سرية عبد الله بن جحش

١

كانت سرية عبد الله بن جحش رضي الله تعالى عنه مقدمة لغزوة بدر الكبرى، بعثه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في رجب مقفله من بدر الأولى. برهان عمل دؤوب فلا ينقطع، نشط فلا يفتر.

إن الناظر في أمر سرايا نبينا صلى الله عليه وسلم وكم كانت؟ وكيف كانت مقدمة لغزوة بدر الكبرى؛ وليعلم أن ديننا له رجال، يسهرون ولا ينامون، ومن حيث كان قدرهم نشره على أيديهم.

إن مقدمات عظاما سبقت غزوة بدر الكبرى؛ برهان أن هذا الأمر جد، ودلالة أن جهاز المخابرات النبوي يقظ لايفتر، وأنه لا يجوز الاستهانة بعدوك، وإن بدا ضعفه.

إن الله تعالى وحين قال﴿ وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾[الأنفال: 60]. لم يحدد لنا عدوا قويا من ضعيف؛ برهان وجوب الإعداد الجيد؛ ولأن الحرب مفاجآت. وأن عدم الاستهانة بالخصم هو مبدأ عسكري معمول به أبدا، ومهما كان ظاهرا من ضعفه!

كانت سرية عبد الله بن جحش رضي الله تعالى عنه ثمانية رهط مهاجري، لا أنصاري واحدا فيهم، برهان اطمئنان لصف المهاجرين، وتعويدهم ملاقاة قوم بينهم وبينهم نسب وصهر. ذلك أن عاطفة القربي والنسب ربما أحدثت عملها في الصف تخذيلا، وهو ما أراد نبينا ﷺ أن يسلك بهم شعاب التقوى والإيمان، وأن آصرة الدين لهي أشد ميثاقا.

وإنصافا للقول فإن هؤلاء الرهط ما كانوا قد أسلموا إلا وقد تحطمت هذه الوشائج على صخرة الهدى والإيمان والإسلام، إلا أن الاستيثاق منها أمر ربما فرضته قواعد الاشتباك الحقيقي الفعلي العملي.

هذا، وإن الاكتفاء بإسناد عمل السرايا إلى المهاجرين؛ ليبث فيهم روح قرابة، علها تكون مؤثرة في حرصهم على هداية أقوامهم، الذين كانوا من أصلابهم.

وإن إسناد سرية عبد الله بن جحش رضي الله تعالى عنه إلى المهاجرين وحسب؛ برهان أنهم أعلم بشعاب وجهتهم لاغيرهم، وبرهان خبرة قائد، كنبينا صلى الله عليه وسلم، في إسناد العمل إلى أهله.

ومازال العِقد مبرما أن قلةً نافذةً خير من كثرة غير نافذةٍ، دلالة أن سرية عبد الله بن جحش كانت ثمانية، هو تاسعهم، إحكام تصرفٍ، وإحسان تدبرٍ.

كتب نبينا صلى الله عليه وسلم كتابا لعبد الله بن جحش رضي الله تعالى عنه، وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين، ثم ينظر فيه. ثقة وبرهان ابتلاء، ودلالة وفاء، وأنه لن يفتحه!

وإن أمثال عبد الله بن جحش رضي الله تعالى عنه إنما تقوم على أكتافهم دعوة الحق ولما كانوا أقوياء امناء، وصدق الله تعالى ربنا حين جعل القوة والأمانة عنوان إشادة ودلالة ريادة، وانظر إلى قوله تعالى  ﴿  قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ۖ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ﴾ [القصص: 26].

وهذا إسرار بالمهمة، وهذا يقين بصدق الرعية، وإخلاص الجندية، وطاعة أميرهم.

وإنما كان منه ليباعد بينه وبين العشيرة، فلا تؤثر فيه جواذبها ليكون أدعى في التضحية.

وانظر إلى عظم المهمة، وإن سرية هذا شأنها، وإذ يؤمر أميرها، ألا يفتح كتابه صلى الله عليه وسلم إلا بعد يومين! سيرا وتقلبا بين الشعاب والوديان والمرتفعات والجبال والهضاب، ووعورة كهذه، حسبنا أن هذا الجيل كان أهلا للقيام لها، وعلى وجهها، وحين قال الله تعالى فيهم، وقد صدقوا ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة:111].  

وفيه من جلد القوم وصبرهم مايشي كونهم كانوا عند محط نظر القرآن المجيد فيهم، وحين قال تعالى ﴿وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴾ [آل عمران:146]. 

كان قراره صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن جحش رضي الله تعالى عنه واضحا مبينا، برهان أن يكون قرار جهة الإدارة مبينا، لا غموض معه، واضحا لا لبس فيه، أدعى إذعانا، وأقطع لشبهة.

إن جهة الإدارة تكون كثيرا هى المسؤولة عن عِيٍّ أصاب قرارها، وحين تفلت المستقبِل منها؛ لغموض عابه، ولعموم شابه.

وانظر كيف كان قراره ﷺ :

1 - أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين

2- ثم ينظر فيه.

3- فيمضي لما أمره به.

4- ولا يستكره من أصحابه أحدا.

فإن هذا قرار إداري جامع مانع. وفيه إيجاز كان وصفا لقرار إداري دقيق. وليكون تنفيذه على وجهه؛ ولأنه واضح شكلا وموضوعا.

وجه نبينا صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش رضي الله تعالى عنه ألا يستكره أحدا من أصحابه. دلالة لطف قائد، وبرهان وده؛ لينال حسن الطاعة، وكفاءة التدبير، وسلاسة الانقياد، وفقيه ذاك القائد، وحين يستدعي مكامن اللطف في مرؤوسيه، فيتحسس حبهم، وليحبوه أيضا؛ ليثمروا عملا ناجحا مبرورا نافعا.

وجميل أن يشعر فريق العمل أنهم جميعا "أصحاب" فإن ذلك موجب رحمة، وسبب إلف، وليعين بعضهم بعضا، وليؤازر أخوهم أخاه.

إن الإكراه عيب يشوب الرضا! وكان الاستكراه أعظمَ؛ ولأنه حامل بين جنباته مفاعلة، لا تقوم معها لجهاز إداري قائمة، وحين تكون العلاقة الإدارية قائمة ما بين شد وجذب كان عنوانه أن هذا مستكرِه، وأن ذاك الآخر مستكرَه!

إذا نظرت في كتابي فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف، فترصد بها قريشا وتعلم لنا من أخبارهم. وبه كانت مهمة سرية بن جحش استخبارية قتالية معا.

وإن هذا هرم إداري، فالخطاب فيه لأمير السرية وحده، ومن ثم فعليه بلاغ أصحابه، ولا أقول لمن دونه! وقافا عند وصفه ﷺ !

وانظر مرة أخرى، وحين يكون العمل الإداري في المنشأة قائما على أساس الصحبة الممهورة بالتعاون والتعاضد والتفاني، وماذا هو كائن حالها إلا رقيا وعلوا وسؤددا؟!

ونظر عبد الله بن جحش رضي الله تعالى عنه في كتابه صلى الله عليه وسلم فقال: سمعا وطاعة، وهذا برهان إسلاس قياد، وأخبر أصحابه بما فيه، وهذا عمل إداري يشي باجتماع الفريق حول قائده، وأن بلاغا واجبا لمرئيات القائد وقراراته، وباسمه كيما تنال قبولا وكيما تصحبها قوة إلزام؛ ليسارع كل إلى تنفيذ ما وكل إليه، وبنفس راضية!

حين أمر صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش رضي الله تعالى عنه ألا يستكره أحدا فقال: نهاني أن أستكره أحدا فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق. وهذا تفسير مبهج للقرار الإداري.

حين أخبر عبد الله بن جحش رضي الله تعالى عنه أصحابه أنه غير مكره أحدا، فمضى ومضى معه أصحابه، لم يتخلف منهم أحد. وهذا برهان صدق بيعتهم، وعلى السمع والطاعة، في المنشط والمكره، لم تكن بيعة حبرا على ورق، مفرغة من تبعة انقياد، كان علامة على الصدق فيها، وإلا كانت معراة من دليل صدق، ومخلاة من برهان إخلاص!

إن تفسير عبد الله بن جحش رضي الله تعالى عنه قرار نبينا صلى الله عليه وسلم، أنه لا إكراه، وأن الإكراه هو الإكراه على الشهادة، كان بعد نظر تحلى به، وهو ما جعله محل اختياره وثقته صلى الله عليه وسلم به، وإلا فلربما لو كان غيره، لأغرق نفسه في تأويلات شتى، كان أخرها الشهادة، ولو كانت فيها!

إن تفسير القرار الإداري مهمة غاية في أهميتها، ولذا فلا تمنح صلاحية ذلك إلا لمن سبر غور إدارته، وكانت له فيها مواقف تترى، يخبر عميقها، وله دربة خياراتها لما فيه صلاحها ورقيها .

إن المنوط به تفسير القرار الإداري هو من أصدره أصالة، فهو يعرف مراده، أو مستقبله نيابة، فهو أعلم بقائده، وحين كان أكثر معايشة له، وخبرة به.

كانت قرارات نبينا صلى الله عليه وسلم واضحة، شكلها وموضوعها، وبحيث كانت جامعة لفحواها، وقاطعة لمعناها، ومانعة تداخلها مع ما سواها، ولأنه صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم، ولأنه صلى الله عليه وسلم أيضا﴿ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ﴾ [النجم:3و4].

التقت سرية عبد الله بن جحش رضي الله تعالى مع عير قريش، فأسروا منهم بعضهم، واغتنموا عيرهم، وقتلوا زعيمهم - عمر بن الحضرمي - ، وقسموا غنائمهم، فأبقوا خمسها لنبيهم صلى الله عليه وسلم. وكان ذلك في شهر رجب الحرام.

حين قتلت سرية عبد الله بن جحش رضي الله تعالى عنه قريشا في شهر رجب الحرام، فقال صلى الله عليه وسلم «ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام»، فوقف العير والأسيرين، وأبى أن يأخذ من ذلك شيئا.

حين اعترض نبينا صلى الله عليه وسلم على سرية عبد الله بن جحش رضي الله تعالى مقاتلتهم قريشا في رجب الحرام، إلا أنه لم يعنف أحدا برهان حسن خلقه صلى الله عليه وسلم، ودلالة جمع للصف كانت أولى.

أقر القرآن مقاتلة سرية عبد الله بن جحش رضي الله تعالى لقريش في رجب الحرام، بقوله تعالى ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ۖ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ۖ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ ۚ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ۗ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ۚ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ  ﴾[البقرة:217].

إن جواز عمل القتل في قريش وبفعل سرية عبد الله بن جحش رضي الله تعالى؛ لأنها مفسدة أدني؛ لوقوعه في رجب الحرام. وإن فتنة شركهم مفسدة أعلى، فجاز ارتكاب أدنى المفسدتين؛ ولصالح أعلاهما، وهذا هو فقه الموازنات.

إن الكفر بالله، والصد عن سبيله تعالى، وعن المسجد الحرام، وإخراج أهله منه، كانت أكبر عند الله تعالى، من مجرد قتل بعض قريش، وهذا هو فقه الأولويات.

وافق القرآن عبد الله بن جحش رضي الله تعالى حين قسم الخمس للنبي صلى الله عليه وسلم ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[الأنفال:41]. وهذا برهان إلهام رباني وحين اختار صلى الله عليه وسلم كفؤا يعمل على نور من ربه!

وافق القرآن الحكيم عبد الله بن جحش رضي الله تعالى، وحين قتل قريشا، في رجب الحرام، ولأن شركهم أعظم ذنبا من قتلهم، وهو ذنب أقل منه درجة!

دل قوله تعالى﴿ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ﴾ على أن الذنوب تتفاوت درجاتها وأن الخطايا تتفاوت دركاتها، والفتنة هي الشرك، وسمي فتنة؛ لإعمائه صاحبه، وحين كان الحق واضحا فيتركه فكان بمثابة أعمى لايرى! وهذا من إعجاز القرآن المجيد!

حسم القرآن نزاعا بين الصحابة، شأن مقاتلتهم قريشا، في رجب الحرام، وعلى محضر من نبينا صلى الله عليه وسلم، دلالة أن هذه أمة مرحومة، يحدوها القرآن ويهديها الفرقان.

شنع إعلام قريش السلبي أن محمدا وأصحابه استحلوا الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدم، وأخذوا فيه الأموال، وأسروا فيه الرجال. وهذا عمل ذلكم إعلام سلبي.

إنّ الضجة التي افتعلها المشركون لإثارة الريبة في سيرة المقاتلين المسلمين لا مساغ لها، فإنّ الحرمات المقدسة قد انتهكت كلّها في محاربة الإسلام، واضطهاد أهله! فما الذي أعاد لهذه الحرمات قداستها فجأة، فأصبح انتهاكها معرّة وشناعة؟ ألم يكن المسلمون مقيمين بالبلد الحرام حين تقرّر قتل نبيّهم، وسلب أموالهم؟[].[فقه السيرة: محمد الغزالي:224].

كان نبينا ﷺ قد أمسك عن الخمس، ولكنه عاد فأخذه، حين نزل القرآن بجواز القتال في الشهر الحرام، فقبض رسول الله ﷺ العير والأسيرين.

كان إمساك نبينا ﷺ عن الخمس في سرية عبد الله بن جحش رضي الله تعالى اجتهادا منه ﷺ، وكان أخذه ﷺ بعده اقتداء منه للقرآن المجيد؛ برهان أنه بشر يقف عند النص، ولو كان رسولا نبيا ﷺ.

ومسألة اجتهاده صلى الله تعالى عليه وسلم، مسالة أصولية لها بحث تفصيلي آخر ليس هذا محله.