ورؤية سلام بن مشكم، وحين كان ذا عقل راجح - ولا يمنع – وإذ قال: لا تفعلوا، والله ليخبرنَّ بما هممتم به أنه لنقض للعهد الذي بيننا وبينه[5].
إنني وغيري ولا شك تغمرهم الدهشة كلها، وفي سائر معانيها ومراميها، ولِمَ لَمْ يُسلم عمرو بن جحاش، وحين رأَى رأْيَ عينِ أمِّ رأسه استلاله صلى الله عليه وسلم من بينهم سالمًا منصورًا، ولأن هذا فوق التصور البشري، وأن قدرة أخرى من ورائه كانت سبب الإنقاذ، مما شكل تحديًا، كان في حدِّ ذاته برهانًا على الإعجاز الرباني والتحدي الإلهي اللذين طالما رفرفا وهيمنا على سماء الموقف كله، تفردًا وقيمة وسلطانًا، وعظمة لله تعالى العلي الأعلى سبحانه!
وجه آخر للمسألة:وليس يمنع من خبر عمرو بن جحاش خبرًا آخر مقتضاه أن امرأة من يهود أخبرت أخاها، الذي كان يهوديًّا فأسلم، أنهم أجمعوا أمرهم لقتله صلى الله عليه وسلم، وحين ((أرسلوا إليه أن اخرج إلينا في ثلاثين من أصحابك، وليخرج منا ثلاثون حَبْرًا، فإن صدقوك وآمنوا بك، آمنا بك، فلما غدا عليهم في ثلاثين من أصحابه، قال بعضهم لبعض: كيف تخلصون إليه ومعه ثلاثون، كلٌّ يحب أن يموت قبله؟ فأرسلوا إليه أن اخرج في ثلاثة من أصحابك، ويلقاك ثلاثة من علمائنا، فإن آمنوا بك اتبعناك، ففعل، واشتملت اليهود الثلاثة على الخناجر، فأرسلت امرأة من بني النضير لأخٍ لها مسلم تُعلمه بذلك، فأعلم أخوها النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فرجع))[6].
إن الله تعالى الذي قال لنبيه موسى صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ﴾ [طه: 39]، وما كان ليهود، وإذ عرفت ذلك، أنه يمكنها نَيلٌ - ولو من ثقب - من نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أيضًا معصوم بأمر ربه؛ ولأنه تعالى قال: ﴿ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ [المائدة: 67]، وإنه لو كان قد نزل قول الله تعالى: ﴿ وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ﴾ [طه: 39] في غير موسى عليه السلام، لكان ليهود شبهُ عذر، وحين استغفلت أنفسها، وأنه يمكنها زعم - فقط زعم – نَيْلٍ - ولو ما أسمي في القاموس نيلًا - منه صلى الله عليه وسلم!
وعلى أي وجه كانت المسألة:فماذا هي قائلة يهود، وحين يخرج نبينا صلى الله عليه وسلم، من بين أيديهم سالمًا منصورًا، وإذ لم تمس شعرة واحدة منه؟! ولربما لو كان غيرها لأسلمت وجهها لله، وعن آخرها، لكنه الصرف والختم؛ وحين قال الله سبحانه: ﴿ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ﴾ [الأعراف: 146].
حين خذل ربُّنا تعالى يهود بخروجه صلى الله عليه وسلم من بين أيديهم سالمًا منصورًا، وليعلم الناس أنه لا تغني الآيات والنذر، ومن حيث كان علمه تعالى فيهم أنهم لا يؤمنون!
مفارقة (3):وإذ يرى عامر بن الطفيل العامري خبيب بن عدي شهيدًا، ترفعه الملائكة، وأمام عينه، وترى يهود استلاله صلى الله عليه وسلم من بين أيديهم سالمًا منصورًا، ولا يؤمن عامر! ولا تؤمن يهود!
إن يومًا أشبه البارحة، وحين توافق العامريون أحلاف يهود ومع يهود ألَّا يؤمنوا، ومن بعد الآيات والنذر: ﴿ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [يونس: 101]!
وإذ تصحب نبينا صلى الله عليه وسلم عنايةُ ربه تعالى، وإذ خرج من بين يهود سالمًا آمنًا، وكان يمكن تتبعه وظفر به، لكن ما يحكم معادلة بيننا وبين أغيار معاندين هو قول الله تعالى سبحانه: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ﴾ [يس: 9]، وإذ إن حرمان التوفيق إنما يتأتي، وحين يتقمص أحدهم ثوبًا ليس له، وحين يؤدي به طغيانه وكِبره أنه فوق مستوى المقدورات الربانية الحكيمة الكريمة، والتي لا يتسنَّى لأحدهم خروج عنها شيئًا، وفضلًا عن أن يكون خاضعًا لسلطانها، ومهيمنة عليه أجمعه، وكل حين!
نتيجة التآمر:
وإذ بعث نبينا صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة، يأمر يهود بالخروج من جواره وبلده، وحين هموا بقتله خيانة عظمى، ويقول أسلافهم: سنعود إلى المدينة، ولو كان غيرهم لاستحيَوا!
أي عَودٍ إلى المدينة يزعمه يهود، وهم أولاء الذين أخرجوا أنفسهم، بنقضهم عهدًا، ونبذهم وعدًا، وخلفهم عقدًا، وإجماعهم كذبًا، وبهتانهم زيفًا؟!
إنه لو عقلت يهود، لغارت بهم أرضهم من تحت أرجلهم خجلًا، ولانحاشوا من بلادهم، إلى حيث لا بلاد، فتتلقفهم طيور طاوية جائعة، وتفترسهم دواب جارحة، تقتات بلحومهم، ظامئة ترتوي بدمائهم.
وهكذا وبعد موافقة يهود على خروجهم من يثرب؛ تطهيرًا لها منهم، دبت فيهم داعية الخلف، وبسبب تحريض المرجفين، وما هم بمغنين عنهم شيئًا.
كان نبينا صلى الله عليه وسلم حليمًا مع يهود، حين حاصرهم، بعد خُلفهم وتآمرهم على مقام نبوته الكريم صلى الله عليه وسلم، وهذا فن عسكري: اسلك دروبًا عدة قبل رفع السلاح.
شبهة انتشار الإسلام بحد السيف:
إن قراءة الناس لتاريخنا مشوبة، وحين زعموا انتشار الإسلام بالسيف، وها هو نبينا صلى الله عليه وسلم، يحلُم بيهود، وإذ لم يفتك بهم ابتداء، رغم خيانة عظمى، تُجيز ضرب الرقاب، وإذ قد حاصرهم؛ للفتِّ في عضدهم، فيسلمون أو يستسلمون، أو يجلون أو يخرجون.
وإذ كان نبينا صلى الله عليه وسلم صابرًا غاية صبر نبي - فضلًا عن صبره صلى الله عليه وسلم - مع يهود، وحين أمر صلى الله عليه وسلم بإخراجهم، من بعد غدرهم، ولما حاصرهم؛ لدفْعِهم إلى النزول، ودون إراقة دماء، ما كان إلى ذلك سبيل!
مفارقة (4):إن مفارقة بين فعل يهود في فلسطين، وبين حلمه صلى الله عليه وسلم معهم، وإذ يداديهم ليخرجوا من يثرب سالمين، وبعد خيانة عظمى، سنَّت لها القوانين الدولية عقوبة الإعدام، وإذ كان حصاره صلى الله عليه وسلم يهود عملًا عسكريًّا ممتازًا؛ لأن فيه محاولة إجبار الخصم، نزولًا على الحق، دون إراقة دماء، وفيه قطع خطوط إمداده لذلك السبب نفسه، ويوم اللقاء إذا فُرض، فلا يلومن أحد حينها إلا نفسه!
وإذ حاصر نبينا صلى الله عليه وسلم يهود خمس عشرة ليلة كاملة، قطعًا لخطوط إمدادهم، ومحاولة إرغامهم أن يتوبوا، أو أن يخرجوا، وبأقل خسائر ممكنة للطرفين، وهذا فن عسكري أيضًا!
كان قطع نخيل يهود وتحريقه خيرًا، وبدل أن يقتلوا، وهذا فن عسكري باهر، إذ كلما أمكن حقن الدماء، فكل ما دونه يسير، ولا اعتبار لاعتراض الخصم هنا، ولأن كل خصم شديد الحساسية تجاه خصمه، وفيما يتخذه من إجراءات.
تأهيل ذوي الاحتياجات الخاصة:
ولا زال عبدالله بن أم مكتوم رضي الله تعالى عنه حاضرًا، إذ أمَّره صلى الله عليه وسلم على المدينة يوم بني النضير، وبعد إذ عاتبه ربه فيه، برهان جبرِ خواطرِ المنكسرين وتأهيلهم، عملًا إيجابيًّا حميدًا.
أثر الحصار على الخصم: يهود بني النضير نموذجًا:
وحقًّا قد عمل حصار يهود فيهم عمله، حتى سألوه صلى الله عليه وسلم أن يجليهم، ويتجاوز عن دمائهم، على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحَلْقة؛ أي: السلاح!
وإذ أجلى صلى الله عليه وسلم بني النضير، ودون سلاح، وفيه جواز نزع سلاح الخصم؛ لتجريده، وإضعاف شوكته، وهذا خير لطرفي النزاع، وقطعًا لمادة المحاربة، وهذا فن عسكري!
﴿ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [الحشر: 2]، وإذ سأل يهود جلاءهم، وتجاوزوا عن دمائهم، على أن لهم ما حملت الإبل إلا الحلقة، فكانوا يخربون بيوتهم، فيهدم الرجل بيته، فيضعه على ظهر بعيره ويفر.
وهكذا حين تخطئ الحسابات العسكرية فينحدر سيلها جارفًا، وهذا ما حدث ليهود، وحين تآمروا، وحين لم يعلنوا توبتهم، وحين خربوا بيوتهم وبأيديهم.
إن المرء ليقف حاسرًا حائرًا، وماذا كان سوف يضير يهود لو آمنوا، أو تابوا من خيانتهم، ليعيشوا في بيوتهم آمنين، ودونما هكذا ذل إجلاء مهين؟!
إن الإسلام يحترم حقوق الملكية الخاصة، وحين خرب يهود بيوتهم بأيديهم، ودون عمل يقيد هذا الحق، على أنهم دهاة، وإذ خربوها، لا أن يفيد مسلم بها، وهذا كشف عن خبيئة قوم.
بنو النضير غلاظ القلوب جفاة الأفئدة:
وإذ "لم يسلم من بني النضير إلا رجلان؛ وهما: يامين بن عمير بن كعب ابن عم عمرو بن جحاش، وأبو سعد بن وهب، فأحرزا أموالهما"[7].
ولأحدنا أن يذْهَلَ وكيف يسلم اثنان وحسب من قوم كان عددهم ألفًا وخمسمائة؟! وهو عدد في قياسات زمانهم كان كبيرًا كثيرًا، وهو وإن دل فإنما يدل على قسوة قد انقطع نظيرها، ويبين عن جفاء عزَّ وجود مثله، إلا في يهود، ومن سلك سبيلهم.
وإذ قال صلى الله عليه وسلم ليامين: ((ألم تَرَ ما لقيت من ابن عمك وما هم به من شأني؟ فجعل يامين لرجل جُعلًا على أن يقتل عمرو بن جحاش، فقتله لعنه الله))[8].
إن عجبًا وحين لم يسلم من بني النضير إلا رجلان، والأعجب أن منهما يامين بن عمير، ابن عم عمرو بن جحاش، ذلك الذي كان قد راح ليقتل نبينا صلى الله عليه وسلم، وكان الأولَى بإعلان إسلامه هو ذلك العمرو؛ لأنه رأى ما رأى من آيات ربه الكبرى.
وإذ شكا نبينا صلى الله عليه وسلم عمرو بن جحاش لابن أخيه يامين، وحين أسلم؛ حفزًا له، فقتله أجيره لذلكم، ولأنه خان الله ورسوله صلى الله عليه وسلم إصرارًا، وسبق ترصد، سببًا مشددًا للعقوبة الجنائية.
تقسيم الفيء:
حين أُجليَ بنو النضير، وزَّع نبينا صلى الله عليه وسلم أموالهم فيئًا، وخص بها أنصاريين فقيرين، وكذا المهاجرين الأولين؛ لأنهم تركوا ديارهم وأموالهم، وهذا رزق ربهم سِيق إليهم.
وإذ كان الفقر هو مقياس توزيع الفيء يوم بني النضير، ولأنه صلى الله عليه وسلم قسمه على المهاجرين الأولين لفقرهم، وكذا أنصاريين ولفقرهما أيضًا، وهذا عمل سيادي باهر، وإذ به يحافظ القائد على سلامة الأمن الاجتماعي لجبهته الداخلية.
بين سورتي الأنفال الحشر:
وإذ نزلت سورة الأنفال علاجًا ليوم بدر، ونزلت سورة الحشر، خصوصًا في بني النضير، وهذا برهان أنهما حدثان عظيمان، ولا غرو، فهذه قريش بعدائها، وأولاء يهود بجفائها ونقضها ميثاقها.
واستهلت سورة الأنفال بسؤال عن الأنفال، ولأنه موضوعها، وبدأت سورة الحشر بالتسبيح، ولتوفيقه تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم إخراج بني النضير، دون قطرة دم، ولعلهم يذكرون.
وإذ قُسمت الأنفال في سورة الأنفال، ووُزِّع الفيء في سورة الحشر، وهذه مشابهة بينهما، وحدة موضوعية لكل سورة، تظهر بهاءها، وتتبدى حللها زينةً وحسنًا.
وأن تظفر بعدوك إجلاءً وعن آخره، ودون سفك دماء لأحد الطرفين، فهذا سبق عسكري، وتفرد نبوي، ناسبه تسبيحه تعالى مستهل سورة الحشر.
وحَسَنٌ أن يعيش قادة الأمم وسط ميدانهم - كما نبينا صلى الله عليه وسلم في أحداثها العظام - وهذا ما ظهر جليًّا واضحًا يوم بني النضير، يدًا بيد مع جنوده، وليعملوا عملًا دائبًا.
﴿ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ [الحشر: 4]: إن تآمرًا على نبينا صلى الله عليه وسلم جعله تعالى مشاقة له ولرسوله صلى الله عليه وسلم، موجبَين لأشد العقاب، وإنزال العذاب، وكان هذا يوم النضير، هديًا قرآنيًّا، وسَنَنًا نبويًّا أبدًا؛ قال الله تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الحشر: 4].
كانت السماء ترقب عن كثب سير المؤمنين يوم بني النضير، وأن الله معهم ولن يَتِرَهم، وإذ ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾ [القمر: 49]، و ﴿ مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [الحشر: 5].
مفارقة (5):وإذ يتمنى أحدنا أن لو كان قد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وها هم أولاء يهود يزايلون نبيًّا، جاءهم بالهدى ودين الحق، نورًا وسلامًا، وأمنًا للعالمين.
﴿ مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [الحشر: 5]: وفيه جواز القطع أو عدمه، حسبما تمليه طبيعة الميدان، سلطة تقديرية لقائده.
وإذ لا يكون في كونه تعالى إلا ما أذِن به، وإنكاء لفاسق، وإثخانًا لمعاند.
﴿ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الحشر: 16]: وهذا درس من دروس يوم بني النضير، أودعه الله كتابه، وليكون دليلًا للسالكين أبدًا، وحين أبرم المنافقون زعمًا أنهم عون لإخوانهم من بني النضير، ولأنهم سيتركونهم وحيدي ميدانهم، وقد تركوهم!
مراجعة واعتبار:
إننا نقصص كثيرًا، أنه حدث أن ...، وأنه جرى هناك ... وكأنما نحن بعيدون ألا يحدث ذلكم فينا، وحين تحكم السنة الماضية أن جعلت بيوتًا خاوية على عروشها، وحين أدبرت عن هدي السماء الأعلى، وحين تصرمت من قيد الحنيفية الأسمى.
عظة عمرو بن سعد القرظي فيما حل ببني النضير:
رأيت اليوم عِبرًا قد عبرنا بها، رأيت منازل إخواننا خالية، بعد ذلك العز والجلد، والشرف الفاضل، والعقل البارع، قد تركوا أموالهم، وملكها غيرهم، وخرجوا خروج ذلٍّ.
ولا والتوراة ما سُلِّط هذا على قوم قط لله بهم حاجة، وقد أوقع قبل ذلك بابن الأشرف ذي عزهم، ثم بيَّته في بيته أمنًا، وأوقع بابن سنينة سيدهم، وأوقع ببني قينقاع فأجلاهم، وهم أهل جد يهود، وكانوا أهل عدة وسلاح ونجدة، فحصرهم فلم يخرج إنسان منهم رأسه حتى سباهم، وكلم فيهم فتركهم على أن أجلاهم من يثرب.
يا قوم، قد رأيتم ما رأيتم فأطيعوني، وتعالوا نتبع محمدًا، والله إنكم لتعلمون أنه نبي قد بشرنا به وبأمره ابن الهيبان أبو عمير، وابن حراش، وهما أعلم يهود جاءانا، يتوكفان قدومه، وأمرانا باتباعه، جاءانا من بيت المقدس، وأمرانا أن نقرئه منهما السلام، ثم ماتا على دينهما، ودفناهما بحرتنا هذه[9].
وهذا تذكير بسنن الله الماضية، وإذ إن ما حدث ببني النضير، أخرج هذا الشعور الباطني الهائل، بتعبيرات تندُّ وصفًا، وتخلع قلبًا، وتخشع لبًّا، وتطأطئ رأسًا، وتخفض هامة!
ولتجأر ألسنةٌ، ولتهفو نفوس، ولتخضع قلوب، ولتؤوب جوارح، وحين رأت بأبصارها، لا سمعت بآذانها سنة الله الماضية، وحين لا تحابي، ويوم ألَّا تغمض طرفًا، وأن ليس أحد بمعزل عن سنن رباني ماضٍ، ولربما تقاذفته ريح قاصفة عاتية ليست ماطرة، ولتراه في بحر هائج متلاطم، وإذ ليس يملك من أمره شيئًا، وحين أمسك بشراع سفينته موج هكذا يصادم بعضه بعضًا.
وإنما المنهج غاية يحكمها سلوك، وكلاهما من معيننا الأول؛ ألا وهو: كتاب الله، وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
[1] إمتاع الأسماع، المقريزي: ج: ٨/ ٣٥٩.
[2] المرجع السابق: ج: ٨/ ٣٥٩.
[3] تاريخ الطبري، الطبري: ج: ٢/ 224.
[4] السيرة الحلبية، الحلبي: ج: ٢/ ٥٦٠.
[5] المرجع السابق: ج: ٢/ ٥٦٠.
[6] المرجع السابق: ج: ٢/ ٥٦٠.
[7] البداية والنهاية، ابن كثير: ج: ٤/ ٨٧.
[8] المرجع السابق: ج: ٤/ ٨٧.
[9] السيرة النبوية، ابن كثير: ج: ٣/ ١٥٥.
رابط الموضوع: https://www.alukah.net/culture/0/150482/#ixzz7D3tU5e87