جلس ماركيز يتأمَّل الحرب الباردة التي دارت رحاها بين الاتحاد السوفياتي من جهة والمنظومة الغربية من جهة مقابلة، قبل أن يكتشف تلك النقاط المختلفة التي تجعل مِن الفرق الواضح بين علامات الصراع أمرا بديهيا، حتَّى أنَّ العلاقة الوخيمة بين ارتدادات الصراع الأصلي بين موسكو وواشنطن قد بلغت بطريقة دموية أقطارا كانت بالأمس آمنة، بل تسودها المحبة الأخوية والعمق الثقافي الغزير.

وفي زحمة هذه الأفكار التي تبدوا للوهلة الأولى غاية في التوجس من الناحية الاستراتيجية، تذكَّر ماركيز أحد الأغبياء الذين يريدون القيام بنشر الخبث في محيطه، على طريقة الشياطين الذين يرتدون جلود الإنسانية، تذكَّر ذلك المكر الغبي الذي لا يخطئه أنفه الغريزي الملتهب، فراح يعيد الحسابات، وهو ينظر إلى المرآة التي تزيِّن واجهة الخزانة المنصوبة في غرفته.

تعلَّم الأستاذ ماركيز كيف يدافع عن نفسه أمام الأصدقاء قبل الأعداء، تعرَّف على فنون المواجهات أمام أيٍّ كان، حتى ولو كان روحه من أجل سلامة عقله وإرادته، وها هو يزاول هذه الفنون بإتقان؛ فعلى أرض القراصنة لابد للنبلاء على شاكلة ماركيز أن يلعبوا بأعصاب منافسيهم الذين لا يعرفون للنزاهة سبيلا، يقيمون في خلاياهم العميقة، ويقومون باستنزافهم حتى آخر رمق.

ماركيز محاربٌ على هذه الجبهة بامتياز، فاز حتى الآن في كافة المبارزات الفكرية التي دخلها إمَّا طوعا، وأغلبها دخلها مكرها، أدرك الكثير من فنون المراوغة والدوران، سار على حبال رقيقة كالبهلوان، وكان ينجو كلَّ مرَّة من السقوط في الهاوية، وهو متأكِّدٌ الآن كما كان واثقا دائما من نفسه، من أنَّه يلعب بالطريقة السليمة وعلى المكشوف، يلعب بفنيات مقاتل على الجبهة الفكرية.

طرد الأستاذ ماركيز كلَّ هذه الأفكار عندما قام من مكانه، التقط موزة وقشرها، بعدها راح يلتهمها بتلذذ، هو يحب مذاق فاكهة الموز منذ كان صبيا، ولا يزال يشتري هذه الفاكهة ويتناولها بشغف بعيدا عن الأنظار، حتى يرضي لهفة عميقة في روحه، تجعله تنظر إلى الحياة من زوايا مختلفة.

يؤمن ماركيز بأنَّ مصارعة السفلة جزء من الحياة، لكنَّه عازم على القتال حتى النهاية، سلاحه الفتَّاك هو عقله الذي يعرف كيفية استخدامه جيِّدًا، هو يدرك أهمية أن ترسم تلك القيمة في أذهان القطيع، وهو على يقين بأنَّها صورة ستبقى حاضرة إلى الأبد، مثلما بقي القمر منيرا في كلِّ ليلة، حتى النهاية، لهذا هو لا يزال متمسكا بهدوئه الأسطوري، متمسكا بقدرته على إدارة المعارك وحسم الحروب، وهي ميزة النبلاء عموما أينما وُجدوا.

يعود ماركيز ليدفن جسمه تحت غطاء قطني أسود اللون، هو هدية من جدَّته كريستينا رحمها الله، حمل هاتفه النقال، وراح يقرأ الكثير من الكلمات على مواقع التواصل الاجتماعي، حول الإنسان فتنفجر إنسانيته، حول الإيمان فيضع إيمانه موضع تمحيص، وأحيانا يقرأ الكثير من آيات الكتاب المقدَّس، ليجد نفسه مبهورا بكلام الله تعالى.

دغدغت كلمات أحد الكتَّاب من القراصنة مشاعر الأستاذ ماركيز بعدما قرأ مقاله الأسبوعي، تحدَّث هذا الكاتب عن ضرورة تجاوز المشاعر المعادية للجلاَّدين في دعوة صريحة للعبودية وتمجيد الأصنام، وهذا ما أثار في نفسيته نوعا من الاشمئزاز، حتى أنَّ ذلك الكاتب الساذج قد ألحّ على الدفاع عن لغة المستعمِر المجرم لأرض القراصنة، وهنا شعر ماركيز ببعض القلق، ألقى بهاتفه جانبا، وراح يقرأ احدى الروايات العالمية مبحرا في سحر أسلوب كاتبها الذي وجده أكثر إقناعا، والذي استمد من خياله الأمر الثمين، ليسوغه في صور تراجيدية رائعة.

ألقى ماركيز بتلك الرواية أيضا، التفت حوله، قبل أن يعود للتفكير من جديد، هذه الديانة الخاصة التي أدمن طقوسها منذ زمن بعيد.