منذ فترة قصيرة جدا، رحتُ أسبح في الأسلوب الجميل للدكتور أحمد خالد توفيق – رحمه الله، وقد أعجبتني تلك القدرة التصويرية لهذا الكاتب، وقد دفعتني هذه الميزة بالذات لقراءة الكثير مِن أعماله، سواء الروايات، المقالات وحتى المأثورات، وعن يقين، إنَّه قولا وفعلا يستحقُّ لقب العرّاب.
بعدها مباشرة أعدتُ قراءة الرواية الشهيرة للكاتب السوداني الكبير الطيب صالح – رحمه الله، هنا أنا اقصد: موسم الهجرة إلى الشمال، وقد وجدتُ ربما بحكم الجوار بين مصر والسودان وارتباطهما جغرافيا وتاريخيا تقاربا مذهلا بين الأسلوبيْن، كلاهما سلسل غير متكلِّف، يستعمل مفردات قريبة إلى الاستعمال اليومي ليريح القارئ من البحث عن بعض المفاهيم في القواميس والمعاجم، وقد يصل بهما الأمر أحيانا إلى استخدام بعض العبارات من اللهجات العامية، سواء المصرية أو السودانية، وهنا ولأوَّل مرَّة في حياتي وجدتُ ذلك الامتداد الثقافي ولمسته عن قرب في العالَم العربي.
تقارب الأسلوب بدا طبيعيا أو مفهوما إلى حدٍّ ما، لكن ما أدهشني أكثر، هو تقارب الأفكار أيضا، وخاصة فكرة الكاتبيْن عن الحياة، إذ وجدتها متطابقة نوعا ما، فِرفْعَت إسماعيل اعتبر الحياة عبارة عن حُلم، ويوما ما سنستفيق كلّنا منه، ونعود إلى ما كنا عليه في الأزل قبل ولادتنا، بينما مصطفي سعيد اعتبر الحياة أكذوبة كبرى، وما على محكمة الإنكليز سوى التخلص من هذه الأكذوبة لتريح البشرية منها.
المشهد المصري فيه نوع من الحياة أو المطالبة بها، فأن تستيقظ مِن الحُلم منطقيا هو عودة حتمية إلى العادي أو الطبيعي كما يصنفه الذهن البشري، بينما المشهد السوداني يطالب بالموت، لأنَّ التخلص من الأكذوبة هو عملية إقصاء أو إعدام، أي هي حالة خروج من دائرة عادية نحو اليقين.
سواء خرجنا من العادي أو دخلنا فيه، فالأمر واضح ولا يحتاج إلى تفسير طويل الشرح، إذ هو في الحالتيْن انتقال من حالة إلى حالة أخرى، بما يعني بأنَّ في الحالتيْن هناك إدراكٌ بأنَّ الحياة التي نحبها ونتمسَّك بها ليست كما نعتقد على الأقل، وسواء كانت حلما كما يراها المصري أو أكذوبة كما يراها السوداني فإنَّهما معا ينظران إليها على أنَّها مزيفة، وعلى الإنسان الحيّ – حيَّ الضمير على الأقل – أن يعمل جاهدا على اكتشاف ما هو مخفيٌّ خلف الحُلم والأكذوبة.
اعتقد بأنَّ الزيف الذي نعيشه هو وليد العقل، وهي نتيجة واقعية عندما نحاول صبَّ اللا متناهي في المتناهي، أي في هذه الحالة حصر العقل اللامتناهي في العالَم المتناهي، وهي عملية عقلية خالصة تجعلنا نؤلِّف القصص والخرافات عندما لا نجد تفسيرا علميا أو منطقيا لما يحيطُ بنا، أو للذي لا لا يسير كيفما نريد ونشتهي.
هذا ليس محصورا لدى العرّاب المصري والأديب السوداني، أي أنَّه ليس صنيعة سكان ضفاف النيل فقط، وإنَّما لو نقبنا جيِّدا سنجد الفكرة ذاتها موجودة منذ فجر البشرية، سواء في الأساطير على اختلافها من منطقة إلى أخرى، سنجدها محفورة على جدران معابد بوذا، كما هي مرسومة على صخور مقابر الفراعنة، سنجدها مكتوبة على هوامش كتب الإغريق، مثلها في ذلك كمثل أشعار العرب القديمة، سنجدها محفورة بين آيات الكتب السماوية كما سنعثر عليها بين خرافات الدجالين وسحر العرّافات.
هناك إحساس جماعي شامل، يدفع الإنسان المتأمِّل للشك في خصوصيات هذه الحياة، وطبيعتها، لأنَّ الروايات والمفاهيم أضحت عاجزة عن تفسير أو وصف الظواهر الأساسية للوجود، خاصة عندما وصلت البشرية إلى زمن خاضع للفيزياء بشكل كامل، مع العلم بأنَّ هذا العِلم قد أصبح ديكتاتورا لا يعترف بعوالم الأرواح رغم محاولات ليبتنز وهيردر تقديم رؤى مختلفة.