صِرتُ متأكِّدًا مِن غرابة الحياة التي يحتفل بها الإنسان في كلِّ يوم، فعلا! هي غريبة جدًّا، فهي تهب الفرد الإنساني ما يشاء، وتسلبه ما تشاء، تزيِّنُ له الأفراح، ثمَّ تنصب له الفخاخ، لينال منها في آخر المطاف كافة ألوان الأتراح، هناك تناقض رهيب بين زوايا أيامنا، والأغرب هو أنَّ القليل منَّا ينتبه إلى هذه التناقضات الجليَّة للعقول، إذ أنَّ تحت وطأة الجلاَّدين، تعود كافة النقاط إلى مواضعها، فتغلِّفُ بقية الرواسب بما بقي لديها مِن مخلَّفات الأعاجيب على اختلافها.
الموهبة التي تميِّز الفرد الإنساني، والتي لها مفعول السّحر على كلّ تجلياته اليومية، هي تلك الدافعة التي تجعله يواصل حبَّه للحياة بشكل يفوق التصوُّرات والتصرفات، إذْ هناكَ مَن يسقطُ منَّا، فلا نلتفت إليه، نمضي في سُبُلنا المتنوعة، ونحن الذين كنَّا بالأمس القريب نرفع أصواتنا عاليا، مفاخرين بحبنا الشديد لمَن سقط، فهل السقوط يلغي المحبة بين البشر؟ ويجعلهم يكشِّرون عن أنيابهم؟
مِن إفرازات هذه الأيَّام هو تلاطم المشاعر كالأمواج، لكلِّ حاسَّةٍ منها اتجاه تجذبها الأعماق إليها، بل تعمل جاهدة على وَصْل المغاليق بمفاتيحها حتى تتناثر كافة حبَّات الأفكار على أرضية الثقافات، لهذا نعجز عن تفسير الكثير مِن الأحداث والوقائع، وتختفي بالمقابل الكثير مِن الترانيم والطبائع، فينكشف كلُّ شيء.
هو موعِد الرَّحيل، ننتظره ولا نتمنى الوقوع فيه، نحاول بكافة قوانا أن نتفاداه، ونحن المتيقنون أكثر مِن غيرنا بأنَّه لا مجال لتفادي المصير، هي النهاية، نهاية البداية، لندخل في دوامات اعتقادات موروثة، مصنوعة في أزمان ليست شبيهة بزماننا، نتبناها وقد استسلمنا لها بكافة ما نملك، وما لا نملك، كلُّنا نتفق في الموعد ونختلف على الطرق التي تؤدي إلى ذلك الموعد المتفق عليه سلفا، الأمر يبدو صعبا، بل إننا نتجاهل حتى تشريحه أو الحديث عنه، ولكن في عمق كلِّ واحد منَّا خوف وتوجسٌ منه، وكأنَّه الغريب الذي سيزورنا يوما ما، فلا نفرح بمجيئه، ولا نملك القدرة على منع ذلك المجيء.
الأمر ليس محكوما بالعمر، والمدى والأفق، ودرجة وضوح القمر أو مستوى صفاء الماء، الأمر تجاوز كلَّ هذه المبهمات، وراح يغرف مِن الأرواح، مِن الخلود، مِن صناعات لا تعترف بالمنطق البشري، ولا بالميكانيكا الصناعية، هي مسألة – إن جاز لي تسميتها بهذا الاسم – لا تعترف بالمفاهيم والأقاليم، لا يمكنها أن تكشف عن ذاتها، فهي الفتاة الضائعة التي هربت في منتصف ليلة اكتمال البدر مِن معابد أبولو، هي تلك الفتاة التي حَكَمت عين الشرق، لكنَّها لا تزال تسيطر على أجنحة كلِّ ما هو غربيّ، هي مقدرة خلاَّقة، طاقة نقية ودماء لا تنصت للنداء.
المسألة هذه يحملها كلّ واحد منَّا في سرِّه، في خاطره، يرميها بين المعاجم لندرة الحلول التي يمكنها أن تبعث في نهايتها الأمل فيها، وعلى مساراتها تخفي آخر مقابض خناجر الشرفاء، هي لعبة تبدأ بالصراخ وتنتهي بالصراخ، وليس لها رغبة في الإفصاح، هي دور يتبارز أمهر الفنانين على تأديته على المسارح، وبعد العروض تختفي تأثيراته مِن الملامح، الأمر جلل يا سادة، الأمر جَلَل.
عندما كنتُ صغيرا ارتاد المدرسة الابتدائية، اعتقدتُ بأنَّ الأيَّام مثل الفصول تشبه بعضها البعض، وعندما بلغتُ مِن الوعي عتيَّا، أدركتُ قِصَر هذه الرؤيا، وفهمتُ بشكل يكاد يكون يقينا، بأنَّ الأنفاس ذاتها تختلف، تتصاعد وتنزل وفق آلية معلومة، وبواسطة أعضاء مفهومة، ولكنها تختلف كلَّ الاختلاف فيما بينها، هي مثل حبات الرمل الجافة، أو كالثواني التي لا تعرف التوقُّف، لا تعرف للشبه عنوانا ولا بيانا، مع أنَّها تبدو في الكثير من أوجه المنطق، بأنَّها وحدات متطابقة.