عندما يختار الفرد الإنساني مساره فهو بذلك يختم على حياته بالاحتكام إلى عواطفه فقط، هو قرار جريء للغاية في عالَم تتحكَّم فيه المؤثرات من كلِّ صوبٍ، ليحمل على عاتقه القدرات كلِّها التي تجعل منه سيِّدَ نفسه؛ وهو بذلك يحاول أن يجد لنفسه مخرجا مهما كان الموقف الذي وضع فيه ذاته.

عندما يطلق الفرد الإنساني العنان لحياته وأيَّامه، فهو في صلب تلك الدوامة التي تجعل اليومي الذي يرفع من منسوب الاعتقادات والمشاريع لديه، أين يصبح من اللزوم أن يضع المصادر كلَّها أمامه، فيصبحُ أمام مواجهة كافة التحديات وحيدا، ليعود إلى رحلته الأولى، إلى عمقه الذاتي وإلى سباقه الواقعي أين يُعلي مِن شأن منافساته الفردية.

ولمَّا يقترب الفرد الإنساني مِن ذاته فهو بذلك يرعى ما بقي له من تجليَّات، أو بقاياه التي لم تعترف بوجوده يوما، هو يجمع ما انكسر منه في محاولة لجَبر ما سيكون في يوم من الأيّام حافزا للفخر بما بناه أو استلزم البناء عليه، من أجل تشييد ما يعتقد هو ولوحده أنَّه قادر على التشبُّث بما له وما يظنُّ أنَّه مِن حقه الذي لا مناص من الدفاع عنه.

ومنه يتكوَّن لدى الفرد الإنساني ذاك التصوُّر الذي يسميه البشر بـ: القناعة، يتحوَّل بطريقة آلية إلى مجال آخر، وهو يما يدفعه إلى البذل بشكل لا متناهي، أين يسيطر العالَم الخارجي على ما يجب الوقوف عليه، ويعيد رصد ما فلت منه، وهي عمليات لطالما احتاجت إلى انفتاح منقطع النظير، ليجد الفرد الإنساني ذاته من جديد أمام ذلك التحدي العتيق.

هنا يندفع الإنسان وبحماسة، هنا يصبح الإنسان شغوفا بما يقوم به وما هو بصدد الاعتماد عليه، ليكوِّن الفرد أهمَّ مجالات العيش الرغيد، تلك المساحة الروحية الهامَّة، أين يصبح من المهمِّ الاعتزاز بما لدى الفرد الإنساني من جواهر نفسية ثمينة للغاية، أين يتوجَّب عليه حماية كنزه الشخصي بكافة قواه.

ما يصنع الإنسان هي تلك التفاصيل التي تعتبر الأفكار أغلى بكثير من مصادرها، ومن مقاصدها أيضا، فعندما تتصاعد المسافات الروحية حتى تصل إلى مساحات لا مجال لإغفال مراتبها العقلية وصروحها الفعلية، فإنَّ الإنسان سيدرك حينها ما هو مقبل على مواجهته، سيتعرَّف بشكل إلزامي على حقيقة ما هو قادر على إنجازه دون أدنى عودة إلى تراث أفناه الإهمال.

وعندما يشعر الفرد بتلك الأثقال التي تغرقه في مياه التناقضات، عندها فقط سيقبِل على القيام بما كان بالأمس القريب يبدو له أضعف بشكل رهيب ممّا هو عليه، يكتسب تلك القدرة على السير وحيدا بين اللهيب، ويمضي إلى ذلك المستنقع الرائع، الذي يجعل منه قابلا للتعامل مع ذلك الشعور الموحش، الذي يعبِّر عن ترجمة مهيبة لِما هو قادر على الأخذ به، في سبيل استعادة ما كان قريبا من معاني الإنسانية الصافية، التي تلبس المثالية بشكل مهيب.

لا يُمكنني أن أتصوَّر إنسانا خاليا من تلك المراجع التي لها القدرة الكافية على فهم ما يدور حول الفرد ذاته، ليس هناك مجال للظلام بين العطور والرياحين، وليس هناك قدرة في هذه الحياة بإمكانها أن تمنع الجَمال من إبداء رأيه فيما كان يُعتقد بالأمس البعيد والقريب، أنَّه علامة مسجَّلة للتوحُّش والخراب.

العودة إلى الرحلة الأولى، إلى تلك الانطلاقة البريئة تجعل الإنسان إنسانا بحق، تجعل المعنى مطابقا لما يمكن للفرد إرجاعه إلى تحوُّلاته النفسية الراقية، وهذا لا يحدث سوى بشروط العزلة والانفرادية، فالصفاء الذي يكوِّنُ الجَمال الإنساني، لا ينمو سوى في حدائق الروح الانفرادية، لأنَّ مجالها لا يعترف بالاختلاط والتعكير.

 مزوار محمد سعيد

مؤلِّف: قاتلي يتدرَّب في شيكاغو