مسترخيا على فراشه وهو يلبس تبانه المزركش بألوان العلَم الأميركي، يحاول ذلك الصبيّ أن يجد لنفسه موقعا بين كلمات العالَم الصاخب الذي نعيشه، والذي لا يعبِّرُ سوى عن الضجيج والضوضاء التي لا نهاية لها، يطلق لأفكاره العنان لعلَّه يخطف بعض المكنونات من مواضعها، فيكون له السَّبق في قطف بعض المعاني، التي بقيت مجنَّدة لصياغة الإنسان الجديد، والذي لم يعد يفهم ما الجديد فيه، سوى لغات الموت بالجُملة ودفعة واحدة، بدل الموت فرادى.

هناك شعور سائد تفوح منه رائحة العَجز والرضى بالمصير المكتوم/المحتوم للإنسان، فقد رُفعت كافة المراصد التي ادَّعت زورا وبهتانا بأنَّها قادرة على صناعة الفرق بين البؤس والأحلام، لكن وفي غفلة واضحة المعالِم، نجح البائسون في الاستحواذ على قرارات العالَم الذي يُسمى كذبا بالْحُر، لينجزوا أسمى أهدافهم، تلك التي تجعل الإنسان في رعب متواصل، حتى يُنهَكَ ويستسلم للموت، موت بطعم العلقم، يطلبه الفرد قاصدا إيَّاه كمهرب من حياة لبست الجحيم تحت مسميات النعيم ومشتقاته.

منذ سنوات داهم العقل الجماعي العالمي ما سمي بالفيروس التاجي "كورونا"، وكلنا نعلم قصة ظهوره في الصين الشعبية، وانتقاله إلى بقية بلدان العالَم، وقد شاهدنا شاحنات الجيش الإيطالي وهي تنقل الموتى إلى ملاجئهم الأخيرة تحت أنغام نحيب جميلات إيطاليا رثاء لأحبائهنّ، وقد تكرر المنظر ذاته في نيويورك، البرازيل، الهند وقد دقَّ هذا الفيروس الصغير حجما والكبير تأثيرا أبواب البيت الأبيض، ليشاهد العالَم فصلا جديدا من الحرب عليه، عندما دخل ترامب المستشفى ليكون ضحية شهية لهذا القاهر، الذي قهر الناس على اختلاف مواقعهم وقواهم.

وللمرة الأولى منذ ولادتي شاهدتُ نوعا من العدالة أمام معاول الموت، لم يفرِّق الفيروس التاجي "مشكورا" بين فقير أو غني، ولا بين متحدث للغة الإنجليزية أو الهندية، ولا بين رئيس أو مرؤوس، الكلُّ بدى وكأنَّه يشرب من الكأس ذاتها، فهناك من أوصد الأبواب على نفسه، وهناك من ارتدى الأقنعة وراح يبحث ليل نهار عن اللقاحات والأدوية، وهناك من لجأ إلى السماء بالاستغفار والدعاء، وكأنَّ عصا سحرية صارت تنثر الخوف في كافة الأرجاء.

اعتقدُ بأنَّ العالَم الذي مرَّ بتجربة الفيروس التاجي والذي لا يزال يعيش تأثيراتها وتداعياتها ليس بحاجة إلى اللقاحات ولا للأدوية، فهذا ليس اختصاصي وإنَّما هو مجال طبي محض، ولا إلى المزيد من الخرافات والوثنيات، وهذا أيضا ليس اختصاصي رغم عشقي الأزلي للأساطير والحكايات، وإنَّما هو بحاجة إلى فيروس جديد يسمى "قِيلونا" بمعنى اتركونا وشأننا، تكون أهم ميزة لديه، هي حث الفرد الإنساني على العودة إلى ذاته، تقييم وضعه الوجودي، قبل أن يجرؤ على مدِّ خطاه نحو ما يعتقد بأنَّه المستقبل.

لقد عمل كورونا على ايقاظ الإنسان من تلك الغفوة الشعورية التي دخلها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية من القرن العشرين، محطما مقولة "موت الإنسان" وناسفا عنوان "نهاية التاريخ" ومهدما عقيدة "صدام الحضارات" والأهم هو أنَّه استطاع تعطيل مشروع العولمة – سرقة الإحساس من الناس بالناس – ليضع الفرد أمام تساؤلات وجودية حتمية، وها هو يستمر في دفع الإنسان إلى البحث عمَّا يمكِّنه من الاستمرار، لكن بصيغة بعيدة عن افرازات أوربا وصقورها التي تستوطن روما الشمالية.

ما لم يترك أغنياء العالَم فقراءه ليعيشوا بسلام، وما لم ينتشر فيروس "اتركونا وشأننا" بين كلِّ قاعات الأثرياء وساحاتهم، فإنَّ الفَناء سيقترب بشكل متسارع، تزداد حدَّته بزيادة منسوب عناد الأقوياء – ضباع العالَم – ليقمع تلك السلطة الخفية التي تستأثر بالوهم، محاولة جرَّ الجميع للقضاء على الجميع؛ بالمناسبة ذلك الصبي صار مؤمنا بفيروس "اتركونا وشأننا" على شاكلة رهبان معبد أبولو (إله الفضاء).

مزوار محمد سعيد

مؤلِّف: قاتلي يتدرَّب في شيكاغو

@ mezouarms