سار باتجاه المكتبة المقابلة لإقامة البنات الجامعية واقتنى منها جريدة "الجمهورية"، بعدها توجَّه ماركيز نحو حانة "الخشب" لاحتساء كؤوس الويسكي المعتَّق، قرأ بعض المقالات حول ثورة القراصنة ضدَّ باريس المجرمة، وعن كاتِب بيان الفاتح من نوفمبر – رحمه الله – هذا البطل الذي كان خريجا لجامعة القاهرة ويتقن ما بين خمس إلى سبع لغات، ولكنه لم ينجو من أيادي عملاء باريس، ليسلم الروح بعد اعتقاله بأسبوع فقط.

فعل الويسكي فِعلَه في ماركيز، فجعله يتوجَّه إلى المدرسة التي دخلها على عجل، ألقى دروسا على تلاميذه في مادتيْ الرياضيات والتربية العلمية، قبل أن يحمل قبعته ويخرج من مكان عمله باتجاه إحدى المطاعم، وبينما هو يسير وصلت إلى أذنيْه أنغام شعبية فهم فيما بعد بأنَّه بالقرب مِن احدى المنازل التي تستضيف احدى حفلات الأعراس الشعبية، والتي لطالما أحبها ماركيز كثيرا، فهي تعبِّر حسب اعتقاده عن صورة "نفاق الفرح"، فالقرصان أصله منافق في كافة الحالات، حتى في حالات الفرح العارم الذي يجتاحه خلال حياته، اشترى علبة سجائر على عجل، رماها في أحد جيوبه، قبل أن يقرر اتباع الموسيقى إلى أن وصل إلى احدى الأبواب الصدئة، دفعها بلهفة وَإذا به وسط دار واسعة، بها مجموعة نسوة من كبار السن، يشكلن صفيْن جلوسا، يتقابلن وهن يحملن الطبول على اختلاف أنواعها وأحجامها، وبعضهن يحملن طبولا مصنوعة من الجلود على الطريقة التقليدية، لم يكن ماركيز الرجل الوحيد الذي يدخل ذلك المكان، فعندما استدار وهو يتلفت حوله، وجد حلقات كثيرة مبعثرة على زوايا ذلك المنزل، من رجال وصبية ونساء أيضا، كلَّهم يستمعون ويشاهدون ذلك المشهد الفولكلوري الذي زاده حسنا وجمالا، رقص احداهنَّ بشكل هادئ للغاية، كانت سيِّدة في مقتبل العمر، تلبس جبَّة حمراء تميل للسواد، تضع غطاء على الرأس، حافية القدميْن، وفي احدى أقدامها وضعت خلخالا يصدر رنينا كلَّما ارتجَّ خصرها بين المغنيات، وجهها كان مغبرا وكثير التجاعيد، واضح أثر الزمان على محياها، ولكنَّ الغريب في رقصها أنَّه كان بالنسبة لها كلَّ العالَم، فهي لا ترى سوى نفسها ترقص، غير مبالية بالمحيطين بها، أشعل ماركيز سيجارة واستند على الجدار بظهره، وراح يرصد تلك المرأة بكلِّ ما يملك من انتباه، هي الحياة ترقص أمام عينيْ ماركيز دون أعذار.

استخدمت المرأة الراقصة كافة الحركات من كلِّ الثقافات، وقد أدهشت ماركيز بإلمامها بتلك الحركات التي تعبِّر عن مجتمعات مختلفة، مِن رقصات الأوبرا العريقة في قلب أوربا، إلى التانغو الأميركي الجنوبي مرورا بالسامبا، ووصولا إلى الرقص الشرقي والرقص الأفريقي العريق، كما كانت تتخللها ببعض حركات الفتيات الآسيويات الهادئة بين الحين والآخر، حينما يخفت الغناء من حناجر تلك العجائز، أدرك ماركيز دون عناء بأنَّه أمام فنَّانة ماهرة للغاية، وبسرعة وضع مقارنة بينه وبينها في مجال الأستاذية، فإن كان هو أستاذ فلسفة بامتياز، فهي حتما أستاذة للرقص دون منازع ولا حتى منافس.

تابع العرض حتى آخر لقطاته، كانت الراقصة تتصبب عرقا في جوِّ بارد من أجواء الخريف القارسة، ومع ذلك فقد دام العرض لساعة ونصف بالتمام والكمال، خلاله قام ماركيز بتدخين علبة سجائر كاملة، فقد كانت كل سيجارة تشعل أختها دون توقف، لأنَّه ببساطة قد أبهر بما قدَّمته الراقصة من مفاتن ملهمة لكلِّ الحاضرين.

بعد نهاية العرض، خرج ماركيز من الدار مباشرة وبسرعة، بعدها عاد إلى المدرسة حيث قدَّم لتلاميذه دروسا في الرياضيات واللسان الاسباني الذي يجيده للغاية، قبل أن يركب الحافلة بصعوبة ومشقة لا مثيل لها ليتمكن من العودة إلى منزل العائلة، حتى أنَّه بقي واقفا عند باب الحافلة هو وشابيْن آخريْن بسبب ضيق المكان وعدم تمكنهم من إيجاد كراسي فارغة، لكنَّ العامل في تلك الحافلة كان قد حجز مكانا لإحدى الفتيات مقابل ابتسامة وشكر لا غير، وهذا ما اكتشفه ماركيز بعد فوات الأوان.

هذا الاكتشاف ذكّر ماركيز ببيت شِعر كتبه نزار قباني والقائل:

كذبت كلُّ امرأة تدَّعي الفقر

وبين فخذيها كنز ثمين

بعدها أطلق ماركيز أفكاره من عقالها، وجال بنظره بين الجبال والوديان، الموجودة على حواف تلك الطريق المتعرجة، وهو يداعب تلك الراقصة في خياله الذي لا ينضب، متذكِّرا تفاصيل حركات قدَمِها التي حملت الخلخال بكلِّ اقتدار.