المبحث الأول

المفردات المعرفية.. تداخل وإشكاليات
⏺️
- مدخل:
بالرغم من التباين الكبير في دلالات المصطلحات المتعلقة بالمعرفة، كمصطلح المعرفة نفسه والحضارة  المدنية والثقافة والفكر والدين.. إلا أن المتعارف عليه بين المثقفين والمفكرين هو أن جميع المفردات السابقة ونحوها- تظل ذات علاقة وارتباط- في منحى أو أكثر- بالقضايا الحضارية وبناء الحضارات، وإن كانت أوزانها مختلفة بحسب المدارس الفكرية، والبيئات الثقافية لحملة الأقلام وأصحاب الفكر..

ان ذكر الدلالات الاصطلاحية المرادة بكل من المفردات المعرفية التي سيرد ذكرها في المقال- ليس بغرض إيجاد مفهوم ثابت لكل مصطلح، فتلك عملية غير ذات جدوى؛ بحسبان أن المصطلح إنما يرمّز ويفسر وفقا للسياقات التي يستخدم خلالها- وإنما المقصود بتحديد دلالات المصطلحات: إيجاد روابط واضحة بينها، بحيث يتمكن القارئ من فهمهما في سياق متكامل يساعده في هضم مادة المقال واستيعابها، بالرغم من أن تركيبنا الثقافي لا يعطي لمسالة العلاقة بين الأشياء إلا القليل من الاهتمام.. كما يقول الدكتور عبد الكريم بكار.

ولا أحسب أننا بحاجة إلى تخطئة بعض الآراء والمفهومات، حتى تكتسب آراؤنا درجة عالية من الصحة.. بقدر ما نحن بحاجة إلى فهم طبيعة وخصوصية السياقات التي ترد خلالها.
⏺️
- خلفية:
يلاحظ أن التباين في الدلالات الاصطلاحية.. خاصة فيما يتعلق بالمفردات الحضارية- ليس أكثر من مؤشر على العراك بين المدارس والمذاهب الفكرية المتباينة بالطبع.. وبالتالي فإن الساحة المصطلحية تعد من الساحات المناسبة للعراك الفكري وفرصة لتثبيت الأقدام وتحقيق الانتصارات وفرض الهيمنة الفكرية..

والتعرض لمصطلحات من قبيل المعرفة والحضارة والثقافة والمدنية... لا ينفك عادة عن ارتباط بمصطلحات أخرى مثل الدين والفكر والفلسفة.. وعند التصدي لتعريف (الحضارة) مثلا، فإن الكاتب لا يمكنه- أو يصعب عليه- الانفصال عن رؤاه الثقافية وخلفياته المعرفية والاجتماعية، ليُخرج لنا تعريفا تظلله الشفافية والعلمية والحياد.. بل إن الكُتاب والمفكرين لا يتصدون لإعادة تعريف المصطلحات و تحديد دلالاتها، إلا لتوافق رؤاهم وتنسجم مع خلفياتهم الثقافية والمعرفية والحضارية.

هنا تبرز أهمية فهم الرؤية الثقافية التي ينطلق على ضوئها الكاتب عند تصديه للقضايا الفكرية، أو تحديده للدلالات الاصطلاحية للمفردات، وذلك أن تنبيه الوعي إلى نوعية الفكرة المسيطرة في مقال أو كتاب أو عمل.. ومحاولة تحديدها بدقة، أمر مهم جدا في بناء التصور الصحيح.. وأن عدم تحديدها يجعل فهمنا لمجمل القضية ناقصا أو مشوها.. حسب تعبير الدكتور بكار..
⏺️
- إشكاليات:
التباين الكبير الذي حدث بين أوروبا والشرق الإسلامي خلال القرنين التاسع عشر والعشرين- ألقى بظلال كثيفة على (المفردات المعرفية) ودلالاتها الاصطلاحية وإن كان التأثير بطريقة غير مباشرة.. وقد كانت الإشكالية الأساسية التي أدت إلى التخبط في دلالات المصطلحات- هي عدم دقة الترجمة من اللغات الأوروبية إلى لغتنا العربية.. وعبارة (عدم دقة الترجمة) تحمل بين طياتها جميع الإشكاليات الأخرى كاختلاف معاني المصطلحات بين المفكرين الأوربيين أنفسهم، وعدم مراعاة الظروف الخاصة التي ظهرت خلالها تلك المصطلحات، إلى جانب عدم فهم أو عدم مراعاة الخصوصية الثقافية والمعرفية للمجتمعات الإسلامية.

ولعل من أوضح الأمثلة على سذاجة النقل وعدم دقة الترجمة:
• استخدام مصطلح (الدين) في أوساطنا الثقافية بالمفهوم الأوروبي الغربي كعلاقة بين الإنسان والله فقط.. وما ذلك إلا نتيجة لترجمة المفردة الانجليزية religion بمعنى (دين) دون مراعاة دلالة المصطلح في بيئته ذات الخصوصية الثقافية والتاريخية، التي تتباين بطبيعة الحال عن بيئتنا الثقافية وخصوصيتنا الحضارية.

• تسمية مساق الدراسة التطبيقية أو المعملية بالمساق العلمي.. وإطلاق اسم (العلوم) على الكليات التي تقدم تلك الدراسات.. بالرغم من أن كلمة (العلوم) في مفردة عامة في اللغة العربية مثل (المعارف).. لكن تبقى الإشكالية في الترجمة غير الدقيقة للمفردة الانجليزية science التي تعني نوعا من (العلوم والمعارف) وليست مرادفة لمفردة knowledge بإطلاق..

ولا يخفى أثر هذا التخبط الاصطلاحي في تشويش ذهنيات الناشئة وتهيئتهم للاستلاب الفكري وفقدان الذاتية الحضارية.. خاصة وأن الثقة في الذاتية الخاصة بالمجتمع تعتبر من أكبر الدوافع التي تدفع الأفراد للعمل على استمرارية حضارته والحرص عليها..
⏺️
- بين المعرفة والحضارة:
المعرفة في سياق التعلم، تعني: اكتساب العلوم والمعارف وتحصيلها؛ لأن المصدر عادة ما يتضمن معنى تحصيل الشيء أو فعل شيء ما.. فالزراعة مثلا تحمل معنى موجبا مفاده القيام بزرع شيء ما.. وهكذا..

والثقافة تطلق كمرادف للمعرفة، ولا تعني المعارف والعلوم نفسها بقدر ما تشير إلى اكتسابها وتحصيلها.. ويمكننا القول أن المعارف هي مادة الثقافة.. ومصداقها السلوك.. ومن نافلة القول الاشارة إلى أن السلوك يتضمن طريقة الكلام والكلام نفسه ايضا.. والاسلام يعد الكلام عملا وسلوكا يحاسب عليه صاحبه أو يجزى به.. والثقافة بعد ذلك تصور واتجاه وسلوك فعلي يترجم المعارف والأفكار المكتسبة..

بالربط السابق بين المعرفة والثقافة من جهة، والمعارف والعلوم.. يمكننا فهم ما ذهب إليه الاستاذ مالك بن نبي من ان الثقافة تتمثل في مجموعة الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية التي يتلقاها الفرد ويكتسبها منذ ولادته، وهي برايه تتعلق بالفرد وليس المجتمع او الأمة..

أما الحضارة فهي وان كانت تطلق كمرادف للثقافة إلا أن الأكثر ملاءمة ووضوحا، أن تطلق على ثقافة المجتمع (الامة) واعتبارها بمثابة الثقافة الجمعية للمجتمع؛ حتى نميز بين ثقافة الفرد وثقافة مجتمعه الذي يعيش فيه..

لكن هذه الثقافة الجمعية لا تحمل اسم (حضارة) ما لم تتجسد في مجتمع أو أمة متماسكة ومنظمة تعمل على حمايتها ونشرها ولا تكتفي بمجرد حملها والحفاظ عليه فقط.. ولعل المعنى المشار إليه شائع الاستخدام وإن لم يتطرق إليه من الناحية النظرية في حدود اطلاعنا- ومن ذلك إطلاق مصطلح الحضارة الإسلامية على الفترات الزاهرة من تاريخنا، ولا نكاد نطلقها على واقعنا المعاصر إلا في سياق الحديث عن الحضارة كقيم ومبادئ أخلاقية في مواجهة انتشار وذيوع الأفكار والثقافات الغربية وسيطرتها على فضاءاتنا.
⏺️
- الدين والحضارة:
إذا كان مدرج المفردات الحضارية بادئا من مفردة المعرفة ومارا بالثقافة ثم الحضارة.. فما هو موقع كل من مفردات الدين والفكر والفلسفة من هذا المدرج؟
قبل الإجابة عن التساؤل السابق تجدر الإشارة إلى أن مصطلح الحضارة في الكتابات الفكرية المعاصرة يحمل معنى مقاربا لمعنى الدين عند المسلمين إن لم يكن مطابقا له تماما.. وإذا أخذنا تعريفا شائعا للحضارة كمجموعة الافكار الرئيسة التي تنتج عن نظرة شاملة للوجود المحسوس وتعمل على توجيه السلوك الإنساني.. وأخذنا بالمقابل تعريفا شائعا للدين كمنهج ونظام يحكم الحياة بناء على تصور شامل للحياة والكون والإنسان..

إذا أخذنا هذا ووضعنا في مقابله ذاك لوجدنا التطابق والتماثل المشار إليه كأوضح ما يكون..
وبالتالي فوضع المصطلحات في سياقاتها الأصلية يمككنا من الحصول على روابط ثمينة تمنحنا ملكة الفهم الشامل المستوعب للمفردات والموضوعات والقضايا التي تبدو لبادي الرأي متفرقة ومشتتة..

وللإجابة على التساؤل السابق يجدر بنا أن نشير إلى أننا إنما نعني بالدين: الدين الإسلامي الذي أنزله الله سبحانه وتعالى على خاتم رسله وأكرم أنبيائه محمد بن عبد الله عن طريق أمين وحيه جبريل عليه السلام، وهو الدين المصدق لما تقدمه من كتب والمهيمن عليها والمؤكد لما تضمنته من حقائق الدين وقواعد السلوك والمصحح لما أصابها من تحريف والمتمم لمكارم الاخلاق لتبلغ غايتها ومنتهاها..

والحديث عن الدين يتوجه- أول ما يتوجه- إلى حاجة الناس إليه والتي تنبع من صلة ما بين الدين وحقيقة الذات الإنسانية. إن التدين فطرة جبلت عليها نفس الانسان عند خلقها (فأقم وجهك للدين حنيفا، فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم، ولكن اكثر الناس لا يعلمون) الروم:30.

إن الحاجة إلى الدين إضافة إلى كونها حاجة وجدانية للاطمئنان القلبي والسكينة الروحية، فهي حاجة عقلية أيضا، والعقل يتعطش بطبيعته للإجابة عن التساؤلات الكبرى للإنسان(؟) إلى جانب الحاجة النفسية وحاجة المجتمعات إلى ضوابط وحاجة الافراد إلى الترابط والتعاون والتناصر..

وإذا كان حديثنا عن (الحضارة والدين) فان من سذاجة العقل وضعف التفكير وانطماس البصيرة- الاعراض عن هدي الله والفرار من وحيه المبارك ودينه القيم.. والحضارة التي تستهدف الانسان وتهدف إلى ترقيته وتيسير حياته وحمايته من الاخطار- لا بد من ان تراعي طبيعة هذا الانسان وملكاته ومواهبه وحاجاته كلها، فضلا عن غاية وجوده ومستقبله الاخروي.. 

إن الحضارة التي لا تراعي الإنسان كمخلوق متميز- كرمه الله سبحانه وفضله على غيره من المخلوقات وسخر له هذا الكون الفسيح ليكون خليفته في الارض يعمرها بالعلم والايمان والخير مستهديا بوحي ربه جل وعلا ومستثمرا لجميع مواهبه الحسية والمعنوية، إنما تشطر الكيان الإنساني وتمزقه وتسلمه تلقائيا لحياة القلق والخوف وبالتالي الضياع والعنف ومن ثم الانتحار.
⏺️
- الإيمان والأخلاق أساس الحضارة:
في حوار الرجلين الذي ورد في سورة الكهف.. أن الرجل المؤمن قال لصاحبه الذي اغتر بكثرة ماله وبنيه وانتقل إلى مرحلة إنكار الساعة والشك فيها- قال له المؤمن: (لولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله..).. والحضارة إن لم ترتكز على الإيمان بالله عبادته.. فإنما هي نبت غريب سرعان ما يذبل ويبيد (فأصبح يقلب كفيه على ما انفق فيها ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا)..

بجانب ذلك فإن الدين الإسلامي وبالتالي حضارته وثقافته- يضع الأخلاق ضمن مقوماته وأسسه بجانب العقيدة والعبادة والشرائع.. ولا يتصور الفكر الإسلامي إنسانا بلا أخلاق ولا حياة بلا أخلاق ولا حضارة بدونها..

والناظر إلى نوعية القادمين الجدد إلى الإسلام والداخلين فيه والباحثين عنه- يجد أن أهم دوافعهم إلى البحث الذي قادهم أو سيقودهم حتما إلى الإسلام.. هو خواء حضارتهم من الأخلاق وإفلاسها الكبير في هذه الناحية..

ويرى كثيرون أن الإسلام يسير في اتجاه متصاعد ليصبح سلوكا كونيا.. ليس للبسطاء ومتوسطي الثقافة فحسب.. وإنما لكبار العلماء والمفكرين والباحثين عن المصداقية والحقيقة.. وبالتالي سيكون له دور بالغ الأهمية في المستقبل المنظور.. ويرى آخرون أن الإسلام لن يدخل إلى الساحة العالمية كقدرة تطور جديدة تملي مزيدا من التكنولوجيا والصواريخ والأقمار والقنابل.. وإنما سيدخل كقدرة خلاقة قادرة على إنقاذ العقول التائهة التي وجدت كل شيء لكنها فقدت نفسها.. وعرفت الكثير الكثير في عصر العلم والانفجار المعرفي لكنها لم تعرف نفسها بعد ولم تخشع لربها قط.. سيدخل كقوة قادرة على تعديل الاختلال الهيكلي بين ضخامة العقل وضمور الروح لتحقيق التوازن.. سيدخل قدرة خلاقة لإنقاذ العقول المتضخمة التائهة حتى لا تصبح قوى خارج السيطرة.. تدمر الحرث والنسل وتوشك أن تدمر نفسها في نهاية الأمر..

حسب الحضارة الإسلامية فإن تقدم الإنسان لا يقاس بكثرة اكتشافاته واختراعاته على أهميتها وفضلها- ولكن بتفوقه على ذاته وتحقيقه لإنسانيته.. والإنسان عديم الأخلاق تظهر غرائزه في سلوكه على نحو لافت مما يجعله في وضع عام قريب من الحيوان بل أرذل وإن امتلك جميع وسائل الحياة وأسباب الرفاهية..

ومن عجائب قوة الأخلاق الإسلامية وخلودها أنها تأتي في مقدمة وسائل نشر الإسلام وتدويله وعولمته.. فهاهم الأوروبيون المتطرفون يتظاهرون في عواصمهم الزجاجية ضد الإسلام وأسلمة أوروبا.. وهم الذين خدعتهم حضارتهم ذات الآلة الإعلامية العاتية أن الإسلام قد انتشر سابقا بالسيف والقوة.. وعندما أفاقوا من بعض سكراتهم وجدوا أن الإسلام قد اخترق العواصم والمدن الكبرى والإحصاءات والمواليد الجدد بقوته الناعمة وبريقه الخالد وطعمه الفريد.. الأخلاق..

هذا عن الواقع المعاصر في ظل ضعف المسلمين سياسيا واجتماعيا.. وإن كانت الحضارات تدين بأسمى قيمها لفترات الضعف السياسي كما عبر بذلك الفيلسوف الألماني نيتشة.
⏺️
- التربية والتعليم:
التربية كفعل اجتماعي- يقصد بها الإرشاد والتوجيه الذي يهدف الى ترقية الاخلاق والسلوكات الشخصية والاجتماعية للافراد..

والقيام بالارشاد يتطلب وجود (مرشد).. وغني عن القول إن المرشد خلاف المعلم وبالتالي فإن التعليم شيء والتربية شيء آخر.. يقول العلامة رمضان البوطي: التعليم ليس أكثر من نقل المعارف إلى الاذهان ويكفي لذلك توفر المادة العلمية ثم توفر الاداة التعبيرية السليمة..

ويقول البوطي ايضا: (الإرشاد عملية (تربوية) تستهدف تقويم الوجدان وتصعيده..).. ويجدر بنا ملاحظة التفريق الرائع بين (نقل المعارف الى الأذهان) و(تقويم الوجدان وتصعيده).

حول مواصفات المرشد.. يقول الشيخ البوطي: (الإرشاد يتطلب قدرات فائقة من المرشد.. كما يتطلب قبل هذه القدرات ان يكون المرشد قدوة تامة للمريد).

حسب طبيعة مؤسسات التعليم في بلادنا فإنه يصعب على غير المتخصص التفريق بين عمليتي التعليم والتربية.. وإن كانت المؤسسات الحديثة قد فصلت بينهما بوضوح.. حيث استقلت الجهات التعليمية بينما توزعت مهمة القيام بالتربية بين أكثر من جهة، خاصة بعد انتشار وسائل الاعلام وتزايد فاعليتها في التأثير الاجتماعي.

إن التربية كفعل ذاتي ليست سوى مجهود يبذله الفرد لترويض وجدانه حسب مقتضيات العقل.. أما التربية كفعل اجتماعي فيقصد بها الارشاد والتوجيه الذي يستهدف مساعدة الفرد في عملية ترويض النفس كما سبقت الإشارة.. أما ما يسمى بالتربية الاسرية فيقصد بها الإرشاد والتوجيه المذكوران سابقا إلى جانب التنشئة الاجتماعية للطفل.. أما التعليم فهو عملية نقل العلوم والمعارف إلى الأذهان كأرصدة للمعالجات الذهنية فيما بعـد.
⏺️
- الثقافة.. والتربية الإيمانية:
التربية كفعل ذاتي- تعني ترويض النفس والوجدان للالتزام بمقتضيات العقل.. والتربية كفعل اجتماعي يقصد بها الارشاد والتوجيه الذي يهدف الى ترقية الاخلاق والسلوكات الشخصية والاجتماعية للافراد.. أما التربية كمؤسسة فتعتبر أداة تنفيذية تعكس ما تتطلع الأمم إلى تحقيقه في أبنائها بناء على ما جد لديها من معارف وخبرات وظروف.. وهنا تدخل الثقافة كعامل رئيس وحاسم في تحديد مضمون وأهداف وأسلوب الرسالة التربوية التي يضعها المجتمع لتشكيل أبنائه..

لنقتبس من القرآن الكريم، نموذجا تربويا تتجسد فيه الثقافة الإيمانية كأوضح ما تكون.. وذلك في قصة لقمان الحكيم ووصاياه لابنه: "ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد"..

وبما أن لقمان قد أوتي الحكمة- التي تناولناها في موضوع مستقل- فإن توجيهاته التربوية التثقيفية تكتسب أهمية خاصة لا سيما أنها موجهة لابنه وفلذة كبده.
⏺️
- الفكـر.. معـان متعـددة:
الفكر مصطلح متعدد الاستخدامات والمعاني.. يطلق على العقل وعلى العملية العقلية (التفكير) وعلى ما تتوصل إليه من أفكار.. ويطلق على التصورات والرؤى الكلية للحياة والكون والإنسان.. كما يطلق في مقابل الدين والوحي في العالم الغربي.. بينما يعتبر شارحا وموضحا وأداة للاجتهاد في الإطار الحضاري الإسلامي..

بإدخالنا لعامل البيئات الحضارية والثقافية.. يتضح أن الاستخدام الشائع لمفردة الفكر في فضائنا الثقافي- تنقصه الدقة وتغلب عليه ثقافة النسخ واللصق..

استخدام الفكر بمعنى التصورات والأفكار والرؤى الكلية للحياة.. يمنحه جوهر خصائص (الدين) من حيث وضع الخطوط العامة لسير الحياة الإنسانية.. وتحديد طبيعة مهمة الإنسان وغاية وجوده فيها..

تتمثل مهمة الفكر وطبيعة دوره، في تسليط الأضواء على الأسس العامة للإسلام من عقائد وأخلاق وشعائر ونظم.. وبيان قدرة الدين على سد حاجات الإنسانية في مختلف العصور.. ومقدرته على إيجاد وصياغة حياة جماعية تسودها قيم السماء والوحي.. وذلك بإعماله- أعني الفكر- في حل المشكلات وإيجاد البدائل المناسبة وتحديد النسب والعلاقات في مختلف القضايا الحضارية- كما عبر بذلك الدكتور بكار- إلى جانب استيعاب المفيد من الحضارات الأخرى وقولبته في الإطار الإسلامي ما أمكن ذلك.. فالحكمة ضالة المؤمن.
⏺️
- الفلسـفة ودلالة الحكمة:
الفلسفة عندما اختطها سقراط في الحضارة اليونانية- كانت تعني الحكمة أو البحث في الحكمة.. والبحث في الوجود أو البحث في مشاكله..

بهذا المعنى وجه أبو الفلسفة اليونانية شعبه إلى محاولة اكتشاف ذواتهم والتعرف على أنفسهم ومعرفة موقع الإنسان في الكون.. وبالتالي فإن الفلسفة عندهم كانت تعني: طريقة في التفكير للوصول إلى المعرفة..

وبما انه (وراء كل فلسفة دينا) ولا يتصور وجود فلسفة لا ترتكز على دين- كما يقول دور كايم- فإن الدين الذي كانت ترتكز عليه الفلسفة السقراطية كان هو وجدانيات سقراط نفسه وتصوراته عن الإله الخالق واهب الروح النورانية التي يعتبرها من نور الإله..

عند التأمل العميق في دلالات مفردة الحكمة في الحضارة اليونانية من جهة وفي الحضارة الإسلامية ومدرستها النبوية من جهة أخرى- تظهر فروق واختلافات اصطلاحية اكبر من أن تهمل..

والخلفية الدافعة للبحث عن الحكمة- بما تحمل من معاني العلم والمعرفة- تعتبر محددا مهما في فهم الدلالة الاصطلاحية للمفردة.. وقد توجه البحث عن المعرفة لدى اليونان بجانب البحث في القيم والأخلاق الفاضلة وتنظيم المجتمع- إلى التعرف على الوجود والكون والإنسان نفسه.. في محاولة لبناء تصور مقبول يشفي غليل العقل ويجيب عن تساؤلاته الكبرى.. 

أما البحث عن المعرفة والأخذ بالحكمة (أنى وجدها المؤمن) كما توجه الحضارة الإسلامية- فينطلق وقد قدم الوحي تصورات شاملة وشافية لتساؤلات العقل وقضاياه الكبرى.. ووفر له طاقة هائلة كانت ستستهلك في محاولات الوصول إليها.. وبالتالي أتاح له التركيز في البحث عن قوانين الكون وسنن الحياة واكتشاف ما أودعه الله فيها من خيرات وموارد.. ومن ثم تسخيرها في مصلحة بني الإنسان وتعمير الأرض وفق التوجيهات الربانية المتمثلة في الدين الإسلامي..

والفلسفة لدى الفلاسفة المسلمون الأوائل- كانت تعني البحث في العلاقة بين الله والإنسان.. أما في الاستخدام المعاصر فتطلق على الرؤية والمذهب والتصور والآيدولوجية.. كالفلسفة المادية أو العبثية ونحوهما.. وأما باعتبارها علما ومبحثا معرفيا فهي لا رأي لها حيث تقول الرأي ونقيضه والفكرة وضدها حسب تعبير الدكتور عبد الحليم محمود أستاذ الفلسفة بالأزهر..
⏺️
- خلاصة:
نخلص من المقال إلى أهمية الالمام بمعاني ومفهومات الدلالات الاصطلاحية للمفردات الحضارية المتعلقة بموضوع المعرفة.. وذلك من خلال:
• فهم المفردات والمصطلحات حسب سياقاتها واطرها التي ترد خلالها.
• مراعاة تلك الاطر والسياقات عند استخدام المصطلح في سياق آخر مغاير.
• مراعاة طبيعة البيئة التي اخرجت المصطلح.. خاصة عند النقل والترجمة الى اللغة العربية.

المبحث الثاني
المعرفة في سياق الانتماء الحضاري
- مدخل:
إن المعـرفة سلاح التقدم وعماد الارتقاء، وهي وسيلة الأمم لتحقيق ذاتيتها، وسبيلها لحجز مواقع متقدمة في سباق الإسهام المعرفي والحضاري. والشباب بما ينتظرهم من مستقبل، هم أجدر من غيرهم بارتياد آفاق المعرفة وامتلاك أسرارها.. ويكثر الحديث عن إهمالهم للمعرفة وانصرافهم عن الاطلاع والقراءة الجادة.. ولا أميل إلى أسلوب لوم الشباب والقرع على نواصيهم، دون الالتفات إلى ابتداع برامج عملية أكثر فاعلية، أو الكتابة إليهم بدلًا عن الكتابة فيهم.

- ما المعرفة؟
المعرفة هي ما يمكننا الحصول عليه أو إنتاجه من معلومات بواسطة مصدر أو أكثر من مصادر المعرفة (الكون والوحي) وأدوات تحصيلها (العقل والحس،…) وتطلق المعرفة كمرادف للعلم في الفضاء الثقافي العام وإن كانت للساحات الأكاديمية رؤيتها وتفريقها بين المصطلحين. ولكل من مصادر المعرفة وأدواتها قيمة خاصة.. فما كان مصدره الوحي ليس للعقل إدراكه إلا عن طريق الوحي، وما نيط بالحس والتجربة فإنه يتوقف عليهما.. وقد وهب الله عز وجل- الإنسان العقل وجعله مناط التكليف، حيث به يفهم خطاب الشرع، وبه يستخدم ما سُخر له في الكون الفسيح.

- دوافع المعرفة:
ولعل من أهم دوافع المعرفة أن يتعرف الشخص على ذاته وقدراته.. فيعرف موقعه من الكون والمجتمع ومهمته في كليهما.. وما يتبع ذلك من مسؤوليات وواجبات تعرف إجمالا برسالة الحياة. إن رسالة الحياة مهمة اجتماعية في المقام الأول، وذات ارتباط مباشر بالقيم والاعراف الاجتماعية الخاصة بكل مجتمع على حدة. وتستقي مجتمعات المسلمين بصفة عامة، قيمها وآدابها وعاداتها من دائرة الحضارة والثقافة الإسلامية، لذا فإن مدخلنا إلى المعرفة ينبغي أن يرتكز على هذه الدائرة الحضارية الكبيرة.

- في الدائرة الحضارية:
إن حضارة الإسلام كأسلوب حياة ونظام مجتمع وطريقة تفكير، تعني مجموعة الأفكار والقيم والتشريعات التي يعتقد بها المسلمون وتضبط سلوكهم، والمنبثقة عن نظرة الإسلام الشاملة للوجود والكون وموقع الإنسان بالنسبة إليه. (انظر يوسف محمود- الإنجازات العلمية في الحضارة الإسلامية). والمصدران الأساسيان للحضارة الإسلامية هما القرآن الكريم والسنة المشرفة، والاستظلال بظلالهما الوارفة، خير معين للإبحار الآمن في المحيطات المعرفية الواسعة. وتضيف المعرفة الحضارية للمثقف، بعدًا مهمًا، وهو تحقيق الانتماء الواعي لحضارته؛ مما يزيد من ثقته بنفسه ووعيه استقلاليته. إضافة إلى منحه أبعادًا متعددة أخرى للنظر؛ مما يمكنه من توسيع آفاقه ومداركه بصورة كلية، ولعل طلبة المساقات التطبيقية يدركون أهمية النظر الكلي للظواهر الطبيعية أو المعملية للوصول إلى نتائج دقيقة، وبالمقابل يدرك طلبة الدراسات الأدبية والاجتماعية أهمية النظرة الشاملة عند دراسة الظواهر الاجتماعية أو دراسة المجتمعات.

تتسم الدائرة الكبيرة للحضارة الإسلامية بسمات متميزة، فهي توائم بين المادة والروح، والعقل والوحي، وتجمع بين الثبات والتطور، وتدعو للعلم والعمل، والدنيا والآخرة (انظر محمد قطب- الثبات والتطور).

إن المدرك لطبيعة التصور الشامل للحضارة الاسلامية، يصبح مزدوج الحركة فعالًا منتجًا.. كيف لا، وقد أطلقت عقله وحررته من الخرافات والجهل، وفتحت أمامه آفاقًا واسعة للانطلاق والتجريب والمعرفة، وقد أمدته بتصور صادق عن الكون وخالقه، فوفرت عليه طاقة هائلة كانت وما زالت تستنزف قدرات الإنسان وهو يضرب يمنة ويسرة في ظلمات التيه والشك والاضطراب والحيرة. إن الدائرة الحضارية هي ركن الزاوية في البناء المعرفي، وصمام الأمان للإبحار العميق المتواصل.

- من أنا.. من نحن؟
إن من سمات الصراع والتشابك الحضاري، دفع الأفراد والمجتمعات إلى الاستفهام والتساؤل.. وعادة ما يكون السؤال الرئيس لذلك الاستفهام المفصلي هو: من أنا.. ومن نحن؟.. إلا أن المؤسف حقا أن تنطبق هذه السمة في مجتمعات المسلمين.. وان تصدر عن أفرادهم.. الأمر الذي يتطلب توعية شاملة لأجيال الجديدة للإجابة عن تساؤلاتها بدرجة تضمن الحفاظ على توافقها النفسي وثقتها بذاتيتها وإحساسها بالانتماء إلى الإسلام وحضارته وثقافته وقيمه السامية الفريدة.. ولن يتأتى ذلك إلا بالعلم والمعرفة..

- الآخر يعترف بتميزك:
وحسب الشباب الناشئ أن يدرك- في هذا الإطار- أن ما يقوله أعداؤهم من قبيل: (إن المسلمين ليس لديهم في الوقت الحاضر إلا التغني بأمجاد أجدادهم..).. حسبهم أن يدركوا أن مثل هذا القول في حقيقة الأمر- اعتراف ضمني موثق بفترة (العبقرية والعطاء والإسهام الإسلامي) التي أفرزت أسماء خالدة ما زالت تذكر في قاعات الأكاديميات العالمية.. واعتراف كذلك بأن العصور الإسلامية الأولى كانت فترات زاهرة وزاهية عمرانيا وعلميا وإنسانيا أيضا.. والاعتراف سيد الأدلة والفضل ما شهدت به الأعداء.. والمنصفون منهم كثر بفضل الله..

- التاريخ خير معـلم:
وبالمعرفة والاطلاع على بعض الدراسات التاريخية- وما أصدق التاريخ- يمكن لناشئنا الصاعد أن يبتني جانبا مهما من ثقته بذاته الحضارية.. ويستعيد جانبا من أصالته وشخصيته.. إذ يستحيل على من لا يملك عدة تاريخية مناسبة أن يبني شخصية خاصة مستقلة ذات ملامح متميزة.. فضلا عن أن يكون مجددا أو راغبا في التجديد الاجتماعي والثقافي والإنساني العام.. وما الدين إلا رحمة للعالمين..

- لا حيرة مع المعرفة:
والعلم وبالمعرفة والاطلاع والتثقف.. تتناقص الأسئلة الحائرة.. وتتزايد في نفس الوقت- الرغبة في المعرفة وفي اكتشاف المزيد من الأفكار والوقائع والرموز والعلاقات.. وكلما قدمت المعرفة إجابات أكثر عن تساؤلات الناشئة والشباب.. ازداد تعلقهم بها وحبهم لها وتفاعلهم مع ما يرتشفونه منها..

- بكّار على خط المعرفة:
وليس أدل على أهمية القراء والتثقف في الحضارة الإسلامية- من أن كلمة (اقرأ) كانت أول كلمة تنزل على حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم.. وينبغي أن نفهم الدلالة العميقة لهذا الأمر.. وذلك في صورة اكتشاف لأهمية العلم والمعرفة في وجودنا المادي والمعنوي على حد سواء.. فنحن بحاجة إلى العلم لإخضاع الطبيعة.. وللحصول على فرص عمل.. وقبل ذلك نحتاجه لفهم أنفسنا.. وفهم طبيعة علاقتنا بخالقنا سبحانه وتعالى.. إلى جانب حاجتنا لفهم العصر الذي نعيشه.. ومن ذلك بالطبع: فهم التحيات التي تواجهنا وتهدد وجودنا المادي والمعنوي المشار إليه سابقا.

- القراءة.. وسيط معرفي:
إن أذهاننا لا تدرك الأشياء على نحو مباشر.. وإنما عبر وسيط معرفي مكون من (مبادئ علمية وعقلية ومعارف وخبرات حياتية).. لذا يتحتم علينا أن نقرا.. ونتعلم.. ونجرب.. لنحسن من مستوى الوسيط المعرفي.. وبتحسنه يتحسن فهمنا للوجود.. وتتحسن بذلك نوعية الحياة.

- والغـزالي أيضاً ..
لأمر ما.. أراد الله أن تكون أول كلمات الوحي القرآني "اقرأ باسم ربك الذي خلق".. ولأمر ما أيضا.. أراد الله أن يكون القسم القرآني بالقلم.. وإننا نعتقد اعتقادا راسخا أن لا وجود للإسلام إلا في جو المعرفة والعلم.. وكما أن السمك يموت إذا أخرج من الماء.. كذلك الإسلام يموت في جو الجهل والأمية والتخلف الذهني.. ولا تعرف مفاهيمه وأحكامه وحكمه التشريعية البليغة إلا في جو العلم الغزير والثقافة الرحبة..

- خطوات عملية وموضوعية:
وأشير هنا إلى ضرورة أن يعمق الناشئ في نفسه معاني الانتماء إلى أمة الإسلام وحضارته وفكره.. وإن كانت مسؤولية القيام بهذه المهمة هي من مهام التربية ومؤسساتها في المقام الأول.. لكن التعامل مع واقع الحال يظل دائما هو الأقرب إلى الصواب والموضوعية.. إن الناشئ المسلم وقد تجاوز الرابعة عشرة.. بإمكانه أن يثقف عقله وينمي ذاته ويكمل ما قصرت فيه الجهات التربوية المعنية.. وإن كنت مستوعبا ومدركا لصعوبة ما أقوله نسبة لكثرة الجهات التي سيقوم ناشئنا بأدوارها الغائبة ولكن: إذا لم إلا الأسنة مركبا.. فما حيلة المضطر؟

- الثقافة.. مرجعية وجدار حماية:
وإلى جانب تعميق معاني الانتماء.. وتأصيل الذاتية الحضارية والثقة بالنفس- يجدر بالناشئ تعلم القيم الإسلامية والأخلاق الفاضلة.. والتمثل بها في سلوكه.. ومن استخدامها كمرجعية وجدار واق في عصر طابعه: الغزو والتدجين الثقافي والفجور الغرائزي والتفسخ..

- من (بكار) إلى فكار:
تأصيل الانتماء الحضاري.. وتنمية السلوك.. ووضوح المرجعيات التي يحتاجها الذهن في نموه المعرفي.. كلها أمور في غاية الأهمية. يقول الدكتور رشدي فكار: اعتقد أن المرجعية التي تكونت لي في طفولتي من خلال القرآن والحديث والفقه وألفية ابن مالك وغير ذلك- قد أدت دورا مهما في تكويني الذهني.. كانت نتائجه النهائية لصالحي لا لتدميري.. وفي اعتقادي أن العالِم حين يصل إلى درجة من النضج.. لا بد له أن يفعل شيئا: فإما أن يبني وإما أن يدمر.. وقد تؤول به القضية إلى أن يدمر ذاته القادرة.. وتجدني التمس عذرا للعديد من الذين تمردوا الآن في الغرب (أي أحسوا بعدم الانتماء).. فإنهم قد نشأوا في أُسر مهتزة إلى حد ما.. فلم يتكون لديهم انتماء محدد ولا مرجعية للإحالة حين وصلت أذهانهم إلى قمتها.

- خاتمة:
لنجدد العزم على الانطلاق في فضاءات المعرفة الإنسانية الواسعة، نستقي من الحكمة أينما وجدناها وحيثما حلت، نطيل البحث ونجيل النظر، ساعين لرفعة أوطاننا وتنمية مجتمعاتنا، وهي تنتظر منا الكثير.. ولنبدأ بالتعرف على حضارتنا لنحقق ذواتنا وندرك أقدارنا.

- مراجع:
كتابات متعددة لكل من: عمر عبيد حسنة- عبد الكريم بكار- رشدي فكار- يوسف القرضاوي- فريدريك نيتشه- محمد قطب- يوسف محمود.
-----------------------
* معلم سوداني