صوت اصطفاق الأبواب أيقظ ماركيز بغتة، فوجد نفسه في بركة من العرق، نبض قلبه متسارع بشكل كبير، وتنفسه متقطع، حاول فهم ما يحدث من حوله بادئ ذي بدء، قبل أن ينقلب إلى الجهة الأخرى، تحت صوت الرياح الخريفية والجو الغاضب، لقد كانت أصوات الأشجار التي كانت أغصانها تتلاطم، مشكلة مع أصوات الأبواب وبعض الخردوات في الشارع تشكِّل سنفونية غريبة، تزرع في الجبناء الرعب، وتوقظ في النبلاء الأنس والمواساة، "لقد طار النوم من عيني"، جالت هذه العبارة في ذهن ماركيز، فرغب بالتدخين رغم وحشة المكان، نفض عن ذاته كلَّ ما كان يؤرقه، أشعل نورا خفيفا بجانب سريره، ثمَّ تحرَّك نحو النافذة المطلة على السلالم ليشعل احدى سجائره، ومع النفخة الأولى تذكّر صوفيا، يا له مِن حُلُم!
نعم؛ لقد كان حلما، كلُّ ما رآه كان أمنيات ازدحمت في ذهنه خلال نومه في هذه الليلة الصاخبة، ولكن: أين هي الآن؟ وكيف حالها؟
صوفيا هي قصة عابرة بالنسبة لماركيز، قصة من مجموع الكثير من القصص في حياته، التي انتهت جميعها بالانفصال، فهو رحَّالة رومانسي، لا يقف عند فتاة واحدة، ولا تلهمه امرأة واحدة مدى الحياة، هو كالنحلة يجمع رحيق الرجولة من بستان النساء على اختلاف أجناسهنَّ وأعراقهنَّ، هذه هي فلسفته باتجاه الطرف الآخر من النوع البشري.
تأمَّل لبعض الوقت ما يدخنه، ثمَّ تذكَّر موعده التاريخي لهذه الليلة، هي ليلة الفاتح من نوفمبر، وهي ليلة مدهشة بالنسبة إليه، لقد شهدت قبل سنوات انطلاقة حرب التحرير ضدَّ العدوِّ باريس – فِرنسا، وكانت سببا في استقلال أرض القراصنة عن التسلُّط الأوربي الرهيب.
ماركيز يشعر بهيبة هذه المناسبات، رغم أنَّ جيلا كاملا من القراصنة، جيله هو، يعتبر هذه الأحداث مجرَّد قصص شعبية لا تغيِّر في واقع الحال بأيِّ شيء، فما جدوى الخشوع أمام تضحيات شهداء – بإذن الله بينما الواقع يشهد ارتفاعا جنونيا للأسعار، انهيارا كاملا في كافة ميادين الحياة وضياع حتمي للثقافة أمام هذه الموجة العالية التي تجرف كلَّ ما هو جيِّد على أرض القراصنة؟ لهذا فإنَّ ماركيز يبدو كنبي في قومه، يحنُّ للمجد الذي صنع نصفه الأسلاف بتحريرهم للأرض، وهو يرى أنَّ على الأجيال المتعاقبة أن تكمل الحرب حتى النهاية، حرب تحرير الجنة ما وراء البحر، حتى يستقل الشعب الذي بقي تابعا وخاضعا لسحر باريس حتى يومنا هذا.
بالتعبير التقليدي لا يزال ماركيز وطنيا، رغم انبهاره بقوة الغرب واندفاعه نحو عمق الشرق، لا يزال قرصانا يصارع على الجبهة الفكرية، لعلَّه يساهم في بناء ثروة روحية لمجتمع القراصنة، أو تجمُّع القراصنة – لا يهم؛ في هكذا مناسبة يتضاعف الألم الذي ينهش ماركيز من الداخل، ألـم الوطن كألـم الرأس ما بعد شرب الويسكي بلا ماء أو قطع الثلج، يجرف ماركيز نحو الاستسلام للواقع البيولوجي/السياسي وحتى الثقافي لما هو يعيشه بمرارة.
ينهي ماركيز التدخين، ويعود إلى فراشه، فجأة! يسمع صوت البارود، ويدوي بعده النشيد الوطني الذي تعزفه احدى الفرق العسكرية في ساحة الشهداء التي تبعد عن بيت عائلة ماركيز بحوالي عشر دقائق مشيا على الأقدام، إنها الساعة صفر لثورة بدأت في خمسينات القرن العشرين ولا تزال مستمرة حتى مطلع القرن الواحد والعشرين، صحيح أنَّ ماركيز يعلم بالتغيرات التي حدثت خلال هذه الفترة، كونه قارئا شرها لكتب التاريخ والفلسفة، لكنَّه مؤمن من ناحية أخرى بأنَّ الشعوب هي من تنتصر في آخر المطاف على حكَّامها المستبدين، وما لم تقدر باريس على نشره في الجنة ما وراء البحر رغم كلِّ إجرامها ومكائدها الماكرة، فلن تقدر على تحقيق هذه المهمة حفنة من لقطاء باريس أيضا.
- بعدها عاد ماركيز للنوم، وقد نسي أن يطفئ ذلك النور الخافت الذي اشعله بجانب سريره.