أفترض أنَّ الفطرة الإنسانية لا تفضِّل الألـم، وتحوِّلها إلى الطريقة في العيش، لدليل على أنَّ الألم عندها قد صار معبِّرًا عن غياب الثقة كإيمان بما هو مستثار ضمنه، أو قد صار عبارة عن إظهار لصورة دقيقة العناية بما هو واضح فيه، هي قدرة على معرفة الموضوع عبر الإلمام به أو عيشه بشكل متكرر، حتى يصبح غامضا بشكل واضح، عندها تعود الأمور إلى نشأة الثقة المؤلمة، تحت مظلة الغموض!
لا يحتاج الشاعر إلى مَن يصدِّق كلامه، بل حاجته إلى وجوده مع ذاته كبيرة، أن يأخذ من رمل الجميع رحيقا خاصا، قد لا يحبه غيره، رغم أنوف غيره، يكون بذلك وحيدا أمام ما هو خاص به، وتلك الوحدة تتركز في شكل واحد، فيصبح كلّ الأفراد عناوين خاصة، لقصائد خاصة أيضا، وهذا بالذات ما يجعل الإنسان عبارة عن قصيدة شعرية لا رويَّ لها، قصيدة مفتوحة، متسلسلة الأحداث، عصيَّة عن التفسير والتحليل، حيث تكون لها قدرة خاصة، تحث الجميع على اخضاع ما هو خاص ضمن اعتماده بشكل رائع.
لا يمكن لكل الناس أن يكتبوا أو يتكلَّموا شِعرا، الشعراء نادرون منذ اللحظة التي لم يفهمها أحد، قليلون مَن يتحدَّثون شعرا حكيما، ونادرون مَن يرفعون شعارات الحلم بين أبيات القصائد، ولَكَم أذهلني اعتزاز العرب بشِعرهم وبيانهم لدرجة أنَّ عبد الرحمان بن خلدون قد صرَّح قائلا: "ليس هناك من شاعر خارج جزيرة العرب"؛ وكأنَّ الشِّعر ماركة عربية لا يجوز أن تسافر بعيدا عن مناطق العربيّ.
هناك مَن كتب شعرا ثم تلذّذ به ليغنّيه بشكل "صنَّاجي" قديما وحديثا، حتى أنَّ الكلمة الشعرية لها أثر خاص عند الذين يحاولون فهمها، أو هضمها؛ ولأنَّ لها حضورا مستقلا عن سائر الكلمات الأخرى.
يا أبنائي...
أنقذوا الشعراء من الغرق بين أمواج الالكترونيات، أنقذوهم من هجوم الفايسبوك والتويتر، فبدل أن تعزز هذه الأدوات انتشار الشِّعر الأصيل، فقد عمدت إلى مسخه في أحس الأحوال، وبهذا كان للجميع حسنات كثيرة، امتدَّت إلى غايات أكثر تعقيدا، ليصبح الشاعر غريبا لا يؤنسه سوى شِعره المكبوت، سوى لسانه الذي آثر أن يرتخي على حبال غير مشدودة جيِّدا، مما جعل الشاعر عازفا لا يخرج عن نشاز الإنكار والظلام.
غياب الشِّعر هو أولى علامات الرداءة الفكرية، هو ليس ركيزة للفكر، لكنَّه يُعتبر من أساسيات الفهم الفني للكلمة، حيث يمكن للفرد أن يستغل الكلمات من أجل رسم لوحة شعرية خاصة، تحمل لغة راقية جدا، حيث تذكِّرنا حقبة البرجوازية كم كان للشعراء من مكانة في محافلهم، وتذكّرنا قصص البلاط كم كانت لهم من حظوة لدى الخلفاء والسلاطين، هؤلاء الذين نشدوا العَظَمة، فقد شاهدوا عظَمتهم في قصائد "المديح" التي تحكي قصص بطولاتهم وأوصاف علاقاتهم وأحوالهم المعيشية الرغيدة.
يمكن أن تصوِّر القصيدة معركة ما، أو حدثا تاريخيا خاصا، أو نفسية لقائد معيَّن، تصبح بذلك عبارة عن وثيقة تعبِّر عن جملة أحداث تتخذ من زمن ومكان بعينيْهما تعيينا ما، حيث يحصد بهما المقيم تعديلات تستعيد بذلك مكانتها لدى كافة التداعيات، فكثير مِن القصائد قد صارت بعد تداول الأيَّام عليها في مكانة المرجع التاريخي الذي لا يمكن للدارسين الاستغناء عنه، وبهذا تصبح القصيدة ذات قيمة إنسانية رفيعة بمعانيها ومضامينها أيضا.
لم يعد اليوم الشاعر ذا هدف حَمْل السلطان على إعطائه المال نتيجة للكلمات، تلك التي يبرع في حياكتها بُغية الكسب المادي، بل صار للشاعر عدَّة زوايا نضالية، بعضها ثورية، والأخرى تحمل قضايا مصيرية، قد يظهر الشاعر سخط الإنسانية على بعض التصرفات الصادرة عن بعض أفرادها، من إراقة دماء بعضهم، من مكر بعضهم ومماطلة بعضهم الآخر، دفاعا عن الكرامة والقيمة الخاصة بالروح البشري؛ قد يعمد الشاعر لاستدعاء الكثير من طاقاته للتعبير عن مكنوناته الشعورية، تلك التي تحرِّك الجماهير.
………………….
"لولا الولايات المتَّحدة الأميركية، لتحدَّث الفرنسيون باللغة الألمانية" هكذا غرَّد الرئيس الأميركي السابق رقم خمسة وأربعون دونالد جون ترامب، على مواقع التواصل الاجتماعي، وقد نقل هذا التصريح موقع قناة "يورو-نيوز" الأوربية بواسطة مراسلها من فرنسا، الصحفي محمد شعبان يوم: الثالث عشر من شهر نوفمبر سنة ألفيْن وثمانية عشر.
بالنسبة لي كجزائري، تُعتَبر هذه الجملة عبارة عن مفتاح يُمكنه أن يفتح للمتأمِّل في القضايا الاحتلالية لباريس المجرمة آخر الأبواب، فيزيل آخر البقع القاتمة، مِن أجل التأسيس لبداية واقعية لما نشهده من تحوُّلات كبرى على الساحة الثقافية، الجزائرية والعالَمية.
مزوار محمد سعيد
مؤلِّف: قاتلي يتدرَّب في شيكاغو
www.msmezouar.wordpress.com