بعد خروج تلاميذه إلى ساحة المدرسة، بقي يراقبهم من فوق، يوجههم أحيانا من مكانه بجانب سارية العَلَم الوطني، وبعد عبور التلاميذ من المطعم لأخذ وجباتهم، وخروجهم من المؤسسة تلك، عاد بخطوات متثاقلة إلى قسمه الذي يسكنه الغبار، كما سكن ولعقود عقولا كثيرة على أرض القراصنة، بهدوء لا نظير له سار بين صفوف الطاولات ذات الخشب المغشوش حتى وصل إلى المشجب، نزع مئزره بلطف مبالغ فيه، ثم استدار ناحية آخر نافذة على يساره، فتحها، حدَّق بعيدا في الأرجاء التي تنتشر فيها المنازل الذي يكسوها اللون الأحمر، لون البؤس، وسمح لنظراته أن تعبر الوادي الذي صار طريقا بسبب فساد مسؤولي القراصنة، الذين سمحوا للمافيا المالية بالانقضاض عليه وتحويله إلى مشاريع سكنية للطبقة الفقيرة، معرضين الكثير من الأبرياء لخطر الإبادة غرقا، في حال رحل الجفاف عن "الجنة ما وراء البحر" وعادت سنوات "الخير والْخمير".

أشعل سيجارة، وسمح لنفسه بنفخ الدخان عبر تلك النافذة، لتعبر عقله الكثير من الأفكار، أهمها ذلك السؤال الجوهري الذي يرافقه منذ دخوله هذه المؤسسة الصغيرة التي تعبِّر عن عمق ثقافة القراصنة، فصار ماركيز بعدها يُقرن اسمه بلقب أستاذ، معلِّم، الشيخ... الخ، وطبعا هو يعتبر هذه الألقاب مخدرات للضمير ووقودا للغرور الذي يصيب القرصان بسبب تعطُّشه للمجد، فتجده يقنع ذاته بواسطة هذه الكلمات الكاذبة بمدى عظمته التي لا يراها سواه.

ما الذي يفعله هنا؟ صحيح أنَّه يجهد نفسه ليزرع بعض البذور الجميلة في نفسيات هؤلاء الصغار، لكنَّه لا يستطيع نسيان ذلك الظلم الذي عانى منه بسبب تلك الضربة التي تلقاها من جامعة القراصنة، وبعيدا عن ادعائه الاجتهاد في تقديم دروس لهؤلاء – أبناء القراصنة – فهُم في آخر المطاف سيصبحون قراصنة كغيرهم، بعضهم يأكل البعض الآخر، يخضعون كلهم ودون استثناء لقانون "الأقوى يأكل القوي" بينما الضعيف مكانه في اللا-تعيين أصلا، لأنَّ الأستاذ ماركيز مقتنع بعد تجارب كثيرة امتدت لسنوات في التدريس بأنَّ المنظومة "التعليمية" على أرض القراصنة مصممة بشكل متقن بواسطة عقول تخدم العدو، والغرض منها إنتاج أجيال على شاكلة الساذج "أمين الزاوي" أو الذليل "كمال داود" أو ربما أبشع بكثير.

وجد السيجارة قد شارفت على النهاية، فرمى بعقبها من تلك النافذة، ثمَّ عاد إلى مكتبه بخطوات متوازنة وبشكل أكثر هدوء، جلس الأستاذ ماركيز يقرأ كتاب "العواصف" لأمير نيويورك جبران خليل جبران، قرأ جزء منه لكنَّ الجوع تمكَّن منه، فهرع باتجاه الخزانة الخشبية فأخرج القليل من الخبز، وعلبة تصبير سمك التونة، ليجلس إلى طاولة من الطاولات المتناثرة أمامه، ثمَّ أكل بنهم وبسرعة، نظَّف المكان بشكل محترف، أخذ كأسا من الماء من قارورة وضعها سابقا في احدى زوايا ذلك القسم، ليعود بعدها إلى مكتبه الخشبي البني اللون، جلس مسترخيا، ورائحة السمك تحوم حوله، نزع حذاءه الأبيض واحتفظ بجواربه على قدميْه، ثمَّ أغرق نفسه في قراءة العواصف.

يرى الأستاذ ماركيز في التدريس كعمل ضرورة لا اختيار، فالبطالة في "الجنَّة ما وراء البحر" قد بلغت أرقامها حدودا لا سبيل لتحمّلها، كما أنَّه لم يجد مكانـا يعمل فيه سوى تلك المؤسسة البعيدة عن مقر سكناه، والبائسة بمحيطها العفن، إضافة إلى هذا فهو بحاجة إلى المال والذهاب كما الإياب إلى ومِن تلك البناية، حتى يوهم مجتمع القراصنة بأنَّه في أفضل الأحوال، لربما يسكِت بعض الأفكار الحاقدة.

الأستاذ ماركيز يعلم بأنَّه لن يبقَ في التدريس، وحدسه الذي لطالما حمله إلى فضاءات ومغامرات كثيرة، يحدِّثه بأنَّ الوضعية التي رسمتها عقول باريسية واجتهد في تنفيذها بعض المنافقين من كبار القراصنة على أرض "الجنَّة ما وراء البحر" حتى تبقيَ كلَّ قرصان مِن جيل ماركيز برصنه، لن تكبِّل عقلا متقدا وعزيمة أكثر صلابة كعقل وعزيمة الأستاذ ماركيز، حتى ولو كان ذلك الرصن من أجود ما يكون.