يَسمُو الإنسان بالحبِّ الذي ينثره على صفحات أيامه، يجعله يقف أمام الريح ويقاوم وخز الابر ولسعات سرب الدبور، المحبة تكبر في الداخل الإنساني رغما عن الإنسان عينه، هي الفعل النبيل الذي يجعل الإنسان إنسانا، بحيث لا يمكنني أن أتخيَّل إنسانا بلا ابتسامات صادقة تنبع من عمقه، ولا يمكنني أن أشعر بحضور الإنساني من حولي دون التماس الثقة بيننا، هنا تتجاوز الإنسانية كافة حدود المعقول، لتطلق للبشر مجالات ناعمة لا حصر لها.
الحبُّ فعل، هو أحب يحب وأحِبْ، ومنه نستخرج الأسماء كالحب والمحبة، هي طريقة سرمدية تعبيرية كما يحرِّك الفرد ليكون واحدا من النبلاء الذين يبذلون أنفسهم من أجل البقاء على طريق العلماء، الفقهاء والأنبياء؛ فقد صاغ مُحي الدين بن عربي الشيخ الأكبر الدين ملخصا إياه في الحب حين قال: الحب ديني وإيماني؛ كما عالجت الفلسفات والثقافات جروح البشرية بمحبة الإنسانية، ولنا في تلاميذ سقراط أوضح الصور، فأفلاطون قد بكاه حبرا، بينما أرسطو عن التمس في موته العزاء عقلا ومنطقا.
الحب هو الذي جعل طروادة تنهار، والجزيرة العربية تحترق تحت قعقعة السيوف، وعمورية تفتح استجابة للنداء وهتلر يذيب اليهود فداء لرؤياه، الحب سلاحٌ بقدر ما يدمر الخصم هو يدمِّر الذات، وهو دافع بقدر ما يبني الصروح هو يهدمها، وهو حياة بقدر ما تجعلنا نبتسم هي تسرق من أعيننا أهم الدموع وأغلاها.
يا أيُّها الأخ!
أبذر الحب بدل الشوك، وازرع المحبة على سجادات الأمل، وقدِّم مشتقات العلاقات على أطباق الذبول ومساحات الثراء، المحب هو الغني بما يملك من مشاعر وأحاسيس، وهو القوي بما يمكِّنه من التعبير عمَّا يصارع البقاء بداخله، فأهمُّ الدروس يتعلَّمها المرء حين يحب، وأبلغ المعاني يحملها المحبُّ حين يسجى على مذابح الاعترافات، هو المسافة بين الذات والكيان، بين الفرد وما يسكنه من إنسان.
على تلك المسيرة الزكية يبني الإنسان بقايا القلاع الضخمة لينجز ما أراد، يسكنها طامعا في الارتقاء لدرجة الصفوة من البشر، ثم يعيد هدمها بمعاول الذكاء حتى يُصرع ليصبح طريح فراش الحكمة، وبعدها تجده يستنجد بالحب حتى يرمم ما بقي له من أمل في النجاة، عبر الكلمات.
هي المسيرة ذاتها التي جعلت نبي الإسلام محمد عليه الصلاة والسلام يعشق السيدة عائشة أمُّ المؤمنين حدَّ الجنون، فتتربع على قلبه النقي حتى آخر لحظات عمره، ويُدفَنَ في حجرتها ليبقى في حضنها حتى بعد الموت، هي المسيرة التي جعلت ذلك الامبراطور الهنديّ يبني لمحبوبته صرح تاج محل، مخلدا ذكراها بالياقوت والألماس.
تضيع البوصلة حينما نحب بكل ما نملك من أحاسيس، نصاب بالدوار، يتعطَّل العقل، فنصبح شعراء نفدي القلوب بالأبيات والعروض، نقصد العذارى طلبا للرضى وحاملين قرابين الشوق لنهديها لآخر الآلهة، لعلَّه يعلقني على جبال الألب ويستدعي كافة صقور السماء لتأكل قلبي الضاحك.
أيتها العذراء!
لكِ منّي خالص الحب الذي لم يملكه إنسان قبلي، ولا مَن بعدي،
لكِ أغلى ما تريده النساء، وهو الفداء والوفاء،
لكِ عناوين الحكايات على اختلافها، وقيم الشرفاء جميعا،
أنتِ وحدكِ مَن يستحق الاستمتاع بالحياة، فلو كان العمر يوهَب أو يُعطى لأضفتُ لعمركِ مِن عمري.
لكنَّ القضاء يغلب الإنسان، والمكاتيب رهينة بيد الأقدار، وما يتمناه الفرد لا يُدركه بالضرورة والحتمية، ومع ذلك لا أجد نفسي قادرا على تخيُّل عالم بلا حب أو محبة، ألم يحارب الراهب فالنتاين هذه المحجة بما يرغب الفرد ويبغي؟
الحب شفاء لكلِّ أنواع الشقاء، والبائس لا يعرف مذاق ما أحدثكم عنه، بينما النبلاء لهُم من الحب/المحبة النصيب الأوفر، فالحياة قد تخضع للغني، وتهب ذاتها للتقي، وتخدم العالِم كما لم تفعل مِن قبل، لكنَّها أمام العاشق والمتيَّم، فإنَّها تعطيه كلَّها وكنهها بلا تردد، إنَّها الشريعة التي يطبقها الكلُّ أمام محكمة الأيَّام والأحلام.