أنا اعتبر الكاتب الروسي الكبير دوستويفسكي عالِمًا بالنفس البشرية وخباياها، وهو مؤسس علوم النفس بكافة ألوانها وزخرفها، فهذا واضح للأعمى قبل غيره، خاصة في رواياته التي تناولت الإنسان مِن جوانب ذهنية والفكرية مختلفة، كانت ولا تزال مسرحا لمعتركات الفهم عند الكثير من الدارسين وحتى المتخصصين في هذه المجالات، تلك التي تستعصي عن القدرة العلمية خاصة مبدأ الحتمية؛ وبالمقابل اعتبر "فرويد" أخرقا فحسب! وما مكانته التي يعتبرها بعض الشاذين فكريا قبل أيِّ شيء آخر عبقرية، هي مستوحاة مِن محاولة اليهود صناعة أساطير عن عبقرية جنسهم بطريقة عنصرية مكتملة المعالم.

تدور أحداث رواية "الوديعة" حول موضوع زواج أحد المراهنين الكبار بإحدى الفتيات البريئات، وطبعا تحت وطأة الفقر والفاقة، لم تستطع تلك الفتاة رفض طلب ذلك المراهن الفاجر للزواج منها، هربا مِن بؤس عائلتها وسلطة عمَّاتها اللائي كنَّ يؤذونها بكافة أنواع السبل، قبل أن تكتشف بعد الزواج بأنَّها تزوجت جبانا، كسب مكانته بالمكر والمراوغة، بل إنَّها وجدت نفسها في حالة نفسية متأزمة للغاية، فهو متسلِّطٌ إلى الحد الذي يجعله يكتفي بالصمت في حضرتها، عقابا لها، ويسترسل الكاتب في سرد تفاصيل هذه الشخصيات والأحداث إلى أن يصل إلى موقف الانفجار، حينما يتوضح للزوجة كلُّ ما كان يخفيه عنها زوجها، بعدها يقرر الزوج الخروج من هذا المأزق بالانهيار أمامها باكيا، واعدا إياها بالسفر إلى بولندا والبداية من جديد، وقبل السفر بقليل، يعود الزوج إلى المنزل وقد اشترى تذاكر السفر بالقطار، ليكتشف بأنَّ الموقف لم يعد محتملا لدى زوجته، ففضلت الرحيل عن هذه الحياة بواسطة الانتحار.

وَفي رواية "حادث مؤسف للغاية" للكاتب عينه، نجد الحوار ذاته يعود إلينا بطريقة مختلفة من حيث الشكل بين الطبقة الراقية والطبقة الكادحة، لكنه يبقى هو ذاته من حيث المضمون، هذه المرة ليس هناك مراهنا ثريا يحاول الزواج من فتاة فقيرة، وإنَّما نجد أحد الجنرالات المسؤولين عن الديوان، وبعد جلسة ممتعة في قصر أحد زملائه، وانغماسه في السكر والنقاش، وعند خروجه في مشوار العودة، يكتشف بأنَّ سائقه قد استغل العربة الخاصة به لأغراضه الشخصية، وقد تأخَّر، لهذا يقرر الجنرال السير على الأقدام عائدا إلى قصره الخاص، لكنَّه يصل إلى بيت تُسمع منه الموسيقى عن بعد، ليكتشف بأنَّه حفل زفاف لأحد العمَّال لديه في الديوان، فيقرر الالتحاق بالحفلة دون دعوة، وفعلا يدخل الحفل، لتكون المفاجأة بادية على الجميع، قبل أن يكتشفوا بأنَّه سكران، لكن رغم هذا يقدِّمون له حسن الضيافة التي تكلِّف العريس فوق طاقته، ويسبب لهم ازعاجا ورعبا لا نظير له بتصرفاته التي تصدر منه تحت وطأة الشراب، قبل أن يحرم العروسيْن من فراشهما كونه المكان النظيف الوحيد الذي يليق بصاحب السعادة؛ وعند طلوع الفجر يعود الجنرال إلى قصره، ليعتزل فيه الناس لمدة ثمانية أيّام، وبعدها يقرر العودة إلى العمل، يقصد ديوانه ويكتشف بأنَّ عريس تلك الليلة قد طلب الانتقال من الديوان خوفا منه، وهذا ما يجعله يوافق بغرور، ليوضح لنا الكاتب بأنّ كلَّ ما قام به الجنرال من سخافات وطيش وإفساد لزواج ذلك العامل البسيط، قد تحمَّلته العائلة الفقيرة تلك، بل بقي العريس ينتظر العقاب بسبب تصرفات قام بها صاحب السعادة!

نعم! في كلتا الروايتيْن يوضَّح هذا العبقري بأنَّ الطبقة الراقية لا تخطئ في عرفها وقواميس المجتمعات على اختلافها، وكلُّ ما يصدر عن أفرادها من تصرفات لا تليق بمقامهم، يتحمَّل عواقبه الفقراء الذين إمَّا يعيشون في حالات رعب بسبب أمور لا دخل لهم فيها، أو يكون لهم الانسحاب من الحياة عبر الموت، وهما حلَّان يجعلان الفقراء هُم الذين يدفعون الثمن دائما... لهذا عزيزي القارئ: لا تكن فقيرا في عالَمٍ لا يعترف إلاَّ بأصحاب السعادة.