تحت أشجار الزيتون على الواجهة البحرية المطلَّة على مياه البحر الأبيض المتوسِّط، بُنيت أولى الحضارات العقلانية بشكل كامل، ولدت من الأساطير المختلفة، وامتزجت بالكذب والتزييف، لتنجب لنا عقلا يخضع لموازين الحروف والتطابق بحدَّيْه، وهي بكافة الشفافية والعنفوان عبارة عن تطوُّر معجزة من أيادي الأبطال إلى أفئدة المفكِّرين المحترفين، الذين استغرقوا وقتا كافيا وقصيرا بتعداد ذلك الزمن، ليصيغوا للبشرية الخطوط العريضة، وليضعوا العقول الغربية المجرَّدة على طريق الأنوار، والذي صنعت تفاصيله إنجازات عصر النهضة، الذي توِّجَ بالثورات الصناعية من المهد الإنجليزي إلى الثورات التقنية في اللحد الأميركي بصحراء نيفادا.

الغبيُّ مَن يحاول هزم الفكرة بقوَّة الجهالة، والأغبى مَن يصارع المفكِّرين بثقافة التدمير العضلي أو التفجير الغريزي، بحيث لطالما استغربتُ آراء بعض الحمقى الذين يعتقدون بأنَّ مَن يحمي واشنطن هو ذلك مارينز الأميركي المنثور على رقعة العالَم، بينما أستطيع أن أجزم وبشكل حاسم لا جدال فيه، بأنَّ الحماة فعلا وقولا لعظمة المكتب البيضاوي، هُم مَن يرتادون مقاعد جامعات هارفرد وستانفورد وغيرهما، العقول هي الحامية بينما العضلات لا تفهم سوى ارتكاب المجازر، ولو على الجانب الذي مِن المفترض أنَّها تحميه.

يسود الواقع الغربي جميع أنحاء وأرجاء العالَم، وقد كان له ذلك بعدما تفث سحره على الجميع، بل راح يرسم المستقبل لشعوب بأكملها برؤوس أقلامه التي سرعان ما تغيِّر اتجاهها وحدّة ما ترسمه، الأمر تحوَّل إلى لعب على أوتار المشاعر الإنسانية بتكاليف معنوية فائضة الفوران، ببساطة، لقد ساد الوهم كافة الزوايا، وتحوَّلت الأحدث إلى مستويات تشبه إلى حدٍّ بعيد ما يقع في ألعاب الفيديو، ولَكم أن تتصوَّروا ما يحدث في الصين الشعبية، هي لم تعد بعد تلك الإمبراطورية الأخلاقية التي عرفناها يوما، ضاربة في صلب التاريخ وجذور الماضي، بل صارت عبارة عن الولايات المتحدة الأميركية التي تتحدث اللغة الصينية فحسب، لتلعب دور المنافس الاقتصادي، مقدِّمة خدمة جليلة لواشنطن عبر حفاظها على جذوة التنافس مشتعلة في أفئدة العمال الأميركيين، وإن ما توجّهنا نحو الشمال، فلن نجد الاتحاد السوفييتي الذي انهار حتى يروي عطش سكان الكابتول الذي لا يُروى، وإنَّما سنجد الكرملين عبارة عن نسخة معدَّلة عن البيت الأبيض لكنَّه يتحدَّث باللغة الروسية/السلافية، محاولا أن يتقرَّب إلى سادة مدينة واشنطن بمقاطعة كولمبيا مقدِّما لهُم جزية تطوير الأسلحة وحارسا أمينا للجهة الشرقية، ليحوِّل فخر وأمجاد الإمبراطورية المغولية إلى قرابين لصناع القرار في البنك الفدرالي الأميركي.

أمَّا بالنسبة للأراضي الأوربية ودولها فهي لا تتعدَّى لعب أدوار تلك المومسات التي تحاول سرقة ما تستطيع إهداءه لرعاة البقر/الشر، مقابل الإبقاء على جسدها واحدا في مواجهة الانزلاق الذي يبدو أنَّه محكوم بالحتمية نحو أفريقيا – التي يعتبرها السادة بمثابة مرحاض العالَم الحر ومصدر العبيد لا أكثر للأسف وبكل ألـم – بينما الجهة الآسيوية وحتى أميركا الجنوبية فقد استبيحت تماما ودون مقاومة تذكر.

أمَّا بالنسبة للعالَم الإسلامي فإنَّ قصص تدميره لم تنته بعد، لأنَّ المؤسسات الفارغة والهياكل المجرمة لم تتمكَّن مِن سلب المسلم البسيط الجاهل بأوهامهم إيمانه الفطري المتماسك لحد كتابة هذه الأسطر.

لم تفلح إدارة التحوُّش التي تبناها سادة لندن وعمل على تنفيذها المبنى الخماسي الأضلاع في جعل المسلم/المؤمن عن اقتناع، يهجر المسجد والمحراب، ولم تقدر أقوى الآلات الدعائية الناشرة للهواجس والخرافات مِن كسر الإرادات التي يتحلَّى بها ذلك الإنسان المتمسِّك بما قدَّمته له الثقافة العربية مِن سماحة الدين الحنيف، فهو قد خبر بروحه عمق الإجابات ومدى مصداقية الآيات، تلك التي لم تستطع العقول الأوربية/الأميركية إدراك عظمته، بل راحت تشنُّ بكل قواها حروبا لأجل تدميره، لكنني مؤمن بأنَّ السِّحر سينقلب على الساحر الذي يتوهم قدرته على إدارة الكون من كنيسة واستمنستر، في حين أنَّ العالَم لا يمكن أن يديره سوى ربُّ الكعبة الشريفة التي بُنيت بين الرمال الساخنة بعيدا عن صقيع "الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشّمس".