مِن الجميل أن يعيش الفرد الإنساني مرحلة رائعة مِن حياته، يحدِّثُ أقرب الناس إلى روحه، هؤلاء الذين نضع فيهم ثقتها، تتملَّكنا اللهفة للحديث معهم، وقلوبنا تُشغل بهم عندما يغيبون مؤقتا، ثمَّ لا نلبث أن نفقدهم إلى الأبد، فيسكننا الحزن، ننزوي وننكمش، ونعيد حساباتنا: هل أخطأنا في حقهم دون أن ندري؟ هل تجاوزنا المسموح به ونحن نحدِّثهم؟ هل نحن مذنبون عندما نحبُّ بصدق؟
تلك الخيبة التي نحملها بفقدان مَن نحب أقسى مِن ألم وقوع السياط على ظهر الإنسان، الألم الذي يسببه الفراق شنيع للغاية، خاصة إن كنت تحب ذلك الشخص بعمقك، ثمَّ وفجأة اختفى دون مبررات تقنع عقلك الذي يصبح كاليتيم بغيابه، يا الله! ما أصعب أن تجد نفسك في صحراء الروح وحيدا، بعدما تكون قد أمضيت أيَّاما بعمر السنين في قمَّة الفرح بجانب أقرب الناس إلى قلبك! شعورٌ لا أتمناه حتى لأعدائي.
يقول أمير نيويورك: "إن أشارت المحبة إليكم فاتَّبعوها، وإن كانت مسالكها صعبة متحدِّرة، وإن ضمتكم بجناحيْها فأطيعوها، وإن جرحكم السيف المستور بين ريشها" (جبران خليل جبران، النبي، ص: 22).
جرحني ذلك السيف في الصميم رغم حذري منه لسنوات، أحدث في روحي شرخا يحتاج لمراهم العالَم والتاريخ حتى أتمكن من جبره، خلَّف في ذاتي جرحا عصيا عن الالتئام، أسال الدمع مِن عيوني وأنا الذي كان قبل هذا متربعا على قمَّة السعادة الوجودية، لقد خُطفت النجوم مِن بين يداي، ورحت أبكي ظلم الإنسانية على مسامع الجميع، حتى عاد صداه إلى نفسي حينما سجن كياني بين جدران التَّرح والألـم.
هي طعنة أخرى مِن بروتوس في قلبي ووجداني، هو كأس جديد مليء بالسم أشربه بدلا من سقراط، هو حبل مشنقة يخطف روحي عوضا عن عمر المختار، وهي وحشة العزلة التي دخلتها إراديا حدادا على وضعي مثل تلك العزلة التي عاشها ابن رشد رحمه الله، هكذا هُم الكبار على راحة الإنسانية، يُقتل النبلاء على حين غرَّة، ليرتقوا على سلالم الخلود بأناقة.
المكتوب يلعب دوره الحاسم، والقَدَر أقوى منَّا جميعا، وما أنا سوى فيلسوف وحيد بين أمواج الجهالة ينشد المحبة والسلام، فما نال إلاَّ اليسير مِن مراده ذاك، هناك قصص محتومة النهاية في عالَم يعشق النهايات، وهناك مشاعر تتدفق معلنة البهجة والسرور، لكنها سرعان ما تتحوَّل إلى نزيف حاد يرهق الجسد العاطفي كلَّه، هي دورة حياتية كاملة، كان لي شرف عيشها بكلِّ رقيّ.
حين يسمو الليل وتنفجر الأحاسيس الدافئة حول الإنسان معلنة عن ميلاد آخر مهدٍ للآلام، أولد أنا أيضا، أحمل شوق الشوق بيدي اليمنى، وأنين الفراق باليد اليسرى الدامية، استخدم كافة قواي حتى أمنع سقوط دمعة على خدِّي الطفولي البريء، فتتعالى جلالة شهقة كانت مكبوتة لوقت ليس بالقصير أثناء فترة الوداع، ثمَّ أحاول بعدها أن أجمع شتاتي بخيط الأمل، يا أيتها الحياة كم أنتِ ظالمة! تفرِّقين بين الأحبة الذين صارحوك وكانوا أمامكِ مِن الصادقين، وتمنحين السعادة للمنافقين دون حساب ولا صواب.
لكلِّ قَيْسٍ ليلاه، ومِن الوضوح كشمس أيام نضج العِنب بأنَّ ليلاي قد فقدتها، جرحٌ عظيم كأكلي لأطباق مِن الإبر واللهب، شعور يخنقني وأنا الحامل لقلب ينبض محبة وطمأنينة، أعترفُ لقد هزمتُ أمام قلبي هذه المرَّة، لقد استسلمتُ لمَن أحببته (ها) بشكل جارف، جعلني أسكب الملح على جروحي مبتسما.
الأجمل في هذه الحياة أنَّها مستمرة وبلا توقف، هي لا تقف عند أيٍّ كان، ولا حتى أنا، هي تمضي لتجعلنا ننسى بمرور الأيَّام والزمن، لكن هناك ذكريات تبقى حيَّة في الداخل الروحي للإنسان، منها ذكرى هدية النيل إلى قلبي... مني سلام.