يكره القراصنة المثقَّف أكثر من كره النور للظلام، يمقتونه بشكل كامل، يزعجونه ويبذلون كلَّ ما بوسعهم لإيذائه معنويا ولو استطاعوا ماديا أيضا، وذلك الكره هو نتيجة خواء نفسي عميق تغلغل شيئا فشيئا في ذواتهم العليلة، هذا ما يراه ماركيز عندما يسير كلَّ صباح على شوارع بلدته الغارقة في الجهالة والكراهية، يرى هذا الشرر يتطاير من عيون حاقدة عليه أينما يولي وجهه.

استيقظ ماركيز هذا اليوم على غير عادته متأخرا، لأنَّه أعاد إطفاء منبه هاتفه الجوَّال قبل أن يتابع نومه، إلى أن سمع باب الرواق يُفتح من طرف والده صدفة، كان موعد استيقاظه قد تجاوز التوقيت الدقيق بعشر دقائق، لكنَّ تلك الدقائق القليلة جعلته يدخل في صراع بهيمي مع سكان بلدته الرثة من أجل الظفر بمقعد على حافلة قد أتت من القرون الغابرة، كبداية أزمة مستمرة منذ استقلال الجنة ما وراء البحر عن المجرمة باريس، وبعدما تمكَّن من الصعود، ها هو يكتشف بأنَّ سجائره قد سرقت خلال تلك الزحمة اليومية، لهذا اضطر ماركيز أن يبقى صامتا طيلة الطريق في اتجاه عمله.

نزل من تلك الحافلة الرديئة بركابها قبل معدنها، بحث عن أقرب كشك في مبنى المحطة البرية التي تقع ضمن بنايات لؤلؤة بلاد القراصنة، وجد واحدا يديره شخص لا يتحدَّث لهجته، لكنَّ ماركيز لم يعره الانتباه الكافي، لأنَّه كان يحاول الوصول إلى اقتناء احدى علب السجائر فقط، ولم يذق طعم الارتياح حتى وضع أولى سجائره ذلك اليوم بين شفتيْه وراح يدخِّن دون هوادة.

جميع القراصنة يكرهون القراصنة جميعهم، بلا مبرر مقنع، بل إنَّ الاقتناع والعمل على اقناع القرصان بأيِّ أمر حتى ولو كان تافه هو مضيعة للجهد والوقت، هذا ما خطر ببال ماركيز وهو يشاهد هؤلاء الذين يسمون أنفسهم ركابا وهُم يعبرون أمامه تلك البوابات باتجاه عربات يسمونها جزافا بالحافلات، بينما ماركيز لطالما سماها بالمقابر، فهي تأكل من وقت الإنسان الكثير، ومن أعصابه ما هو أكثر من المتوقع، لكون الساهرين عليها هُم أغبى الناس وأكثرهم كرها للمسافرين على اختلاف طباعهم ووجهاتهم.

بعد آخر شهقة للدخان من تلك السجائر الممتعة، رمى ماركيز بعقب تلك السيجارة، ولوَّح لإحدى سيارات الأجرة التي تعمل بنظام الأجرة الجماعية، في حين أنَّ سائقها يأخذ أجرة خاصة عن كلِّ واحد من ورادها، بالمختصر هي سيارة تحمل الكثير من الزبائن دفعة واحدة ليدفع كل واحد منهم ثمن خدمات من المفروض أنها خاصة به وحده، وهذا يضاف إلى عجائب أرض الجنة ما وراء البحر، أين ينام المنطق ويقضم الضمير أصابعه بلا توقُّف.

دار حوار ما بين ماركيز وسائق الأجرة حول مواضيع مختلفة، كان السائق يشتكي من كلِّ شيء، من زحمة السير، من أسعار البطاطا، من غلاء المعيشة، من عبثية البناء وعشوائية البنايات وصولا إلى الطرقات المهترئة، وكان ماركيز يعلم بأنَّ هذا الحديث لم يتغيَّر أيضا منذ الأجداد والدليل أنَّ الأحفاد هُم أيضا يلوكون الكلمات ذاتها وفق السياقات عينها.

وصل ماركيز إلى المدرسة، فنزل من سيارة الأجرة بعدما قدَّم ثمنا سخيا للسائق فودَّعه بلطف، ثمَّ أشعل سيجارة أخرى قبل دخوله عبر تلك البوابة الحديدية الضخمة التي تعبِّر عن حالة المنظومة التعليمية لدى القراصنة منذ بدايتها وإلى غاية نهايتها الحتمية – هذه طبيعة الأشياء – بعدها وقف ماركيز بجانب الباب ليمهل نفسه الوقت الكافي للتلذذ بتلك السيجارة مطلقا نظره ليجول من حوله، فشاهد كل المصائب التي لا تخطر على بال إنسان متجسدة في عالَم لا يزال يكره مثقفيه حدَّ الثمالة.