تأمَّل ماركيز لحيته السوداء جيِّدًا، فلاحظ أنَّها تتخللها بعض زغبات من الشيب، أشعل سيجارة وراح يدخِّنُ وهو يفكِّرُ في حالاته النفسية التي تتعب بسبب الكثير من التصرفات اليومية الصادرة عن القراصنة وحياتهم التافهة، أخذ نَفَسًا عميقا للغاية، وشرد ذهنه في اتجاه ما معنى الموسيقى، وما جدوى الرقص!

جلس على طرف سريره الواسع، فتذكَّر ماركيز بعض الحفلات الراقصة في حياته، التي حضرها صدفة، كلُّ شيء يسير وفق الصدفة على أرض الجنَّة ما وراء البحر، إلاَّ ثقافة البؤس، هي الوحيدة التي تمَّ التخطيط لها بشكل محكم، ثمَّ عمد لقطاء الكولون إلى تنفيذها بشكل أكثر إحكاما.

حفلاتٌ رقص فيها ماركيز بطريقة بهلوانية وهو يُسند سيجارته على أحد أنيابه حتى يضمن عدم سقوطها، وسط حشد مِن القطيع البهيمي لبعض القراصنة، فهؤلاء لا يرقصون حسب رأيه، وإنَّما يتركون أجسامهم تستسلم للمكبوتات الرهيبة والحارقة، تلك التي تنفجر في صورة القفز والركل، الدوران والاهتزاز، تحت عنوان الرقصات والترفيه عن النفس، بينما هي في حقيقتها لغة تعبِّر عن شكوى اليائسين بألسنة الجوارح التي لا تعرف الكذب، لهذا عندما بلغ عقل الأستاذ ماركيز مرحلة النضج، صار يحضر تلك الحفلات الراقصة، وأغلبها على أرض القراصنة هي حفلات زفاف – مِن أجل تعويض العادات السرية الجنسية بعادات حيوانية زوجية فقط – ليجلس في احدى زوايا ذلك السطح، أو تلك الخيمة، مطلقا لنفسه العنان، فيقرأ الكثير مِن حركات القراصنة الراقصين، الذين يصبحون في حالة "الحَضرة" البهيمية بامتياز.

انهى ماركيز تدخين تلك السيجارة، ثمَّ استلقى على فراشه الدافئ في هذا اليوم البارد من احدى أيَّام نوفمبر – الشَّهر المفضل لدى ماركيز – وراح يفكِّر في تلك الحفلات الصاخبة التي يحضر فيها كلُّ شيء ويغيب عنها كلُّ ما يدلُّ عن الاحتفال والابتهاج في الأعياد الوطنية التي تحوَّلت إلى أعياد حيوانية بشكل دقيق، حيث تُنصب الموائد لكبار الرّؤوس مِن حملة الرماح، ليرقصوا ويسكروا حتى الثمالة بأغلى وأفخم المشروبات الروحية، ثمَّ يعاشرون الفاجرات حتى الفجر، ولأيَّام، وكلُّ الفواتير تدفعها صناديق القراصنة البؤساء، الذين لا يعلم معظمهم بأنَّ كبار السلب والنهب هُم أولئك الذين يلبسون النياشين، ويتكلمون بعبارات رنَّانة.

حتى يستتبَّ لحملة الرماح الأمر على أراضي القراصنة، فيقومون باللَّهو والعبث كما يريدون ويشاؤون، قدَّموا خيرات الجنَّة ما وراء البحر لأسيادهم خلف البحر، وصمَّموا على استعباد أبناء القراصنة كلَّهم، ومن أجل تحقيق هذه الغايات، قاموا بذبح وتعذيب أبناء القراصنة واستحياء نسائهم على طريقة بني إسرائيل، بعدها قدَّموا لمَن بقي حيًّا راكعا من القراصنة كؤوسا تحتوي على شراب المذلَّة، وأرغموهم على شربه حتى صار القرصان عَبْدًا طَيِّعًا لهؤلاء المجرمين، بل إنَّه حمل على عاتقه الدّفاع عن مَن يسلبه الحياة حتى آخر لحظاته في هذه الحياة، لأنَّه اعتقد متوهما بأنَّهم هُم وحدهم – حملة الرماح – مَن يقدر على رفع الشَّمس كلَّ صباح، وتقديم له الأنفاس النقية كلَّ لحظة.

لهذا وجد ماركيز نفسه ضدَّ هؤلاء العبيد – وهُم أحقر أنواع وأصناف العبيد قاطبة – عبيد بلغوا مِن الحقارة حدَّ احتقار أنفسهم وأرواحهم لأجل مَن يذلِّهم ضاربين عرض الحائط كافة العقد وفي مقدمتها عقدة ستوكهولم؛ قطَّب ماركيز جبهته واشتعل وجهه احمرارا، وراح يحاول طرد فكرة أنَّه مضطر للتعامل مع هؤلاء العبيد يوميا، فهو يدرِّسُ أبناءهم كلَّ لحظة أساليب العيش بكرامة، آملا أن يصبح أحدهم أو بالأحرى احداهنَّ فتاة أو فتى حرًّا، أو إنسانا طليقا في أدنى تقدير.

لعن ماركيز شيطانه، نهض مِن مكانه الدافئ متثاقلا، استعدَّ بما يستطيع لهذا اليوم الجديد، ثمَّ أغلق باب غرفته وهو كلُّه أمل في يوم يتبخَّر فيه من هذه الأرض التي تعطي ثمارها الطازجة فقط للمجرمين أو المستعبَدين، وكلاهما محتقَر في نظرة ماركيز للحياة، الوفاة والنجاة.