أخذ ماركيز صوفيا إلى سيارة فاخرة، وطلب منها الركوب فاتحا لها احدى أبوابها، ففعلت وهي في قمة الغرابة، بعدها جلس خلف المقود وأدار المحرك فابتعثت من المذياع أغنيته المفضلة، لينطلق بخفة بين السيارات والشوارع المختلفة، وإذا به يدور باتجاه بيت كبير تتقدَّمه مساحة خضراء وبوابة خشبية عتيقة، دقَّ ماركيز جرس السيارة ففتحت البوابة دون تأخير، كاشفة عن حديقة رائعة ومرتبة بشكل دقيق، سار ماركيز بسيارته بين صفيْن من الأشجار وصولا إلى ساحة رملية، وقبل أن يركن السيارة في احدى زوايا ما يشبه موقف سيارات فاخرة، حتى بادرت صوفيا بالسؤال: هذه سيارات الجيران؟ فأجابها ماركيز بهمس: هي سياراتي فقط، وراح يستعرضها، احداها للعمل، الثانية للتنزه، أخرى للطوارئ، وهناك أخرى للصيد بينما كانت هناك واحدة صغيرة ذات سقف متحرك، قال ماركيز أنها مخصصة لزيارة الشاطئ في أيام القيظ.
نزلا من السيارة وسارا باتجاه البوابة الصغيرة الزرقاء – لون ماركيز المفضل – والمزينة بحواشي على الطريقة الرومانية، وسرعان ما فتحت احدى النساء المتقدمات في السن الباب، وها هي تحتضن ماركيز قائلة: سيدي، يا بني ماركيز، شكرا جزيلا لك على كرمك، لقد فرح ابن أخي بالهدية كثيرا، ودعا لك بالتوفيق والسداد طول تلك الليلة، قبل أن تلتفت إلى صوفيا متعجبة، أهلا يا ابنتي، نحن نعيش في ظل السيِّد ماركيز، وأنا اعتبره أحد أبنائي، كما أنَّه لم يقصِّر أبدا في كلِّ ما يخصنا، هو حاضر بهداياه وعطاياه في كافة المناسبات، والدليل أنه أهدى رحلة مدفوعة التكاليف لابن أخي بمناسبة زواج هذا الأخير إلى تركيا، كم فرح العروسان بها، يا الله!
- قبَّلت العجوز صوفيا ثلاثة قبلات على وجنتيْها بعدما افلتت ماركيز من حضنها، ثم دعتها للدخول.
دخلت صوفيا إلى ما بدا لها قصرا، وراحت تحاول تفحص كلَّ ما يقع عليه نظرها، بينما ماركيز قد سار أمامها نحو قاعة كبيرة تتوسط مساحتها الواسعة طاولة كبيرة للطعام، وتبعتهما الخادمة، طلب ماركيز من السيدة رعاية ضيفته، فوافقت المرأة بكثير من الامتنان، ثم التفت نحو صوفيا قائلا، سأعود بعد خمس دقائق، أرجو أن تعتبري البيت بيتك.
لم تحرِّك صوفيا ساكنا، بل بقيت مثبتة في مكانها من هول ما وجدت نفسها فيه، تملكتها الدهشة بشكل كامل، خرج ماركيز وسار باتجاه مساحة مجاورة كان يفصل بينها وبين غرفة الطعام جدار زجاجي سميك، بعدها راح يقترب ماركيز من مسبح كبير، وهو يتمتم ويبتسم، قاطعت الخادمة تأملات صوفيا قائلة: إنها السيدة جاكلين، هي تسبح في هذا الوقت كل يوم، وهي سباحة ماهرة فعلا، تعشق السباحة كما يعشق السيد ماركيز الصيد، وقد اضطر السيِّد ماركيز بعد انتقالهما إلى هذا البيت لهدم كافة الغرف التي كانت موجودة في الطابق الأرضي حتى يخصص لها مساحة لمسبحها، مبقيا فقط على غرفة مكتبه، غرفة الطعام والمطبخ، ثم اقترحت عليها شرب كوب عصير.
وافقت صوفيا على شرب العصير ليس حبا في العصير وإنَّما استجابة إلى رغبة قوية بداخلها لمواصلة مراقبة حركات ماركيز وجاكلين، فانصرفت الخادمة بسرعة البرق، بينما صوفيا وقفت من مكانها حتى تدقق النظر في جاكلين التي خرجت من المسبح بثياب السباحة، لتحتضن ماركيز دون أن تعير انتباه لتبليلها قميصه الأبيض الزاهي، كانت فتاة شقراء، شعرها أصفر لدرجة البياض، ممشوقة القوام، متوسطة الطول، هكذا بدا لصوفيا الأمر بالمقارنة بطول ماركيز، لها عينان زرقاوان بلون البحر، وسرعان ما انهالت على ماركيز بقبلات وأحضان وكأنَّها تفعل ذلك للمرة الأولى في حياتهما، سرت في صوفيا قشعريرة مخدرة جمَّدت الدماء في عروقها لما شاهدته من انسجام بين ماركيز وجاكلين، حبست صوتا أراد الخروج على شكل صرخة تعلم بها المدينة كلها بمصابها، بخسارتها، لكنها لم تقدر على فعل ذلك، فالتزمت الصمت، صمت كصمت الموتى، فأحيانا يندم المرء على قرارات يتخذها في لحظات غروره، يتحمَّل حمل ذنوبها بقية حياته، هذا ما فكرت به صوفيا وقتئذ.