لقد قادتني دراستي الجامعية – العصامية إلى فيلسوف الجزائر المطرود مالك بن نبي، وقد لاحظتُ بأنَّ المدربين الجامعيين الذين تناوبوا على استعراض تفاهاتهم علينا قد انقسموا بين ممجد له وساخط غير معترف به، هذا الانقسام أو الطلاق البائن بين الفريقيْن، جعلني أحاول اكتشافه، فأخذتُ أتحرى آثاره من سيرته الذاتية إلى آرائه ونظرياته مختتما تجربتي معه بروايته "لبَّيك حج الفقراء"، وبالفعل وجدت فيلسوفا عالميا بامتياز، وباللسانيْن العربي والفرنسي، هذا ما جعلني أنجز عنه تقريري من أجل نيلي شهادة ليسانس، ثمَّ كانت خيبتي كبيرة بعد رفض أطروحتي لنيل شهادة الماستر حول فكره أيضا، بسبب رفض أحد المشعوذين المسمى بـ: بن قناديل لعنوان الأطروحة تلك، لا لسبب سوى معاداته لهذا الفيلسوف الكبير، تلك التي أردتها أن تدور حول "مفهوم الصراع في فكر مالك بن نبي"، هذه الفكرة التي مهَّد لها في أوَّل محاولة للكتابة له (مالك بن نبي) باللسان العربي، والتي جاءت بعنوان: الصراع الفكري في البلاد المستعمَرة، للأسف، لقد توفي رحمه الله سنة 1973م، بحيث تجدر الإشارة إلى أنَّ مالكا بن نبي له إرث كبير، فهناك مركز في تل أبيب على أرض فلسطين المحتلة يدرس فكرته الأفرو-آسيوية، وفكره يدرَّس بجامعة ميريلاند الأميركية، كما أنَّ الكاتب بوزيدي لحسن قد أطلعني ذات يوم، بأنَّ احدى كليات جامعة برشلونة بإسبانيا قد سُميت باسمه "مالك بن نبي".

لقد عاش مالك بن نبي فكريا بين الإسلام الروحي والغرب المادي، بين نفسية الخلفية الإسلامية، ومادية الحضارة الغربية، حيث يتواجد فكره على ضفتيْ العالَم الإسلامي كما جاء عنده باسم: خط طنجة/جاكارتا، والعالَم الغربي كما ورد لديه باسم: خط موسكو/واشنطن؛ لقد عايش فترات تاريخية هامة، منها الحرب العالمية الثانية، حرب التحرير الجزائرية، الحرب الباردة واستقلال الأرض الجزائرية... الخ.

بحث مالك بن نبي في مشكلة الإنسان المسلم، وبعد تحليله المتأنِّ لهذا الفرد من عدَّة جوانب، وجد أنَّه تركيبة من الدين، الفكر، الإرث والأدوات المعاصرة وحتى بعض الثنائيات التي تتصارع في شرخ روحي فظيع، كلُّ هذا سمَّاه بمشكلة الثقافة لدى العالَم المسلم.

"ولكننا بمجرَّد ما نتناول المشكلة في مظهرها الفني، الذي هو مظهر التنفيذ، تتبدى لنا معطيات أكثر تعقيدا، فالواقع أننا نوجد، ليس بإزاء عالَم إسلامي، ولكن عوالم إسلامية" (مالك بن نبي، كومنويلث إسلامي).

لقد أدرك مالك بن نبي التعدد الذي يحتويه العالَم الإسلامي المعاصر، وبأنَّ هناك الكثير من الأوجه التي تشكل المظاهر المختلفة للاتجاهات الإسلامية، بحيث لكلِّ اتجاه خلفيته التفسيرية والأيديولوجية التي قد تختلف مع التوجهات الأخرى إلى حد التضاد؛ وعليه قد عمد إلى تأسيس تصوُّره للعالَم الإسلامي ضمن يقظته لهذه الفكرة بالذات، طارحا في الوقت نفسه وصوله إلى الإلمام بعضوية الاختلاف الجوهرية في صلب النص المقدَّس لدى المسلمين خلال حرِكته، حيث تحتوي هذه الحركة على الديمومة والأدبية من جهة، وعن حمله لاحتمالات كثيرة تنوِّع من وجود تفسيرات مختلفة من جهات مختلفة أيضا، فالكثير من تلاميذ الفيلسوف مالك بن نبي يؤكّدون على أنَّ الخلفية التي ينطلق منها هذا المفكِّر هي الخلفية الإسلامية، حيث وضع بعض الأفكار والدراسات التي تفحص العالَم الإسلامي بشكل أكثر تبحرا، وما نظرته إلى خط طنجة/جاكارتا سوى نظرة استقصائية لمعضلات ومشكلات العالَم المسلم، سواء الدينية أو الدنيوية في ظل مواجهته مع العالم الغربي، ومع عالَم التخلُّف الذي يتخبَّط فيه حيث يقول: "يتعرّض المجتمع للانفرادية، أي لأصناف التمزيق، وهكذا لا يستطيع مجابهة أهوال الزمن، إلا جهد تدعمه عقيدة لا يعتريها الشك أبدا، والتاريخ منذ عهد الفيران في روما، إلى شهداء بدْر، إلى أبطال ستالينغراد، ليس إلاَّ شرحا لهذه الحقيقة" (مالك بن نبي، بين الرشاد والتيه).

………………….

"لولا الولايات المتَّحدة الأميركية، لتحدَّث الفرنسيون باللغة الألمانية" هكذا غرَّد الرئيس الأميركي السابق رقم خمسة وأربعون دونالد جون ترامب، على مواقع التواصل الاجتماعي، وقد نقل هذا التصريح موقع قناة "يورو-نيوز" الأوربية بواسطة مراسلها من فرنسا، الصحفي محمد شعبان يوم: الثالث عشر من شهر نوفمبر سنة ألفيْن وثمانية عشر.

بالنسبة لي كجزائري، تُعتَبر هذه الجملة عبارة عن مفتاح يُمكنه أن يفتح للمتأمِّل في القضايا الاحتلالية لباريس المجرمة آخر الأبواب، فيزيل آخر البقع القاتمة، مِن أجل التأسيس لبداية واقعية لما نشهده من تحوُّلات كبرى على الساحة الثقافية، الجزائرية والعالَمية.

مزوار محمد سعيد

مؤلِّف: قاتلي يتدرَّب في شيكاغو

www.msmezouar.wordpress.com