﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾[المائدة:11].
قال الله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾[المائدة:11]. هذا هو غورث بن الحارث، وحين جاء معاديا فآب مسلما، وكما قدمت آنفا.
قال ابن إسحاق: حدثني عمرو بن عبيد عن الحسن عن جابر بن عبد الله أن رجلا من بني محارب، يقال له: غورث، قال لقومه من غطفان ومحارب: ألا أقتل لكم محمدا؟ قالوا: بلى وكيف تقتله؟ قال: أفتك به. قال: فأقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس، وسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجره. فقال: يا محمد، انظر إلى سيفك هذا؟ قال: نعم، فأخذه ثم جعل يهزه ويهم، فكبته الله. ثم قال: يا محمد، أما تخافني؟ قال: لا، ما أخاف منك؟ قال: أما تخافني وفي يدي السيف. قال: لا، يمنعني الله منك. ثم عمد إلى سيف النبي صلى الله عليه وسلم فرده عليه فأنزل الله عز وجل (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون) [المائدة : 11][].[ البداية والنهاية، ابن كثير: ج ٤ / ٩٦].
وهذه آية من آي القرآن المجيد، فيها من اللطاف والبدائع ما آثرت بيان بعضها فأقول:
قوله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾: وفيه إثبات إيمانهم به تعالى، وهذا معنى لطيف، لتشحذ به هممهم، ارتقاء بهم إلى قمم الجبال العالية. لكنه أيضا إثبات إيمانهم منه تعالى، والخبر من علٍ ليس كالخبر ممن دونه! فكان تحفيزا وثناء وتكريما فوق ما سلف!
وقوله تعالى: ﴿ نِعْمَتَ اللَّهِ ﴾. وفيه أن مرد كل نعمة إليه تعالى، لأنه الوهاب.
وجاءت﴿ نِعْمَتَ ﴾. نكرة لإفادة عموم النعم، وبلا حصر. وكما أنه أضيفت النعمة إليه تعالى، إلصاقا واختصاصا واستحقاقا.
وفيه أنه لا يفيد بهذا الإنعام إلا المؤمنون، وحسب.
وفيه وجوب ذكر نعمه تعالى أبدا، وتجديدا لعقد التقوى مع الله تعالى.
وقوله تعالى:﴿ اذْكُرُوا ﴾: هذا أمر للإيجاب، ذكرا للنعم، فيتجدد بسببه الإيمان.
وقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا ﴾: وهذا نداء تنبيه، ولفت نظر، واستدعاء إيمان.
وقوله تعالى:﴿ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ ﴾: وهذا تحول من الهجوم إلى كف ذاتي، وهو نعمة عند العقلاء، وبكل المقاييس.
وقوله تعالى: ﴿ عَلَيْكُمْ ﴾: فيه استعلاء الرب تعالى؛ ولأنه المنعم! وكما أن فيه عموم استعلائه تعالى على سائر خلقه.
وقوله تعالى: ﴿ أَن يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ ﴾: وفيه أن البسط لا يناسب حربا! فجاء توهينا للحرب! فكان إعجازا. وأن البسط رسالة سلام، فكان لاعتبار ما سيكون! وقد أسلم غورث بن الحارث بعدُ، فكان إعجازا!
وقوله تعالى: ﴿ أَن يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ ﴾ وفيه أن تكرار ﴿ أَيْدِيَهُمْ ... أَيْدِيَهُمْ ﴾ قد أشاع بلاغة، وكأنما تبدو ألا تكرار! ويكأنها وقد ازدان النظم بها حللا تبدت، وجواهر قد تربع بها النص على كل نص آخر!
وجاء لفظ الجلالة ﴿ اللَّهِ ﴾؛ لاقتضاء أن للحرب سلطانا وقهرا! وإذ لايؤديه لفظ الرب فيما لو كان قد جاء!
وقوله تعالى: ﴿ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ ﴾: وإذ هم فعلوا، وبسابق همٍّ! فكأن الهم نوع فعل!
وكما أن الفعل الماضي﴿ هَمَّ ﴾: وفيه أن هذا اعتبار لما كان، ولأن فعلا يسبقه هم عادةً.
ومجيء الاسم الموصول ﴿ الَّذِينَ ﴾ لإفادة الاهتمام بهم، وبإيمانهم.
وجاءت كلمة ﴿ قَوْمٌ ﴾: نكرة ذماً لهم؛ ولشناعة فعلهم. وكما أن مجيئها نكرة لتفيد عموما، فلا تختص بمن نزلت فيهم.
ووله تعالى: ﴿ أَن يَبْسُطُوا ﴾: مصدر مؤول؛ لإفادة استمرار عدائهم، وكيما يحذر منه. وكما أنه عموم أفاد اشتراكهم كلهم فيه، وإن كان غورث بن الحارث فردا، إلا أنه بمثابة الناطق الرسمي باسمهم!
وما أبلغ معنى أظل النص، ومن خلال بسط تراه المقل، وتجد أثره العيون، وإذ هم يبسطون أيديهم، وإذ إننا نلمس أيديا حانية؛ لتكف أيديهم عنا! وإذ كان ربنا سبحانه هو الذي يتولى كفهم عن المؤمنين بنفسه! ودفاعا عن الذين آمنوا! وهذا معنى لطيف بهيج معا!
وقوله تعالى ﴿ فَكَفَّ ﴾: وهذ فاء العاقبة، وقد أفادت عدم إمهال لبغتهم! وكما أن فيه زجرا مخيما ونكالا مهيمنا! لمسنا أثره من الفعل﴿ كَفَّ ﴾: هكذا مضعفا لامه! ليوحي بمعاني مضاعفة الكف أيضا!
وقد جاء فاعل الفعل﴿ كَفَّ ﴾ مستترا جوازيا، وللعلم به، ولأنه هو الله تعالى، ولأنه هو الفاعل لكل شيء على الحقيقة، ولئن كان وقوعه بيد سواه، سببا منه تعالى وتقديرا.
وقد جاءت غزارة الخطاب، وما بين ضمائر مستترة، تضمنت معنى الخطاب، ومنه النداء، واو الجماعة التي حظي بها النص كثيرا، وما بين كاف الخطاب ضميرا بارزا متصلا، وكل هذه الضمائر قد حشدت حشدها، ليكون النص مبرما محكما غزيرا، ومتآلفا منسجما، ولم ينله إلا نظمه المعجز المبهر، وإذ كان يمكن لضمائر هكذا غزيرة في غير نص القرآن الحكيم أن يظهر مبعثرا، لا لملمة لأبعاضه!
ولئن قيل : ولم هذا الحشد كله لتلكم ضمائر قد أتت على نص قصير كهكذا قرآن بين أيدينا؟
وقلت: ولأنه مطلق التحدي، ولأنه عموم الإعجاز، فإن هذه الضمائر بين أيديكم، تتصرفون بها، وإذ لا يمكنكم حبكها كقرآننا! وفي هذا الحيز الضيق القصير! ولو من طرف خفي! وثَمَّ ههنا الإعجاز!
وقلت أيضا: ولأنه جاء هكذا حشدا حشدا، واهتماما بالمخاطب، ولأنهم هم ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾! فدل على قيمة الإيمان والمؤمنين به معا!
وإذ نلمس معنى لطيفا، أظلت بلاغته النص كله، وحتى بدا وكأنما هو حلية، تسر الناظرين، ولَمَّا بدا وكأنهم كلما هَمُّوا بعدائكم ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾؛ فكففنا عنكم - كلكم - عداءهم - كله- ! أيضا﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾! هذه المرة، وفي كل مرة أيضاً!
والنص كله فيه طمأنة أفئدة المؤمنين، وأنه تعالى معهم، وكما قال تعالى ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۚ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ۖ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [الحديد:4].