شخصيات كثيرة تزدحم بها الأحداث وتغلفها الإثارة حتى آخر كلمة من رواية "الحب في زمن الكوليرا" للكبير غارسيا، لعلَّ الأحب إلى قلبي والتي وجدت فيها صورة متقنة لما نعانيه اليوم هي شخصية خوفينال أوربينو، فهو عبارة عن الشخصية الحلم، التي تستند عليها الأجيال في الجنة ما وراء البحر، شخصية ترتكز على إرث عائلي محترم، ولها وظيفة محترمة وعلاقات اجتماعية متنوعة، مما أهَّلها للوصول إلى ما يتمناه المرء من احترام وتميُّز، إضافة إلى حضور المناسبات العامة والسفر إلى أوربا، هي الشخصية الحلم بامتياز.

باقي الشخصيات رائعة ولها دورها المحدد بالضبط، تجعل الخيال يتأرجح بين الاحداث ومدى انسيابها مع السياق العام للخيط الهادي الذي يربط بين الأفكار كلها، فكافة التشعبات تفضي إمَّا إلى المثابر فلورينتينو اريثا أو إلى الغريبة فيرمينا داثا، وكلاهما يستحقان دور البطولة بشكل دقيق، هما شخصيتان تقليديتان موجودتان في كافة روايات وقصص الحب في أيِّ مخيال جماعي لأيَّة ثقافة كانت، مما يعطي الطبع الرسمي للرواية، وذلك الاتصال بالتقاليد والأعراف السردية التي لا مجال لتجاوزها، حتى ولو كان غارسيا هو كاتبها بالفطرة والموهبة معًا.

خلال أربعة أيَّام أتممتُ قراءة الرواية كلِّها، وكانت الأحداث تلهمني وتغذي شراهتي القرائية، كلَّ يوم أكثر من سابقه على امتداد تلك الرباعية السحرية، والتي عرَّفتني بمنطقة الكاريبي، هذه المنطقة المرتبطة في ذهني بالقبطان جاك سبارو دون غيره، إلى أن جاء الدكتور أوربينو ليزيحه من مكانه كسفير لتلك المنطقة الساحرة، أين تنغمس السعادة حتى القاع ويسير الثراء والفقر جنبا إلى جنب دون أن يؤذي أحدهما الآخر.

عبَّر غارسيا فأبدع! دخل في صلب الروح على اختلاف الفئات والأجناس، ونجح في ترجمة حياة الإنسان مخلِّفا أسئلة كثيرة حول قيم لطالما اعتقدتُ أنَّها ثابتة، قيَمٍ نتحدث عنها اليوم بثقة وكأنَّها بديهيات أو يقين لا مجال لمناقشته، قيم كالحب، الموت، السيادة والجنون وحتى الشيخوخة وما يربط بينها كمنظومات ثقافية اعتقادية لا مجال لكسرها، كلُّ هذا يبعث فيه غارسيا روح الريبة والشك، ليحثَّ قارئه على إعادة صياغة ما كان قبل قليل فقط من فتح كتاب "الحب في زمن الكوليرا" أمرا محسوما قطعا.

وأنا أقرأ رواية غارسيا، وجدتُ الكثير من الروائيين قد مرُّوا مِن هنا، وقد دخلوا معبد الأدب السردي لأميركا الجنوبية عبر صَنَم غارسيا، قبل أن يقدموا له طقوس الطاعة والولاء، ليرضى عنهم فيصبحوا كتَّابًا وروائيين، فلا أستطيع أن أتخيَّل لمجرَّد الخيال روائيا واحدا قد صار بهذا المقام دون أن يقدِّم فروض الولاء لهذا الإله، الإله غارسيا، إله الرواية.

على هرمز أن يخرس بعد اليوم، فقد صار عبدا ذليلا لغارسيا، وعلى البقية أن يحذوا حذو هرمز أيضا أمام الفتى والشيخ غارسيا، لأنَّه بحق قدَّم الحياة كلَّها في شكل رواية واحدة ووحيدة.

الحياة مدهشة فعلا وقولا، وتصبح مِن عالم غير مفهوم مليء بالطلاسم حينما يكتب عنها ويؤرخ لها كاتب لا يتكرر مثل كاتب "الحب في زمن الكوليرا"، لقد صارت القِيَم الإنسانية منزوعة العذرية أمام قلم كهذا فعلا، لم يُعرف عني في حياتي أن أقدِمَ على مدح الناس، لكنني وجدتُ نفسي مجبرا على كيل المديح والإطراء وحتى الاعجاب للكاتب غارسيا ولروايته الحب في زمن الكوليرا، لأنَّني لم أشهد حتى الآن كاتبا يجمع بين جودة النص والقدرة على إثارة القارئ دون الاصطدام به، مثلما فعل هذا الكاتب حقا، لهذا أطلب المعذرة! لقد جعلتني رواية "الحب في زمن الكوليرا" أدركُ مدى حجمي في عالم الكتابة، وهذا حدث تاريخي في مسيرتي ككاتب، فعلا أنا لستُ أنا بعد قراءتي لغارسيا مباشرة.