دخلتُ مكتبة "الشمس" بلؤلؤة المغرب الكبير كعادتي كلَّ شهر، ومررتُ باتجاه الطابق السفلي مباشرة، متجه نحو كتب اللسان العربي الذي أعشقه حتى النخاع، وعند الزاوية الأولى للانعطاف، وقعت عيني على رواية "مائة سنة من العزلة"، ودون أن أدري ما حلَّ بي، وجدتُ نفسي أحمل رواية "الحب في زمن الكوليرا" بدلا من رواية "مائة سنة من العزلة" للكبير غابرييل غارسيا ماركيز.

قرأتُ عن النهر الذي يسمونه ماركيز غارسيا غابرييل كثيرا، لكن وبكل ألـم، لم أقرأ له قبل اليوم، لطالما صادفتني مقولاته، أقواله، مقاطع من رواياته، وحتى بعض الآراء التي أبداها في بعض المواضيع، ولكنني لم أعرفه قبل الآن، ولم استحم بعد بأفكار هذا النهر اللاتيني العريق.

الجميل قبل قراءة رواية ماركيز هو أنَّ الكاتب من بلاد "الزعيم"، وهو ينتمي إلى الأدب اللاتيني في صيغته الإسبانية، هذا التوجُّه شجعني على قراءته الثائر تشي، فرحت أبتهج عندما أقرأ لكتَّاب هذه المنطقة من العالَم، لأنَّني أشعر بأنَّ بلدي "الجنة ما وراء البحر" يشترك في الكثير من الخصائص مع هؤلاء الثوار، خاصة ما يتعلَّق بالتراجيديا المعيشية، تلك التي اسمدت حضورها من الجانب الديني بصيغته الاجتماعية، القالب السياسي المغلق والصندوق الثقافي المفتوح على كافة أنواع الحياكات والحكايات، إضافة إلى شعوري العميق بما تمليه المعاناة على البشر، حتى يصبحوا غير قادرين على تجاوز مهامهم المقدَّسة عندما يتعلَّق الأمر بواجباتهم نحو الإنسانية والنبلاء.

كلُّنا يعلم بأنَّ ماركيز قد فاز بجائزة نوبل للآداب، عن الأكاديمية السويدية التي لا أفهم لحدِّ الساعة كيف تختار الفائزين بالجوائز في عالَم تضبطه المعايير والمقاييس، فأيَّة معايير تحكم أوصياء "العالِم نوبل" عبر الأجيال!

انتظرتُ حتى نهاية الأسبوع، جلستُ في غرفتي وحيدًا بعيدا عن ضوضاء عالم القراصنة، ورحتُ أحمل كتاب ماركيز مخاطبا روحي كعاشق يحمل جوهرة ثمينة مخاطبا حبيبته، ومع صفحات الكتاب الأولى سرت في جسدي قشعريرة غريبة، ازدادت وسيطرت علي حينما أنهيتُ قراءة مسيرته وحياته، خاصة عندما قرأتُ ما يلي: "عمل صحفيا وجاب كثيرا من بلدان العالم أهمها روما، وباريس عام 1960، حيث كان بلا مال سوى من ثمن تذكرة العودة الذي استعاده، فاضطر إلى بيع الزجاجات الفارغة والاشتراك مع آخرين من مواطني أميركا اللاتينية في تبادل العظام ليصنعوا منه الحساء!" (غابرييل غارسيا ماركيز، الحب في زمن الكوليرا، ص: 07).

لقد أعادتني معاناة ماركيز المادية في تلك الحقبة من حياته إلى تلك الذكريات التي حملتها رواية "قاتلي يتدرَّب في شيكاغو"، وهذا ما يؤكِّد لي بأنَّ عوالِم الجنوب تسير بالوتيرة ذاتها مع تفاوت هذه الأخير في الحدَّة والسرعة، مَن يولد على أراضي الجنوب سيعاني مهما كان لونه، لسانه، دينه وحتى انتماؤه، إنَّ الجانب المظلم من الحياة يطال ابن الجنوب حتى ولو كان شماليا من حيث الموروثات والثقافات، بل إنَّ الفترة التي تشهد وقوع الجنوبيِّ في وحل الجنوب، هي التي سترسم له ما تبقى من أيَّامه، فلا يُعقل أن يتركه التَّرح الجنوبي ويرحل، بل إنَّ الحزن سيحتلُّ ما يسميه تجار الأوهام النفسية بـ: العقل الباطني، ومنه تتجه حياته نحو القرصنة بدل الأنسنة.

ماركيز – هذا النهر اللاتيني – لم ينجوا من اعتقال الألم مسلَّحا بأفراد من قوات الدموع والنحيب ما بقي له من فؤاد، فراح يدق الكلمات على جسد الإنسانية كمَن يدقُّ المسامير على حواف الخشب، وهي قيمة روحية رفيعة عندما تصهرها روائع الشفقة والحنين إلى الأنين، وسجلوها على رقبتي: غابرييل غارسيا ماركيز – هذا النهر اللاتيني – لولا تبادله للعظام مع عمال من أميركا الجنوبية على الأرض الأوربية، لما كان له ما كان ولا يزال.

.................................

[email protected]