ترجَّل ماركيز من الحافلة، اشترى علبة سجائر جديدة، أشعل احداها وراح يدخِّنُ كعادته وهو راجع من يوم عمل طويل باتجاه البيت، لكن وفجأة لمح سيارة زوج عمَّته متوقفة أمام الصيدلية، ودون تفكير، سار باتجاهه وألقى عليه التحية، بعدها سأله عن حاله وحال عمته، لكن ذلك الغبي – الذي يبول في سرواله – تجاهل سؤال ماركيز مرتيْن، ففهم هذا الأخير بأنَّ ذلك الغبي – الذي يبول في سرواله – لم يرغب بإخباره عن حال تلك العمَّة المسكينة، التي لم تعش ولو ثانية من حياتها بشكل طبيعي أبدا، فلطالما عانت من خرافات زوجها، وهي الآن تعاني من خرافات أبنائها، لكنَّ ماركيز في عمقه يشفق على حال هؤلاء الفقراء الخبثاء، صحيح أنَّه يكره فقرهم حدَّ الثمالة، لكنه يمقت مكرهم حدَّ الاشمئزاز، فإضافة إلى جهلهم هُم يحقدون على كلِّ شيء، وهنا المفارقة، تلك التي تجعل ماركيز يعرض عن حيواتهم حماية لحياته الشخصية، فالكلاب المصابة بداء الكَلَب لا تُؤتمَن.

أنهى ماركيز التدخين حالما اقترب من البيت، مضغ عقب السيجارة قبل أن يلقي به بعيدا، أخذ نَفَسًا نقيا، ورمى بإحدى قطع الحلوى في فمه، حتى يتسنى له الإبقاء على بعض الحلاوة داخل جسمه بدل مذاق الغولواز الرهيب، بحث عن مفاتيحه ثمَّ فتح الباب لينهي يوما طويلا من الكفاح دفعة واحدة بعد إغلاق الباب الزرقاء خلفه دون تأخُّر.

مرَّت ليلة ماركيز هادئة لا يشوشها أيُّ حدث ما عدى شخيره المتصاعد عبر نافذته السحرية المطلة على السلالم، واستيقظ في موعده ككل يوم عمل، استعد للخروج وراح يسير في شوارع بلدته البائسة/اليائسة حتى بلغ شارع توقف الحافلات، ركب احداها بهدوء نادر، وتوجَّه نحو مقر عمله، قبل أن يراوده ألم في رأسه راح يشتد، وهذا ما دفعه للمرور بتلك الحانة لأخذ بعض كؤوس الويسكي المعتَّق.

ماركيز يشرب في كلِّ الأوقات، خاصة أثناء النهار، صحيح أنَّه لا يشرب لدرجة الثمالة، خاصة أيَّام العمل، لكنَّ عادة شرب المشروبات الروحية تلازمه دائما وأبدا، بعدها دخل المدرسة، حضر رفع العلم الوطني لبلاد القراصنة، ودخل خلف صفِّ تلاميذه القسم، قدَّم دروسا في التعبير الكتابي لمادة اللسان الإسباني، ودرسًا في التاريخ، تحدَّث خلاله عن نابليون بونابرت، بعدها خطر بباله كتاب "مائة سنة من العزلة"، لهذا بعد خروجه من المؤسسة أثناء راحة الغداء، توجَّه مباشرة نحو مكتبة "الشمس" واشترى الكتاب إضافة لكتاب النبي لجبران خليل جبران باللسان الفرنسي، ومسبحتيْن زرقاء، عاد إلى المدرسة قبل موعد دخول التلاميذ بقليل، فوجد المدير ينتظره ليعلمه بأنَّ من واجبه تفعيل حساب الأستاذ على موقع المدرسة الالكتروني، حتى يتسنى له إدخال نقاط التلاميذ لاختبار الفصل الأوَّل لهذه السنة الدراسية بشكل مباشر، ودون تأخير صعد ماركيز السلالم باتجاه القسم.

أنهى قراءة ما بقي له من صفحات كتاب العواصف لجبران خليل جبران، ثمَّ عمل على إدخال التلاميذ إلى القسم بعد مرورهم بالمطعم وأخذهم لوجباتهم، ليقدِّم الدروس للفوج الثاني ويخرج مسرعا نحو حافلة العودة.

اتخذ ماركيز مكانا له في احدى زوايا الحافلة، وما لبث أن جلست بجانبه احدى الفتيات "المتدينات"، أراد ماركيز أن يترك لها المكان الكافي فقام بتحريك إحدى قدميه، وكما تبيَّن له فيما بعد، فقد توجست الفتاة من هذه الحركة، وراحت تزعجه كما تفعل الكثير من النساء على أرض الجنة ما وراء البحر، لكنَّه سرعان ما تنبه لهذه القضية، فحاول أن يظهر بجلباب الناسك المسكين، لهذا لجأ ماركيز إلى تلك المسبحة الزرقاء، أخرجها من جيبه وراح يذكر المسيح حتى وصوله إلى محطته الأخيرة أمام تعجُّب الفتاة وزميلتها... كم أنتَ ماكر يا ماركيز! لكنك لا تزال تلميذا في هذا المجال أمام إناث القراصنة.