قاد ماركيز سيارته باتجاه احدى المطاعم الفاخرة في مدينة الفن والتاريخ، ركنها بصعوبة لأنَّ الشارع الذي يقع فيه ذلك المطعم هو شارع فرعي ضيِّق، لأنَّه عبارة عن ملجأ للعشَّاق الذين تحرمهم أرض القراصنة مِن كافة الأماكن حتى تضيق عليهم السماء قبل الأرض بحبهم، لطالما اعتبرت "الجنَّة ما وراء البحر" الحبَّ جريمة والعشاق مجرمين في حقِّ الحياة والتقاليد، فهي قد تسامح السارق، الخائن وقد تغفر للقاتل، لكنها لا تسامح أبدا قبلات المحبين وأحضانهم.
ركن ماركيز السيارة بصعوبة، ودخل باحثا عن صوفيا التي انتظرته بشغف هناك، مضت عدَّة أشهر على انفصالهما، رغم أنَّ علاقتهما قد استمرَّت لأعوام، وبمجرَّد أن لمحته يدخل من الباب ويقف في وسط قاعة المطعم قبالة خشبة العازفين، حتى قامت إليه ملوحة لترشده إلى طاولتها، وبالفعل سار ماركيز وهو يحبس أشواقه إليها بين الطاولات، وبمجرَّد أن وقف بجانبها حتى ارتمت صوفيا بين احضانه، وراحت تقبِّله بحرارة كما كانت تفعل في الأيَّام الخوالي، تمالك نفسه واستعاد بسرعة دور ماركيز المُحتَرَم، قبل أن يصدَّها طالبا منها المعذرة.
جلس إلى الطاولة بهدوئه المعهود، وجلست على الطرف الآخر، وهي تلتهمه بعينيْها الأندلسيتيْن، محاولة رمي سهام الأشواق لإصابة كافة نواحي حضوره، فهي لطالما بقيت تتلوى فوق جمر الشوق إلى ذلك السكون الذي يميِّز حبيبها ماركيز، والذي استعملته لسنوات لأجل الاستكانة إليه، لأنَّه يبعث في عمقها شعورا بالأمان، ذلك الشعور الذي يكفل علاقات المحبين حتى نهاية الحياة، هي كانت تعرف في قرارة نفسها بأنَّها خسرته، خسرت رجُلاً كان وفيا لها حتى النهاية التي دفعته إليها مضطرة.
سألته عن حاله، عن حياته، لكنه اكتفى بإجابات مقتضبة، قبل أن يقترح عليها نقل موعدهما إلى بيته الذي علمت منه فجأة أنَّه قريب من هناك، بلعت ريقا بصعوبة كأنَّها تبلع سكينا حادا، قبل أن توافق متسائلة: هل استأجرت بيتا في هذا الحيِّ الراقي؟ لابد أنَّ الايجار في هكذا أحياء باهظ الثمن؟ سعره يصل إلى عنان السماء حتما.
ماركيز: هو بيتي، لقد اشتريته قبل زواجي بشهريْن!
- تزوج إذن؟ بهذه السرعة تزوج، فلما قبِل الحضور إلى موعدهما؟
أضافت صوفيا وهي تحبس صراخا استولى على كيانها: وهل تقبل زوجتك بحضوري إلى بيتكم؟ هذا غير معقول!
ابتسم ماركيز كعادته في هذه المواقف بسلاسة، قبل أن يجيب قائلا: هي ليست مِن القراصنة حتى ترفض، طبعا ستكون سعيدة بصداقتكِ لو رغبت في الأمر.
آه! هي أجنبية إذن... هكذا رنَّ صوت ما بداخل صوفيا.
لكن ماركيز أضاف قائلا: لقد التقيتُ بها أثناء زيارتي لكاليفورنيا، وقد وافقت على الزواج بي بعد أسبوع فقط مِن تعارفنا، لهذا سارت كلُّ الأمور بسرعة، حتى أنا لا أجد لها تفسيرا، هؤلاء الأمريكيات يتصرَّفن مثل حركة المؤشرات في بورصة وول ستريت، سريعات في اقتناص الفرص بشكل مدهش!
ما كان أمامها أن ترفض العرض، لقد أغوت صوفيا المعروفة بفضولها القهري فكرة التعرُّف على زوجة ماركيز لحدَّ أنها سألته مجددا وهي تحت تخدير تام: هل نطلب سيارة أجرة للوصول إلى البيت؟ أم أنَّ المنزل قريب، يجعلنا نصل إليه فقط سيرا على الأقدام!
عاد ماركيز ثانية للابتسام بمكر، وهو الذي يعرف صوفيا أكثر مما تعرف هي نفسها قبل أن يحمل قبعته ذات الطراز الإيطالي ويمسكها من يديها بحركة سحرية، ثم همس لها بصوت خافت يكاد لا يُسمع: إنَّ سيارتي في الخارج، وهي حتما رهن إشارتك وتحت طلبك.
لم تقاوم صوفيا هول الصدمة، بل استسلمت لها بسهولة، بدا لها أنَّ الصبي ماركيز الذي رمت بمشاعره على قارعة الحياة، بل ذلك الفتى الذي طلبت موعدا معه لتستعرض أمامه ما كانت تعتبره إنجازات حققتها بغيابه، قد صار رَجُلاً كاملا فجأة، وها هو يستغل الموعد ذاته ليشعرها بمدى حجم الخطأ الذي ارتكبته عندما أغلقت باب قلبها في وجهه، وبين زحام الأفكار، عاد ذلك الصوت من جديد ليذكرها بآخر رسالة نصية وصلت هاتفها منه قبل أشهر، تلك التي تضمنت كلمتيْن فقط: سوف تندمين.