الحكمة من الاستعاذة
وإنما يستعاذ بالله من الشيطان الرجيم لفتنته، كما قال تعالى ﴿ يا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الجَنَّةِ ﴾ [الأعراف : 27]. ومن فتنته أن كان سببا في إخراج أبوينا من الجنة. ومن فتنته خداعه لبني آدم، بإبداء سوءاتهم، ومن سبب خلع لباسهم! وهو أمر في الفطرة لمجرم، وهو أمر في الشرائع لمحرم! وهو نوع خروج عن مألوف الفطرة السوية، التي خلق الله تعالى عبيد عليها، وهو أمر منكر في حسابات العقلاء، الذين من الله تعالى عليهم تمييزا بين ما هو من أصول الأدب والأخلاق وبين ما هو خارج عن معهود ذلكم أبدا. وهو من مثل ما قال الطبري رحمه الله تعالى " يا بني آدم لا يخد عنكم الشيطان فيبدي سوآتكم للناس بطاعتكم إياه عند اختباره لكم، كما فعل بأبويكم آدم وحواء عند اختباره إياهما فأطاعاه وعصيا ربهما فأخرجهما بما سبب لهما من مكره وخدعه من الجنة، ونزع عنهما ما كان ألبسهما من اللباس ليريهما سوآتهما بكشف عورتهما وإظهارها لأعينهما بعد أن كانت مستترة "[1]. ومنه فكان حريا بستر العورات والاحتشام؛ لأن ذلك من مروءات أهل الشيم النبيلة، ولأن ذلك من نعوت أهل القيم الأصيلة.
وإنما يستعاذ بالله من الشيطان الرجيم لعداوته، وما ينشأ عنها ضرورة من نصب حبائله، وما ينتج عنها من إحداث كمائنه، ومن أنه غايته ماكرة، ومن أن وسائله فاجرة، إذ كان مبتغاه إضلال عبيده تعالى ليحشروا معه في زمرة الكافرين، كما قال تعالى ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُواًّ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [فاطر :6] ، ولأنه عدو" فاتخذوه عدوا. أي فعادوه ولا تطيعوه "[2].[ تفسير القرطبي - القرطبي - ج ١٤ - الصفحة ٣٢٣]، ومن عدواته لكم " إخراجه أباكم من الجنة، وضمانه إضلالكم في قول: " ولأضلنهم ولأمنينهم " [النساء: 119] الآية. وقوله: " لأقعدن لهم صراطك المستقيم. ثم لآتينهم من بين أيديهم " [الأعراف: 16 - 17] الآية. "[3]. ومنه قوله تعالى ﴿ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً ﴾ [الكهف :50].
وإنما يستعاذ بالله من الشيطان الرجيم لكذبه، وإنما كانت جريرة كذبه أعظم؛ لأنه كذب على الله تعالى، ولما أقسم له تعالى أنه لآدم عليه السلام لمن الناصحين، وقد كذب، وقد افترى، كما قال تعالى ﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ﴾ [ص : 82-83]، وإن كان قد كذب على الله تعالى، فكيف به مع عبيده من خلقه، وكيف به مع أصفيائه من عباده؟!
وإنما كانت عداوته لاتباعه طرقهم، والوقوف في وجوههم على كل سبيل، وقد أقسم على ذلك إمعانا في التحدي لله تعالى الذي خلقه، والله المستعان، كما قال تعالى ﴿ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ [الأعراف:17]، و" الشيطان عدو. وحذر الله منه إذ لا مطمع في زوال علة عداوته. وهو يجري من ابن آدم مجرى الدم. فيأمره أولا بالكفر ويشككه في الإيمان فإن قدر عليه وإلا أمره بالمعاصي. فإن أطاعه وإلا ثبطه عن الطاعة. فإن سلم من ذلك أفسدها عليه بالرياء والعجب"[4].
وإنما كانت الاستعاذة احترازا من شر وسوسة إبليس، "ومعلوم أن الوسوسة كلام خفي في قلب الإنسان، ولا يطلع عليها أحد، فكأن العبد يقول: يا من يسمع كلَّ مسموع، ويعلم كلَّ سر خفي أنت تعلم وسوسة الشيطان، وتعلم غرضه منها، وأنت القادر على دفعها عني، فادفعها عني بفضلك؛ فلهذا السبب كانت الاستعاذة يقترن بها كثيرا اسما السميع العليم {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[الأعراف:200]، {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[فصلت: 36][5].
ومن حكمتها طهارة الفم مما يمكن أن يتعاطاه المرء من اللغو والرفث، ومن أجل ذلك كانت في مقام تطييبه، وتهيوئه لتلاوة كلام الله تعالى.
وإنه لما كانت "القواطع عن الله أربعة: الشيطان والنفس والدنيا والخلق فعلاج الشيطان الاستعاذة، والمخالفة له، وعلاج النفس بالقهر، وعلاج الدنيا بالزهد، وعلاج الخلق بالانقباض والعزلة"[6].
ومن حكمتها استعانة العبد بالله تعالى، واعتراف له بالقدرة، واعتراف للعبد بضعفه أمام قدرة ربه سبحانه، وإقرار بعجزه عن مقاومة عدوه وحده إلا بمعونة ربه ومولاه، ولما كان عدوا خفيا غير ظاهر، وقد علم العبد أن " الذي لا يقدر على منعه ودفعه إلا الله الذي خلقه، ولا يقبل مصانعه، ولا يدارى بالإحسان، بخلاف العدو من نوع الإنسان، وقال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا} [الإسراء: 65]، وقد نزلت الملائكة لمقاتلة العدو البشري يوم بدر، ومن قتله العدو البشري كان شهيدًا، ومن قتله العدو الباطني كان طرِيدًا، ومن غلبه العدو الظاهر كان مأجورًا، ومن قهره العدو الباطن كان مفتونا أو موزورًا، ولما كان الشيطان يرى الإنسان من حيث لا يراه استعاذ منه بالذي يراه ولا يراه الشيطان[7].
وقال أحدهم " ومن لطائف الاستعاذة أن قوله: أعوذ باللَّه من الشيطان الرجيم إقرار من العبد بالعجز والضعف، واعتراف من العبد بقدرة الباري عز وجل وأنه الغني القادر على رفع جميع المضرات والآفات، واعتراف العبد أيضاً بأن الشيطان عدوّ مبين. ففي الاستعاذة التجاء إلى الله تعالى القادر على دفع وسوسة الشيطان الغويّ الفاجر وأنه لا يقدر على دفعه عن العبد إلا الله تعالى "[8].
وقال في التسهيل لعلوم التنزيل " من استعاذ بالله صادقا أعاذه فعليك بالصدق ألا ترى امرأة عمران لما أعاذت مريم وذريتها عصمها الله ففي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( ما من مولود إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخا إلا ابن مريم وأمه ) " عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان ، فيستهل صارخا من نخسة الشيطان ، إلا ابن مريم وأمه }"[9].
[1][جامع البيان في تأويل القرآن، محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري،[ 224 - 310 هـ ]المحقق : أحمد محمد شاكر،الناشر : مؤسسة الرسالة، الطبعة : الأولى ، 1420 هـ - 2000 م (12/373)].
[2][ تفسير القرطبي - القرطبي - ج ١٤ - الصفحة ٣٢٣].
[3][ تفسير القرطبي - القرطبي - ج ١٤ - الصفحة ٣٢٣].
[4][التسهيل لعلوم التنزيل، ابن جزي الكلبي:ج1/47].
[5][اللباب في علوم الكتاب - ابن عادل الحنبلي (775 هـ - 880 هـ): ج 1/10].
[6][التسهيل لعلوم التنزيل - الغرناطي الكلبي - ج ١ - الصفحة ٣٠].
[7][ تفسير القرآن العظيم، الحافظ أبي الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي – ج1/114].
[8][تحفة الحبيب على شرح الخطيب، البجيرمى على الخطيب - ج 2/217].
[9][صحيح مسلم، كتاب الْفَضَائِلِ، بَابُ فَضَائِلِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، حديث رقم: 4489].