يعيشُ الإنسانُ المعاصر لحظات غريبة للغاية، لقد طغت عليه الحيوانية إلى حدِّ العربدَة، وهذا ما جعله يعدِّل سلوكه بشكل وصل درجة اللا/متحكَّم فيه، وهي وضعية فعلا لا يحسده عليها أيُّ صنفٍ من المخلوقات الأخرى كما اعتقد، لقد استبدل الإنسان إلى حدٍّ بعيد انسانيته بما هو قابل وقادر أن يجعله مجرَّد أداة تحكمها الغرائز العاطفية بشكل مخيف حقا؛ هذه ليست حالات فريدة من نوعها حتى يتم تجاهلها، بل صارت هي المعايير التي تحكم الحياة والعاديات فيها.
وقع قبل أيام خاطري على الدكتور أحمد خالد توفيق رحمه الله، فرحتُ أقرأ بعض مقالاته حتى وقع نظري على مقال له بعنوان: سيرك أبو شفة، وراح يسرد الرَّجُل بأسلوبه الشيِّق كيف أنَّ السيرك الإيطالي الذي اصطحب إليه ابنته يختلف كثيرا عن السيرك المحلي الذي رافقه إليه والده – رحمه الله – عندما كان صبيا.
لم اهتم كثيرا بتلك المقارنة وما نتج عنها لدى الكاتِب، وإنَّما أثارتني فكرة السيرك في حدِّ ذاتها، رغم أنَّني استخدمتها سابقا لوصف احدى المظاهر السياسية/البوليتيكية التي لا تحدث سوى على أرض القراصنة؛ إنَّ لهذه الفكرة ارتباطا كبيرا بالمتاهة التي يدخلها المشاهد للعروض المختلفة، تلك التي يؤدِّيها بهلوانات مهرة، حيوانات مروَّضة وغيرهم، كما يرى الحاضر في خيمة السيرك، الكثير من الحركات التي تبدوا خارقة وهي كفيلة بأن تجعلكَ تشعر بالعجز عن القيام بها، رغم حقيقة سخافتها المتوارية.
نحن نعيش سواءً شئنا أم لم نشأ في سيرك كبير، ولكلِّ واحد دوره فيه، ورغما عنَّا نحن نشارك في أحد العروض التي تمَّ تصميمها في غرف مغلقة دون علمِنا، لكن لا أحد ينتبه إلى الأمر، لأنَّ التضليل قد وصل إلى مداه، بل إنَّه قد تمكَّن مِن إزاحة الحقائق لا ليحلَّ محلَّها، وإنَّما ليصنعها بكلِّ إتقان وتفانٍ.
الحرية الخرافية التي تحدَّثتُ عنها قبل عقد مِن الزمن، صارت اليوم أكثر توحشا، بل إنَّ العبودية التي لطالما وصفها بعض العباقرة والمجانين بأنَّها قد انتقلت من الأغلال التي تمَّ صكُّها بالحديد والنار، صارت اليوم أغلالا يحملها الفرد الإنساني في روحه، ويسمح لها بتشديد الخناق على ضميره واغتيال مبادئه بكلِّ سرور.
قد تجد نفسكَ دون انتباه منك تؤدي دور الأسد الذي سُلبت كرامته ويقفز كالكلب إرضاء لسيِّده الذي يسميه الجمهور مدرِّبا له، مقابل قطعة من الجيفة، أو قد تجد نفسك تلعب دور القرد الذي يقف على كتف مدرِّبه من أجل الظفر بموزة فاسدة، أحيانا تلعب دور تلك القبيحة التي تشبه الأبالسة والتي تعلن عن انتهاء أحد العروض وبداية آخر، فيصفق لها الجمهور لا لجمالها بل لندرة الإناث في أوساطهم لا غير، وفي الكثير من الأوقات، عندما يتعب كلُّ ما فيك بسبب اللهث المتواصل خلف الجيفة أو ما فسد من الخضر والفواكه، تجد نفسك متفرجا على الوهم كما يفعل جمهور السيرك.
ألا نعيش في هذا السيرك يوميا؟ قولوا لي بربكم!! ألم نلعب في أوقات مكرنا دور البهلوانات التي تسير فوق الحبال إرضاء لتقاليد مثقوبة وعادات بالية؟ ونخاف الوقوع في براثين الواقع كما يخاف البهلوان سقوطه في النار التي أوقدت تحته لتزيد المشهد درامية وتشويقا؟
كلُّ فرد من بني الإنسان في زمننا المعاصر يحي هذه الأيَّام بهذه الطريقة، ولكن هناك فرق دائما بين البشر، فمنهم من هو مستمتع بدوره ولا يهمه أيُّ غرض غيره، هناك من هو يتحسر على دور البشرية والآدمية الذي فقده لهذا تجده يبكي على أمجاد ضاعت، هناك من يحاول المقاومة! لهذا يخفيه الساحر أحيانا وأحيانا أخرى يحوِّله إلى ضفدع في أعين المشاهدين، هناك مَن يوهم نفسه بأنَّه لا دخل له فتجد يحرس بوابة الخيمة، وهناك نبلاء تُشوى جلودهم وهُم قد سخَّروا عقولهم وأفئدتهم قربانا لإيقاظ وإنقاذ ما هُم حولهم على الأقل. – لا تنسوا الدعاء بالرحمة للدكتور أحمد توفيق وأبيه رحمهما الله.
مزوار محمد سعيد
مؤلِّف: قاتلي يتدرَّب في شيكاغو