في كلِّ مجتمع تنموا الأعشاب الضارة حول البساتين الأخلاقية والمروج المعرفية بشكل لا بأس به، وبالمقابل تتطوَّر أيضا الأدوات التي تُستعمل لإزالة هذه الأعشاب والتخلص منها، فنجِد المجتمع هو ذاته يستخدم كافة إمكانياته حتى يبقى صافيا نقيا وقادرا على مواجهة هذه الطفيليات التي تتناثر على راحة عقول أبنائه المخلصين والنبلاء من أفراده؛ محاولة إفساد إصلاحاتهم وسعيهم في هذه الحياة بما هو مفيد للبلاد والعباد.
هذا ما يخصُّ المجتمع بالمقاييس النفسية والحركية للتجمعات البشرية والإنسانية، لكن في بعض أصقاع هذا العالَم الفسيح، هناك تجمُّعات لا ينطبعُ عليها مصطلح المجتمع، خاصة في القارة الأفريقية، وبالخصوص في شمالها، حيث يكون لأدغالها الدور الحاسم في تشكيل شخصيات أبنائها، ليصبحوا إمَّا قطَّاع طُرق عبر طرائق مختلفة تقود إلى النتيجة ذاتها، ألا وهي الإجرام في حق المحيط والذات، أو الارتقاء إلى مرتبة القراصنة، فيصبحوا ذو مهمات تخريبية عالية التأثير ومتقنة التدمير.
هؤلاء القراصنة يُصنعون بقالب التزييف والأخذ بكلِّ ما هو خرافي بعيدا عن الواقع، بل ويعمدون إلى إخراج الواقع من منطقه ليجعلوا الأمور تبدوا وأنَّها غير قابلة لا للإصلاح ولا للمسايرة، يرفعون رايات السواد ليشنقوا النبلاء مِن بني جلدتهم بقبضات القنطة واليأس، إنَّهم شياطين يتظاهرون بالإنسانية، بل إنَّهُم أبشع من الشيطان عينِه.
وأخطر أنواع التزييف هو ذاك الذي يمسُّ العقول على اختلافها، فيتنشر التزوير بين الأروقة الأكاديمية حتى يصبح المعتاد هو ما يكون غير حقيقي، بل إنَّ الفكرة الصافية البريئة العذراء، لا تجد أثرا لها في قواميس القراصنة، إن كانت لهُم قواميس خاصة أصلا، حيث تُصبح النخبة عبارة عن حفنة مِن الأشباح على كافة المستويات، سواءً النفسية، الشعورية وحتى الجنسية.
هنا يفقد الإنسانُ كلَّ مظاهر الإنسانية، يتدحرجُ مضطرا نحو الحيوانية بكامل توحشها، تختفي معالم البراءة على وجوه أطفال هذه الأدغال، وتحلُّ محَلها قَسَمات الوهن والاستغلال، تتعالى صيحات طلب المساعدة مِن كلِّ صوب، ومع ذلك يندر المستجيب ويبقى المنقذ غير موجود.
عقل مسجون، عقول مطرودة ومطارَدَة، أخرى تمَّ اغتيالها، والباقي يموت في بئر السُّكوت، إرضاءً لهؤلاء القراصنة المتعطشين للدماء والمهووسين بتفجير كلِّ ما يرفع قيمة هذه الأرض إلى مصاف القدرة على البناء؛ الأمر يصعب هضمه أعلم! لكنه واقع لدى ملايين البشر على أرض تحوَّلت مِن جنَّة إلى جحيم.
أيّها الهارب مِن البقاء خذني معك، أنتظرك عند محطة توران (Turenne) في نهار صيف حار، أقف بجوار تلك البناية الباريسية العتيقة، كلُّ ما فيها يذكِّرني بالإجرام في حقِّ الأنديجان، وكلُّ ما يحيط بها يعذِّب ما بقي لي مِن عقل.
إحباط، يأس ونفور، هذا ما جعلني نيو-أنديجان، جعلني جزائري، خذني معك أيها القطار بعيدا عن لؤلؤة المغرب الكبير... أرجوك.
عندما يرتدي القرصانُ معطف الحياة، فاعلم بأنَّ الوفاة تصبح حلاًّ مطروحا أمام العاقل مِن سكان هذه الأدغال، وعندما يصفِّق القطيع لهذا القرصان أو ذاك، فإنَّ ذوق العيش يختفي فجأة، وتجتمعُ في كومة واحدة كلُّ عناصر الخروج عن كافة المعايير، يصبح الملجأ الأخير من كلِّ هذا التردي هو الجنون، أو الدخول في حالة صمود لكن دون كلمات، هي قضية معقدة رغم وضوحها، وهي الأقرب إلى الانتحار معنويا بدل العيش بلا ذلك المعنوي الغارق في الأوهام.
أن تسكن مدينة مليئة بالأسرار وقلبكَ الحيُّ يبحث في كلِّ ثانية عن مخرج نحو ضوء النهار، فأنتَ بالفعل إنسانٌ سديمي الوجود، أين تنتشر في أنحاء جسدك القويم ما يدلُّ على أنَّك صرت قرصانا دون حتى أن تدري، صرت كهؤلاء الذين قرفت وجودهم ضمن دائرتك القريبة، أين يلتقي الغياب والحضور تحت قبَّعة واحدة.
.................................