يرتبِطُ مصير الإنسان بما يفكِّرُ فيه، أو ما يسرقه مِن أفكار غيره – غالبا ما يقوم مَن هُم حولي بالعملية الثانية – ممَّا يصعب على الفرد إدراك ما يجعله قادرا على تحمُّل أعباء هذا المصير الذي تصنعه الذاكرة والتدفُّق العالي للأفكار التي تردُ معظمها مِن الأماني الواقعية بشكل أساسي فاضح/واضح.
هذا المصير هو أحد الهواجس التي تلوِّنُ سائر حيوات بني الإنسانية، وهي خدعة مهمَّة شرحها بإسهاب الدكتور أحمد خالِد توفيق في مقال له بعنوان: خداع النفس فن! هذا يعني أنَّنا كبشر مربوطون أو مرتبطون بما نتخيَّله محاولين إسقاطه على الواقع حتى وإن لم يحدث واقعا، لنجد أنفسنا نصدِّق الكذبة التي قمنا نحن أنفسنا بتأليفها، ونحن أنفسنا أيضا نعلم أكثر مِن غيرنا بأنَّنا نكذب تلك الكذبة بالتحديد كما نريد، إنَّها الذاكرة المزيَّفَة.
لن أعود هنا إلى أهمية ضرورة صناعة الأفكار التي تتغذى منها الذات ذاتيا، فهذا أيضا قد شرحه فيلسوف الجزائر المطرود بشكل رائع عندما وضَّح عالَم الأفكار، وكيف أنَّ الفكرة هي في نزاع/صراع وجودي ضدَّ الوثن، ولكن ما يهمني هنا هو ذلك الارتباط العضوي بين الأفكار كمقدِّمات مِن جهة، والمصائر كنتائج مِن جهة مقابلة.
أرجُو أن يكون واضحا أيضا أنني هنا لا أضع هذه العلاقة موضع "قانون الجذب" الذي كثر عليه الحديث لحدِّ الهلوسة، بقَدْر ما أنا أحاول رصد ما يمكننا وضعه كأساسات مِن أجل الوصول إلى ما نريده بشدَّة ولو لمجرَّد الإثبات أو التبرير، خالقين تلك المسافة المتبعثرة بين الذات كمركز والأجرام التي تحيط بها كلواحق، رافضين للواقع الذي يجري عكس ما نشتهيه، وكلّ هذا إرضاء لذلك الغرور الماكر الذي ينهش الإنسان من الداخل بشكل غير مسبوق ولكنَّه معتاد تماما.
عندما يجعل الإنسان مسألة الجري خلف الأهداف عبر العمل على إرضاء الذات، وفي كافة المجالات والميادين التي تضمُّها الحياة، فهو بذلك يعمل على صياغة نهايته الواقعية بشكل حرْفي ومحترف دون ريب، لأنَّه بهذا القرار يكون قد وضع أولى خطواته على طريق محاولة إنكار ما يحدث أو تقديم كلَّ ما يلزم لتأكيد انفصاله عن أيَّامه، ليكوِّن عالَما موازيا كليا لما يراه يوميا أو يقف في مواجهته كلَّ حين.
على أرض القراصنة أين فرص رسم الأحلام ومطاردة تحقيقها على أرض الواقع، هي جرائم من الدرجة الأولى مثل الخيانة العظمى بشكل مطابق، فإنَّ الوسيلة الوحيدة مِن أجل ضمان الاستمرار على قيد الحياة هي محاولة رسم المصير عبر ما يمكن التحكُّم فيه بشكل "مطلق"، وعلى سبيل المثال نجد أنَّ هناك أحد الأطفال يرغب بشدَّة في أن يصبح "طيَّارا" في كبره، وبدل العمل على تحقيق هذه الأمنية – مع وجود استثناءات طبعا – فإنَّه يجد نفسه أمام عراقيل كثيرة، أهمها القهر الاجتماعي وانعدام تكافؤ الفرص إضافة إلى البيروقراطية المتفشية والفساد المستشري وما يصاحبهما من عنصرية وإقصاء بسبب المكان الذي يسكن فيه ذلك الطفل، اللهجة التي يتحدَّث بها أو الوضع المادي لأسرته، كلُّ هذا يجعل منه طيَّارا لا يتعدى منطقة خياله، وبهذا الشكل تجد الطفل/الطيار قد كبر وقد فهم استحالة ما لازم خياله في الكثير من الأيَّام قبل النوم، وهنا يقف هذا الطفل الكبير أمام مفترق الطرق: إمَّا يرفع الراية البيضاء، ويعلن استسلام خياله لفكرة قيادة الطائرات وَما إلى ذلك من الصور الرائعة التي اجتهد لمدة طويلة في رسمها خياليا والاستمتاع بها عاطفيا، وبذلك يصبح مشروع انتقام في حق ما هو حوله الذي حرمه من اهمِّ أهدافه/متعه، أو أنَّه يختار الخيار الثاني والذي يجعله يغلق باب الواقع على نفسه، فيرى في نفسه طيارا حقا، لتجده يتحدث عن رحلاته الخيالية وبعض المشاكل التي اعترضته وهو في قمرة القيادة التي لم يرها سوى في بعض الصور الفوتوغرافية أو بعض أشرطة الفيديو إلى درجة يقترب فيها من الهَبَل بشكل كبير.
عندما تكثر ضربات المطرقة الاجتماعية على رؤوس الأحلام التي يستمتع الإنسان بتحقيقها، فإنَّها ستولِّد فردا مظلوما وغاضبا إلى درجة الاحتقان، وبذلك سيعمل على تعويض المسعى الشخصي ضمن الإطار الجماعي بمسعى آخر شخصي أيضا، لكنَّه ضمن نطاق نفسي لا يفهمه سواه.
مزوار محمد سعيد
مؤلِّف: قاتلي يتدرَّب في شيكاغو