إنَّهُ يوم الخميس، اليوم المفضَّل لماركيز من بين أيَّام الأسبوع، هو يلبس أبهى ما لديه في هذا اليوم المميَّز بالنسبة له، يخرج أثناء وقت الاستراحة إلى حانة "الخشب" المجاورة ليشرب بعض كؤوس مِن الويسكي (Whisky) دون أن يثمل طبعا، مدخنا في الوقت ذاته بعض سجائر الغولواز (Gauloises Blonde Bleu)، لكن قبل وصوله إلى ذلك الفردوس الروحي، يمر الأستاذ ماركيز بمكتبة تقع في مقابل مبنى إقامة البنات الجامعية، ليأخذ صحيفته المفضلة ليوم الخميس، هي صحيفة تصدر بالفرنسية، تحت عنوان "الحرية" (Liberté)، فهو يحب هذه الصحيفة بالذات، وهو مرغم على قراءتها رغم صدورها بلغة "العدوِّ" بالنسبة لماركيز، بسبب مقاليْن أساسييْن، يصدران على صفحاتها كلَّ خميس، مقال للكاتب أمين الزاوي، هذا الكاتِب الساذج حدَّ الهستيريا، ومقال للكاتب الذي يعبد باريس حدَّ القرف، كمال داود؛ والذي يعتبره ماركيز كاتبا مصلوبا على ليَّة خنزير ولِدَ على عتبة الطاحونة الحمراء.
الخميس هو اليوم المفضَّل عند القراصنة كلَّهم ودون استثناء، خاصة المتزوجين منهم، ليلته هي مقدَّسة بوصفها المفضَّلَة للاتصال الجنسي بالنساء، وهو موعد مقدَّسٌ لدى قرصان كماركيز، فرغم أنَّه ليس متزوجا بعد، إلاَّ أنَّه يحلم بهذا الموعد الهام منذ سنِّ المراهقة، لهذا تجده كلَّ خميس، يثمل قليلا بتلك الخمرة المعتَّقة، مدخنا ما يشتهيه من السجائر، ومطلقا لنظراته الخاطفة باتجاه الجامعيات، هؤلاء المراهقات اللائي يرصدهنَّ مجتمع القراصنة كما ترصد المجتمعات الأوربية المومسات والعاهرات سواء بسواء، قبل أن يسمح لنفسه بالانغماس في أفكار الزاوي المتنكِّر إلى اسم أمين والحالم بجائزة نوبل لحد استعداده للتضحية بمؤخرته فداء لذلك، أو كمال الذي يهاجم كلَّ ما هو مسلم بقناع أكثر تطرُّفًا وغلوًّا.
يشربُ ماركيز بعض الكؤوس فتنطلق أساريره وينير وجهه بينما هو جالس في أقصى زاوية في الحانة، تلفُّه سحابة من الضباب الذي يشكّله الدخان الذي يصدر عنه كمدخنة لندنية عريقة، وبين الحين والآخر، يرفع عينيْه تحت قبعته الإيطالية الطراز، ليلقي بنظرات ثاقبة على تلك الراقصة التي تهزّ جسمها على مسرح خشبي صغير نُصِب على الجهة الشمالية لتلك الحانة، إنَّها الأنغام المفضلة لدى ماركيز، أغنية الطفل الضائع (The Lost Boy) للمغني الرائع غراي هولدن (Greg Holden)، دائما ألهمت كلمات هذه الأغنية الحس الإنساني لدى الأستاذ ماركيز، فبمجرَّد سماعها، ها هو يطوي جريدته، ليضعها على الطاولة، يفلت سيجارته من فمه، ويتركها تسقط أرضا، قبل أن يترك قبعته على كرسيِّه، وينتصب واقفا، يسير باتجاه الفتاة التي ترقص بشكل متناغم مع الموسيقى، تلك التي تلبس لباسا اسبانيا عريقا، بشراشف عند الصدر وكافة حوافه، تنتعل حذاء أسود ذا الكعب العالي، وتضع على رأسها من الجهة اليسرى احدى الأزهار، تلك المثبتة بملقط رقيق، بينما جسمها الأبيض ينساب بين أنغام الموسيقى كما تنساب الدلافين بين الأمواج، وفي لحظة خارج الزمن والجغرافيا، ها هو الأستاذ ماركيز يمسك بيد الفتاة وهو يقوم بحركة دائرية شدّت كافة الأنظار إليهما بينما هو يردد:
لذلك انتظرت سنوات طويلة
أحمل ألما خلف دموعي
من أجل أبي، ريثما يجدني كما وعدني
قضيت ذلك الوقت وحيدا،
سنوات كثيرة بلا وطن...
استقبلت الفتاة ماركيز بحركاتها وابتساماتها، ودار بينهما حوار بلا كلام، وما أبلغ الحوار بلا كلمات حينما يصحب الراقصة والراقص على مسرح الحياة، بحيث يعتقد ماركيز بأنَّ الكلمات هي سجون للمعاني التي تأبى العبودية، بل إنَّ هوسه بمحاربة العبيد جعله يكتب بنهم، قتال ثقافي رهيب يخوضه ضد ناشري الأغلال في كلِّ مكان، وهو يرقص غفا عقله تماما، حيث وجد ماركيز الأمان بين ذراعيْ راقصة في حانة، وافتقده على مصطبة المعارف في المدرسة، يا لهول الحياة!