الكتابة.. هواية وفن وثورة
أحمد بابكر حمدان
- مدخل:
إن مجرد تفكيرك في الكتابة، يرجح أن تكون الجدارات اللازمة لها متوفرة لديك، وإن كنت بحاجة إلى جهد يحرك ما ركد من مياهك، ويحفزها على الجريان. إن الكتابة والعزف على الورق أو الجدر الاليكترونية، أقرب ما يكون للوحة الماء جاريا من منبع إلى مصب، لكنه في رحلته تلك، يخضر أراض ويحيي موات.. ويرسل ألحانه يمنة ويسرة. إن النهر بالرغم من وضوح وجهته، إلا أن ما ينجزه في مساره المبارك، قد تتضاءل أمامه قيمة نقطة النهاية والمصب. إن ما يمنعك عن الانطلاق ككاتب ليس مجرد عوائق تقنية في معظم الأحوال، لكنها بتقديري، حزمة أفكار معطلة، يتطلب تغييرها شيئا من الجهد والحزم.
لعل المقدمة السالفة، ذات نفس تحفيزي عال بعض الشيء.. وهذا ظن في محله؛ فقد تكون (التحفيزيات) كافية لإزالة ما يمنع البعض من الكتابة.. لكنها ليست ذات تأثير في جميع الحالات باتفاق العقلاء. إن العوائق في مجملها عادة ما تكون ذهنية و(فكرية) إذ تلعب الأفكار دور أنظمة التشغيل، وما لم نعمل على مخاطبة الخلل الحقيقي في النظام، فليس من المعقول توقع نتائج مغايرة. ولعل ما يقف بينك وبين الكتابة والقلم سلة أفكار خاطئة عنها.. وهذا ما نرغب في مناقشته في مقال اليوم..
في مراحل سابقة لتصالحنا مع الكتابة، كنا نراها ضربا من الترف الذهني، والتنظير.. وذلك في جملة أفكار وتصورات خاطئة أخرى من بينها أن الكتابة (موهبة) وملكة ليس بالإمكان اكتسابها، ومهارة تتطلب ثقافة واسعة ومعرفة دقيقة باللغة والبلاغة والنحو.
إن الكتابة يا عزيزي، ليست بكل تلك الأوصاف والآصار.. إنها مجرد نشاط أقرب ما يكون إلى أنشطة التعلم. إن أهم خطوة قد تكون حاسمة في تصحيح ما سبق من تصورات خاطئة عن الكتابة، أن ننظر إليها ضمن صورة كلية لنشاطنا المعرفي؛ لنرى كم هي داعمة ومعززة للتعلم ومعبرة عن جودته..
قبل الانطلاق، لنعمل على تغيير نظرتنا للكتابة، وتصورنا عنها من خلال عدة نقاط:
- إن الكتابة أداة مهمة لتلخيص من نحصله من معارف ومعلومات، لنضعها في صورة أكثر إجمالا وتركيزا وجمالا أيضا.
- إننا بحاجة إلى الكتابة في مختلف مراحل التعلم، ابتداء من مرحلة التلقي.. مرورا بالتعليم ونقل المعرفة.. وليس انتهاء باقتراح الافكار ووضع التصورات وتقديم الحلول.
- إن الكتابة ليست بعيدة عنك، لكنها لن تتصالح معك ما لم تصارحها بحاجتك الماسة إليها.. عندها ستصبح أقرب إليك من أفكار متدفقة تنتظر عزفا منك يحصنها من الضياع.
- لماذا نكتب؟
نفس السؤال، قد يتبادر متزامنًا في أذهان كل من المدون والقارئ وقد يتطور السؤال أحيانًا إلى درجة أكثر تعقيدًا: ما قيمة الكتابة نفسها في مجتمعنا؟ وماذا نستفيد من الكتابة؟
بطبيعة الحال لكل منا طرح ما يشاء من أسئلة واستفهامات للحصول على مساحات أكبر من الضوء والمعرفة، لكن أذهاننا عادة ما تتساءل بمستوى ملائم لبيئتها الثقافية والاجتماعية ولا يمكنها تجاوز ذلك.
ولعل من يمسك قلمًا أو يضع أنامله على كيبورد، عادة ما يغض الطرف عما يثنيه عن الكتابة والتعبير والعزف الصامت لا سيما تلك الأسئلة الصعبة والمحبطة أحيانًا.
أصحاب الأقلام كأصحاب الكاميرات يحزنهم ضياع لقطات نادرة أو مشاهد لن تتكرر، يحزنهم مرور الخواطر والأفكار دونما توثيق، يصورون بأقلامهم، يرسمون بالأحرف، يقومون بكل ذلك وهم أكثر الناس قربًا من إجاباتها إن أرادوا الإجابة عنها.
- الكتابة.. رسم وترجمة:
في استطلاع ذي صلة بعنواننا، عبر عدد من هواة الكتابة عن ارتباطهم بها، قالت الطالبة الجامعية منى يحيى لزم: «أكتب لأعبر عما بداخلي تجاه شيء ما أو شخص ما، أكتب لأرسم لوحة وابتسامات علي وجوه عاشقي القراءة، لا أعرف لماذا أكتب على وجه التحديد، لكني ساظل أكتب حتي تمتلئ أوراقي، وينفد الحبر من أقلامي».
- ملعب واسع وأخضر:
حملة الأقلام وهواة الكتابة يحزنهم تساؤل الناس عن دائرة سعادتهم، يقول أحدهم: «في عالم كرة القدم تنزعج الجماهير من دخول الخصم لنصف الملعب الخاص بها، فضلًا عن توتر المدرب وارتباك اللاعبين، وفي عالم الكتابة يحزننا دخول الجماهير إلى ملعبنا أيضًا». جميل ذلك الملعب وواسع وأخضر، بحفيف كيباده أو صرير الأقلام حسب وصف الشافعي: "وصرير أقلامي على أوراقها أحلى من الدوكاء والعشاق".
- ارتباط بمهنة الموت:
قدَر المدونين أن تكون "هوايتهم" ذات ارتباط وثيق بملعب آخر ساخن وساحة وغى ومهنة متاعب وموت زؤام، وليس من السهل فك الارتباط وفصل الصلة وقطع العلاقة معها، رغم أن المدونين ليسوا صحفيين دائمًا كما يتصور كثيرون وإن جمعتهم الوسيلة والأساليب والقنوات أحيانًا كثيرة.
في بعض الأحيان، قد يتطور المدون إلى صحفي محترف ويحدث العكس أيضًا في حالات كثيرة! للعودة إلى روح الكتابة ومتعة الهواية حين يكتب صحفيون كبارًا كتابات (غير صحفية) وغير مدفوعة الأجر وغير ملتزمة بخطة نشر.
يكتب المدون وحاله كالمنفق يهب من منح الواهب ويعبر قلمه عن حاله قائلًا:
«لا خيل عندك تهديها ولا مال
فليسعد النطق إن لم يسعد الحال»
برأي الكاتبين: ليس أجمل من النطق الصامت، كلمات وحروف متلاصقة تصنع ابتسامة هنا وتمنح أملًا هناك، وكم معاناة حكاها كاتب فتحت أبواب أمل لم تغلق بعدها.
- اختبار الوفرة والإتاحة:
وإذا كانت المعرفة قد شرعت في العودة مرحلة إلى الشيوع والتشاركية والمجانية، ومغادرة نقطة الندرة والاحتكار بفضل ما وفرته تقنيات الطباعة والتصوير والاتصال وغيرها من أدوات العولمة- فإنها قد صنعت تحديات جديدة للمجتمعات والأفراد لا سيما النخب، يتمثل في القدرة على التلقي والاختيار والفرز. إن الوفرة والإتاحة اختبار لا يقل صعوبة عن اختبار الندرة والسيطرة.
إن التدوين وسيلة ترفيه جادة ومنفذًا ومتنفسًا في بيئات يقترب أفقها إلى الانسداد، وهواية منتجة، وأداة للمحافظة على اللغة ونقل المعرفة..
- بين الكاتب والفكرة:
عادة ما تفتقر العلاقات إلى فضاء اتصالي جيد، وتزداد حاجتنا لجودة البيئة الاتصالية كلما كانت العلاقات بين المفردات متقاربة ومتداخلة. إن مساحة ما بين الكاتب والفكرة قد لا تسمح له بالتأمل في طبيعتها ومتطلباتها، وإن كان ذلك مهمًا وضروريًا.
في مبتدر الصبا الفكري، ينصب اهتمام الكاتب على ما بينه وبين اللغة، وفي مرحلة تالية يشرع في التخفف من قيود اللغة لصالح الفكرة، وقد يهتم بدرجة أكبر بالقوالب على حساب المضامين، وقد يعيش صراعًا بين التركيز في الفكرة، وإدمان القوالب. أما في مرحلة النضج، فيلتفت إلى مستوى ما بينه وبين أفكاره المنتجة، بغض النظر عن قوالب عرضها أو مراكز تسويقها.
- تصميم الصفة الشخصية:
إن أصعب الأسئلة التي تواجهنا في الحياة، هي تلك المتصلة بذواتنا وخصوصياتنا– كما ندعي– وإن كانت الأخيرة سلمًا نكثر من استخدامه للهروب من، أو عدم الرغبة في التصريح. وليس بعيدًا عنا اجتهاد النساء في إخفاء أعمارهن، وفي محاذاتهن غضبة الرجال وهروبنا من سؤال الراتب والدخل.
ويغلب على ظني أن ما وجدته من عناء عند التسجيل في مدونات الجزيرة عام 2016– قد واجه كثيرين من راغبي التدوين في منصة الـAJA. فما مرجع الصعوبة في استمارة التسجيل كما كانت في ذلك الوقت؟ وما الذي يجعلها في درجة عالية من الصعوبة والتعقيد؟
بعد أن تتعرف مدونات الجزيرة على اسمك الصريح ومحل إقامتك ومهنتك العادية، تعمد إلى استفزازك بحقل احترافي عن «الصفة». وقد توقف حماري عند عقبتها طويلًا وإن لم أكن شيخًا كما يقول المثل، لكنه استثقل المسير إذ لم يكن راكبه حاضر الصفة حينها، لا سيما وأن مصمم الأبليكيشن لم يعط تفاصيل «أوفى» حسب لغة الإعلام.
قد تكون الصفة المرادة هي صفتك المعرفية؛ إذ إن الموقع منصة للكتابة والتدوين وتبرج الفكرة والرأي. وقد يكون المطلوب صفة مرتبطة بوظيفتك الجارية. إن الصفة المعرفية قد لا تكون متماسكة بقدر كبير؛ إذ لا تعدو كونها مرآة لصفتك الاجتماعية المستقاة من نشاطك الاجتماعي وحياتك الطبيعية في مجتمعك الصغير أو الكبير.
وقبل أن يلتقط المدون أنفاسه– بعد الفراغ من تصميم صفة على عجل، إيفاء بمتطلبات التسجيل– يجد نفسه في «مطب» ذهني آخر عنوانه «الملخص». وكأن مصمم الطلب قد تعرف عليك (متجمعًا) في صفة واحدة عند حقل «الصفة» ويرغب تاليًا في التعرف على تفاصيل موجزة وملخصة. ولا أدري كيف تعامَل نظرائي من حدثاء العهد والتجربة، مع حقل الصفة ومساحة الملخص؟
في تطبيقات نموذج «ASC» في حقل التعليم، يواجه الطلاب صعوبات كبيرة في تحديد مواهبهم الشخصية وهواياتهم وأنشطتهم المفضلة، فضلًا عما يجدونه من صعوبات عندما يطلب منهم النموذج تحديد الطموحات والاتجاهات المسقبلية. ولعل ما واجهني عند التسجيل في مدونات الجزيرة قبل أربع سنوات، هو نفسه ما يواجه طلابنا عند استخدامهم النموذج لأول مرة. واتفقت معظم تعليقات مستخدمي «ASC» على أن أبرز فوائد النموذج: مساعدة المستخدم في اكتشاف ذاته، والتعرف على شخصيته بدرجة تمكنه من صياغة صفة شخصية أكثر وضوحًا، إلى جانب مساهمته في تعزيز ثقة الطالب بنفسه نتيجه لاكتشافه قدرات وميولًا كامنة، حسب تعبير أيمن حماد عبدالساتر وهو طالب سوداني يوصف بأول مستخدم لـ«ASC».
قد يكون مرجع الصعوبة عند تصميم الصفة الشخصية ارتباطها بما يمكن أن نطلق عليه «الوظائف الاجتماعية» وأقصد بها تلك المرتبطة بالتواصل المباشر مع احتياجات الناس أو مع أفكارهم واختياراتهم الذهنية أو أمزجتهم وميولهم. ولا يخفى على القارئ أن كل الوظائف ذات صلة بوصف «الاجتماعية» بدرجات ونسب متفاوتة.
أمر آخر– فيما يتصل بتصميم الصفة– هو تأثرنا البالغ بآلة الإعلام وسطوة ضخه المستمر، وقد نستخدم دون وعي منا، لغته وأسلوبه عند صياغة الصفات ونعت الأشخاص. ومن الأمثل: أن بعض المدونين يصف نفسه بصفة «كاتب» أو «باحث» دون تحديد لاتجاه كتاباته أو مجال بحثه. ومنهم من يشتط أكثر فيطلق على نفسه صفة «مدون» فقط. والصفات الأخيرة ونحوها عادة ما تستخدمها القنوات في وصف من تستضيفهم، وقد لا يسمح لها الوقت أو طبيعة البرنامج بتفصيل أكثر عن صفة المستضاف، فتعمد إلى الاختصار وإطلاق صفات مختصرة، مبهمة، وخفيفة تؤدي الغرض ولا تتسبب لها في مشكلات مع ضيوفها أو مع الجهات التي يمثلونها. وكونها مقبولة إعلاميًا لا يمنحها نفس درجة القبول كصفة شخصية من قِبل الشخص نفسه.
سواء كان المطلوب من المدون كتابة صفه تحدد مجال اهتمامه المعرفي وتخصص قلمه، أو وظيفته الاجتماعية ومجال نشاطه الميداني؛ فإن كل ما يذكر من قبل المدونين يظل صحيحًا ومؤديًا للغرض بدرجات متفاوتة. وإن كان تحديد الصفة الشخصية في كل مرحلة من مراحل الحياة ضرورة (مهنية واجتماعية) تمنح الشخص مؤشرًا لقياس درجه تقدمه ونموه، وتحفظ لكل منا توازنه الداخلي ونظرته للآخرين، ومن ثم تحفظ توازن المجتمع نفسه بتجنيبه تقاطعات الوظائف الاجتماعية وما يستتبعها من صفات للأشخاص، فضلًا عن علاقة الصفات الشخصية بثقافة التخصص التي لا يزال البحث عنها جاريًا.
إن ما يدفع كثيرًا من الكتّاب للاحتماء ببريق الصفة، فقدانهم لصفات اجتماعية أو مهنية ميدانية حقيقية تعبر عنها كتاباتهم وإنتاجاتهم الفكرية. إن ما ننتجه من أفكار بغض النظر عن قوالب العرض، يفترض أن يمثل امتدادًا لأنشطتنا الحقيقية في عالم الواقع. وإذا اتسعت مساحة ما بين نبض الورق، ونبض الواقع فإن ثمة أوضاعًا غير جيدة تتطلب التدارك.
- مهنة ذات بريق:
يتبع تعظيم المكتوب تعظيم الكاتب نفسه، لتتكون صورة زاهية ومضخمة للمهن المرتبطة بالكتابة، وقد لا يهتم بعض الكتّاب بالخلفيات المذكورة، مما يدفعهم للغرور أو النظر إلى أنفسهم بمرآة مكبرة.
- ليست نشاطا خارقا:
الكتابة أداة للتعبير والتواصل ليس أكثر، والكاتب كالمتكلم يعمل على نقل فكرة إلى طرف آخر مشارك له في الفضاء الاتصالي، سواء كان قريبًا أو بعيدًا، وليست نشاطا خارقا..
في أنشطة تعزيز الهوايات، يبحث المدربون عن أكثر الهوايات المشتركة بين الطلاب، للشروع في تنميتها وتطويرها. ويرى مختصون أن أنشطة الاتصال هي أكثر ما يشترك فيه الناس، ولا يمكنهم الاستغناء عنه. إن الكتابة من أهم أدوات الاتصال في عصر تزداد فيه الحاجة إلى تواصل كتابي واسع النطاق، ويرى المهتمون أن الأميين سيعانون من صعوبة استخدام أدوات العصر، و"العاجزين عن الكتابة" أيضًا.
في البرامج ذات الصلة، نستخدم نموذجًا تدريبيًا يصنف هوايات الطلاب إلى أربعة أقسام، وبحسب النموذج فإن أنشطة الكتابة والرسم تقع ضمن الأنشطة المهنية والإنتاجية بوصفها «عملًا وإنتاجًا ذهنيًا» إلى جانب الأعمال المهنية الأخرى والإنتاجات المادية. ويرى بعض المدربين أن نموذج ASC يسهم بشكل فعال في تعزيز الأنشطة المفضلة للطلاب باعتماده على تصحيح فكرة «الهواية» نفسها في أذهانهم، واهتمامه بالأنشطة الاتصالية كمشترك بين الأشخاص.
- اتجاه تركيز الكاتب:
بحكم عمله في فضاء اتصالي واسع، تترتب عنه تفاعلات اجتماعية كثيفة ومستمرة، قد يفقد الكاتب السيطرة على زورقه، ويضطرب بين الاهتمام بالقراء، والمتلقين، والحرص على إنتاج وكتابة ما يعجبهم ويرضيهم، أو الاهتمام بتنميق مفرداته وامتطاء جديد المصطلحات وغريبها لمغازلة أصحاب الفضائيات والمنابر.
إن الكاتب بحاجة إلى تجويد مستوى الاتصال بينه وبين أفكاره؛ حتى تصبح كتاباته وإنتاجاته عقدًا منتظمًا يسهم في تراكم المنتج المعرفي، ولا يتأتى له ذلك، إلا باتصال جيد آخر بين منتجه الذهني، ومجال نشاطه الحقيقي على أرض الواقع. وتحكي الأوساط الرياضية عن طائفة كبيرة من الكتّاب والمحللين المتخصصين في «الكرة»، ولم يخسروا قطرة عرق واحدة في ملاعبها. وفي مختلف المجالات لن تجد صعوبة في التفريق بين المزارع حين يكتب عن دورة حياة الشجرة، وبين من يحدثك بأسلوب مبهر عن ميزات "زراعة القمح" في المناطق المطيرة!!
- تدوين جداري:
في مجتمعات تتسع فيها رقعة الاستبداد بمختلف صوره ودرجاته، تصبح الكتابة على الجدران أو الرسم عليها وسيلة اتصال ذكية توظف المتاح من الأدوات بأقل كلفة وجهد، وإن كانت في شكلها العام مظهر تخلف وتأخر اجتماعي. وتتعدد أساليب التعبير عن الأفكار والمواقف (جداريًا) بحسب الشخص والدوافع ودرجة انسداد الفضاء الاتصالي في المجتمع.
- الجدران وأدوات أخرى:
في المدارس والجامعات يستخدم الطلاب والعمال عدة أساليب وأدوات للتعبير عن رفضهم لقرار ما، أو امتعاضهم من سياسات إدارية معينة، أو لتقديم رؤى حول موضوع يهم المؤسسة. ويعبر الطلاب خصوصًا عن مواقفهم بالكتابة على لوحة الفصل الدراسي وجدرانه وأثاثاته، إضافة إلى التعبير عن نفس الأغراض السابقة على الكتاب المدرسي أحيانًا.
- الإنسان مدين للكتابة:
إن مجموعة مديني الكتابة تغطي مساحة أكبر، وليست مقتصرة على المدونين وهواة الكتابة فقط. ولعل البوست الجدراني- إن صحت التسمية- مدين للكتّاب والنشطاء بفضل كبير قد يناهز ما تقدمه الوسائط الاجتماعية وأدوات التواصل.
وتزداد حاجة الإنسان لوسائط جديدة للتعبير والكتابة بتزايد مستوى الاستبداد والكبت بمختلف ضروبه وأنواعه. قبل الهواتف كان المراهقون أكثر الفئات الاجتماعية استخدامًا للبوستات الجدارية للتعبير عن مشاعرهم وبث أشجانهم. يلي المراهقين في استخدام الحوائط للتعبير- إعلاميو الأحزاب السياسية المضطهدة والمحظورة؛ للتواصل مع الجمهور والتعبير عن مواقف الحزب وأفكاره.
- تشفير الرسائل الجدارية:
كانت الكتابة الجدرانية وسيلة تعبير وتواصل بين الكاتب والمتلقي، وإن كانت بلا توقيع أو تاريخ نشر كما هو الحال في تغريداتنا على الجدر الإلكترونية. في التواصل العاطفي عبر جدران الحي، يطلع المتلقون على جملة الرسائل المكتوبة، ويتعرف كل منهم على ما يخصه من رسائل اعتمادًا على نوع الخط وحجمه وموضعه في الجدار.
- الاستبداد خصيم التطور:
ما زالت الجدارن تلعب نفس الدور، وتسهم بقدر كبير في فك أسوار القهر وتكميم الأفواه، وتنوب عن كل المتاح من الوسائط قديمها وجديدها من إذاعات وقنوات تلفزيونية وفضائيات وإنترنت وهواتف.
بالرغم مما توفره الأدوات الاتصالية المتاحة من فرص التواصل وتبادل المعرفة والتجارب، إلا أن واقعنا يحكي ضد ذلك، حيث يرى المستبد السياسي أو الاجتماعي أن ما يهدده اليوم لم يعد الإنسان أو الشعب، وإنما هاتف نقال ولوحة مفاتيح وخدمة اتصال جيدة.
في بداية ظهور مواقع التواصل، تنبأ بعض المهتمين، بحدوث تغييرات جذرية في طبيعة العلاقات في المجتمعات العربية، وهذا ما حدث بالفعل في موجات ما اشتهر بالربيع العربي، وإن كانت هناك عوامل أخرى أدت إلى حدوث ما جرى وما يجري حاليًا.
- ملجأ من واقع سيئ:
كثيرًا ما توصف الكتابة بأنها وسيلة للتعبير عن الإحباط واليأس، ومحاولة للاحتماء بعالم الورق، وقد يكون ذلك صحيحًا في بلداننا على وجه التحديد. في هذا الخط يقول عضو في مجموعة مدوني الجزيرة: نلجا للكتابة حين تتكسر الأحلام على كواهلنا.. نقاوم بها وخزات اليأس.. نناجي الواقع الموبوء من خلال أمساك قلم يخط ايقاعا.. لتتراقص الآمال بين جوانحنا.. الكتابة نوع من التفريغ.. تخلصٌ من الكبت.. جزء من التمويه عن تلك الأيام التي سرقتنا، وعن ذلك المستقبل الذي يجهز لنا شباكه، ويستدرك ببعض الجمل المتفائلة نوعًا ما: الكتابة قد تكون قدرًا محتومًا لأولئك الصاعدين على مسرح الإبداع.. من يتناغمون مع التألق.. من يعيشون أجواء عشق مع المعرفة.. أو حياة علياء على أسطح الأفكار.
- كتابة ما بعد الاستبداد:
إن كان لنا أن نتصور واقع ما بعد الاستبداد فيما يتعلق بالتعبير والكتابة، فسنرى كل المنتجات الاتصالية في خدمة الإنسان، توفر له الوقت والجهد، وتسهم في تقدمه وتطوره بتبادل المعرفة والفكرة والموقف والمشاعر مع محيطه القريب والبعيد، حينها سنكتب باطمئنان دون خوف أو قهر، لتصبح كتاباتنا همزة وصل بين الأشخاص والمعارف والأنفاس.. أما قبل ذلك، فليس لكثير منا إلا الجدران.
- التعبير رقي حضاري:
في مختلف العصور، مثّل فن "التعبير" عن الأفكار والأحداث والمناسبات، قمة ما يمكن أن تصل إليه الحضارات الإنسانية من رقي وتقدم. إن التوثيق بتباين صوره وأشكاله، ما زال همزة وصل بين الأزمنة والأجيال، وأداة لنقل المعرفة وتوريثها وتعظيم قيمتها بعامل التراكم. وما بين أول صورة تم نحتها على جدران الكهوف والمغارات قديما، وأول حرف تم نشره على الجدر الإلكترونية، أزمنة طويلة جدا، لكنها متصلة بالطبع؛ لأن الحياة لا تقبل الفراغ. إن إنتاجات الإنسان الذهنية ومنتجاته المادية خلال رحلة حياته الممتدة، لم تكن إلا محاولات مستمرة لضخ مزيد من الضوء، وصنع إتاحات أكبر. ولم يكن الإنسان المنتج أنانيا في معظم فترات التاريخ، إذ لو كان كذلك لما عاشت معارفه منذ عصر الحجر. ولم يكن العقل الإنساني الحجري متخلفا كما يبدو لنا من مقارنة أدواته بأدوات عصرنا.. بل كان أكثر انفتاحا من عقول معاصرة تنعمت "بتراكم معرفي" بدأه ذلك الإنسان الحجري العظيم. ابتدع الإنسان القديم الكتابة في صورتها البسيطة، وتضافرت جهود كثيرة تاليا في تطويرها وضبطها، وعُرفت فيما بعد أدوات التوثيق، ومن ثم الطباعة.. كانت كل تلك المراحل "جهادا حضاريا" متصلا لتنعم الأجيال الإنسانية التالية بقيمة ما نطلق عليه "التراكم المعرفي". كان الإنسان القديم في مختلف العصور والحضارات، بسيطا في حياته وأدواته، مكابدا صعوباتها في المأوى والتنقل وتوفير الطعام والماء، وقد تخللت حياته القاسية تلك أخطاء جسيمة ضد بني جنسه وثقها التاريخ، ولم يبررها، لكن ذلك "الحجري" لم يرق في أخطائه وتخلفه الذهني إلى مرحلة "حجر الفكر" وحجب المعرفة، ومنع التعبير. ولا أخفي إعجابي الشديد بإنسان ما قبل التاريخ، ولا أقبل وصفه بالحجري؛ وهو متفوق من ناحية إرسائه لأساسات معرفية وحضارية، لا تخطئها العقول “الرقمية” في عصرنا. في محاولة مني للوفاء لأجدادنا في التاريخ والإنسانية، كتبت حكاية عن رحلة خيالية إلى "حجرستان"، وديار بني حجر:
- - -
حزمت حقائب الرحلة.. ولم تكن “أمتعتي” سوى مستلزمات البرد والحر احتياطا؛ حيث لا أدرك طبيعة المناخ في وجهتي، ولا تتوفر بيانات عنها، حتى في مراصد العم “قوقل”.. إضافة إلى شيء من أوراق وأقلام وأدوات تسجيل، كنت أخشى ألا تعمل هناك؛ إذ ان الرحلة إلى عالم “مختلف” عنا، وإن كنا نراه “متخلفا” بزعمنا.. لكن يبدو لي أن “التخلف” سيظل في نظرتنا المتطرفة لما بين أيدينا من أدوات ومرفهات، لم تتوفر لأصدقائي هناك في ديار بني حجر..
- في حجرستان:
عند مدخل “حجرستان” كانت صفوف المستقبلين، تتشابى لرؤية كائن “متخلف” من عصور ما بعد الحجارة! بالطبع، لم ترفع الجماهير لافتات قماشية ولا بلاستيكية؛ إذ الحجر هنا سيد الموقف، وضابط الإيقاع، وحكم الساحة..
وفي ضيافة مؤسسة حجرية عتيقة، وبصحبة فريقها المتخصص في التعامل مع “بني تكنو”.. بدأت رحلتي في الضاحية الحجرية “المتقدمة”. في صالة الضيافة، كانت الحركة دائبة، لا تتوقف.. وجماعات الباحثين والتقنيين، مستمرة في أعمالها على هذا النحو منذ آلاف السنين، حسب إفادة مرافقي! تبدو الحياة هنا علمية ومعرفية، أكثر منها في جامعاتنا ومعاهدنا.. ويرى باحث “الحجر” أن قيامه بأعماله واستمراره فيها ليس سوى واجب حضاري يتحتم عليه القيام به، بينما لباحثنا في غرفه المبردة، رأي آخر مغاير، وما قيامه بالعمل وإنجازه، إلا سبيلا لتحصيل شهادات ومراتب ودرجات وألقاب، في غالبها كحال ألقاب مملكة في غير موضعها.. كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد.
- ريادة الحجريين:
قبيل زيارتي الحجرية الأولى، كنت قد ذكرت في مقال لي بمدونات الجزيرة، أن الإنسان الحجري رغم ما يبدو لبادي الرأي، من تخلف أدواته وتقنياته، إلا أن دوره في رحلة الحضارة لا يضاهيه دوره.. واخترت للمقال المذكور عنوان “عقليات تقليدية في عصر اليكتروني”.
وطبقا لما كنت أظنه عن حال إنسان الحجر، كانت مشاهداتي في رحلتي النوعية إلى الديار الحجرية.. لا سيما في متحف الحضارة والمستقبل، الكائن أعلى قصر الموجه العام “للدار”.. كانت التحف الفنية في غاية الجمال والروعة والقيمة والارتيادية.. وكأنها في كبرى مدن العالم الحر مجازا.. كان المتحف مركزا علميا ليست الجامعات والمعاهد ونقاط البحوث، سوى امتدادات له وفروع.. ولم يكن الناحت على الحجر، كحاله في عالم اليوم، بل كان روح العالم ومرجعا.. يا لله! ما أجملك أيها الإنسان العتيق!!
- تعليم حجري:
وفي مؤسسات تعليم الضاحية، كانت مفاجآت أخرى لزائر من عالم الديجيتال والزيرو ون.. كانت التربية عملية في طابعها العام، مهنية إنتاجية في جانب مهم منها، معرفية بعمق في جوهرها.. كانت مؤسسة التعليم جوهرة في بنائها الحجري المتناسق.. تحفة في نقوشها ورسوماتها وجدارياتها المتجددة باستمرار.. كانت أدوات التعليم والتعلم إبداعية فوق مستوى الوصف..
- وداع دافئ:
كان حفل وداعنا مهيبا دافئا، ولم أك راغبا في العودة إلى حيث الصخب والضجيج، وحلبات الصراع المستمر.. لم أكن راغبا في العودة إلى حيث الأدوات المصنعة بمواد مضرة.. لم أكن راغبا في العودة إلى بناياتنا الشاهقة طولا، الفارغة معنى وقيمة.. لم أكن راغبا في العودة من زمان إنسان نبيل، ابتكر النقش من أجلنا.. نحت آلاف القطع من أجلنا.. لم يركن لراحة، ولم يتعب لمقابل منظور، أو أجر قريب، كان للمعرفة نعم الناقل الأمين، ولأبنائه نعم الجد المعلم الملهم..
خلال أيام الرحلة، كانت الضيافة، فريدة ومتميزة بمستوى مثير للدهشة والإعجاب.. بالفعل كانت جميع الأدوات حجرية حجرية! لكنها في ذات الوقت، في قمة الرقي والإثارة والجاذبية والأناقة.. كل ذلك وأكثر في ضاحية من حجر..
- - -
- المعرفة في قلب المعركة:
رغم تقدم الحياة البشرية، وتطور أدوات الإنسان، وانتشار المعرفة، إلا أن المتصارعين في معترك حياتنا المعاصرة ما زالوا يستخدمون أدوات أكثر تقليدية مقارنة بطبيعة أدوات العصر، من ذلك إخفاء أسباب "الصراع" وإلهاء "الجماهير" بتفاصيل عديمة القيمة. إن معظم الصراعات في عصرنا لم تعد معارك حقيقية بين "أطراف" تتنازع شيئا حقيقيا، وإنما هي معارك مصطنعة، تهدف في جملتها إلى إلهاء الشعوب، وإغراقها في أتون جدال يبدأ ولا ينتهي، جدال حول كل شيء إلا حقيقة المعركة نفسها. في الصراعات المعاصرة عادة ما تغيب المعلومة، وتحجب المعرفة، وتكمم الأفواه بدعوى المحافظة على "الأمن" و"الوطن" و"مصالح المواطن". وبنفس الدعاوى السالفة يفقد المواطن المغلوب ما تبقى له من حرية وأنفاس ونوافذ.
إن دفاع الشعوب عن حريتها أمر لا يحتمل التأجيل، مهما كانت مسوغات المستبدين وقدرتهم على إنتاج مزيد من المعارك والصراعات، بغرض إطالة أعمارهم على رؤوس الخلق. ولعل أكثر ما يخيف المستبد ويقض مضاجع الطغاة، أن تعرف الشعوب، وتعي حقيقة ما يجري حولها، فضلا عن التواصل بين أهل المعرفة، وتبادل الأفكار بينهم؛ لبناء مواقف أكثر رشدا.
وحتى تعي النخب حقيقة معركتها مع المستبد، وتصبح أكثر صدقا في نقل "الصورة" إلى الجماهير، ستظل أدمغة الاستبداد وفية لتقليديتها في "الحجب والمنع والكبت والحصار" في عصر طابعه "الإتاحة والشفافية والتواصل والاندماج".
- متسولون نحن.. نستجدي التفضل بالنشر:
قبل نحو عامين، عملت محررا بصحيفة اليكترونية حديثة الإطلاق، وما كان مثيرا للاستغراب حينها، أن مؤسس الصحيفة كان دائم الحرص على وضع شروط للنشر في صحيفته، حسب تقليدية المواقع الشبيهة، وكان كلما طلب ذلك، بادرت إلى الاعتراض على فكرة الشروط نفسها، وكنت أشبهها بما تكتبه شركات النقل على ظهر تذكرة السفر. إن ما صنعه فضاء الانترنت من إتاحات واسعة، كان عسير الهضم على من اعتادوا السيطرة والجمود وشبوا بعقلية الاتصال ذي الإتجاه الواحد. ولم يكن مؤسس الموقع قادرا على التفريق بين من كان يطلب النشر في الصحيفة الورقية، حين كان صاحبي مديرا للتحرير، وبين من يرسل مدوناته من هاتف جوال لا يؤمن بإحداثيات الزمان ولا المكان، فضلا عن الشروط والقيود والبوابات المتتالية.
وفي مناسبة أخرى، وعلى أبواب موقع آخر، مهتم بالابتكار والإبداع التربوي، كنت أود مراسلته، فإذا بي أصطدم بما كان ينوي صاحبي بناءه في صحيفتنا الوليدة. عندما ضغطت على رابط "أرسل مقالتك" على رئيسية الموقع المهتم "بالابتكار"، استقبلتني صفحة طويلة من الشروط، ابتداء من عدد الكلمات وليس انتهاء بنوع الخط وحجمه ونوع الملف... تملكني العجب وأنا أمام مشهد غريب متناقض لا يمت إلى الابتكار والإبداع بصلة. وما زلت هائما في العجب من مواقع ما زالت تفرض على المدون إرسال مادته في "ملف" ولا تقبل النص على الإيميل!!
وليس بعيدا عن شروط النشر وتقليدية الناشرين، فإن طبيعة النشر وسرعته، لا ينفصلان عن ما أوردناه سابقا؛ إذ تعمد منصاتنا المبجلة على إبقاء المدون قيد الانتظار لأيام وأسابيع، ربما إمعانا في إشباع الحاجة إلى الشعور بالأهمية برغم سعة الانترنت وكثرة المنصات، وربما مبالغة في إرغام المدون على استجداء المنصة للتفضل والتكرم بالنشر. ربما يظن بعض مشرفي المواقع، أن خدمة النشر منة وتفضلا منهم على المدون، وليست إيفاء بواجبات الشراكة الضمنية في ميدان المعرفة والتثقيف والفكر.
وماذا إن تم "التكرم" بالنشر؟ هل تتفضل المواقع بمراسلة المدون وإعلامه، أم أن مكانتها تأبى التواضع؟ والغريب أن كل ما توفر من أدوات الاتصال وتقنيات آلية سهلة الاستخدام والتوظيف، يبدو بلا قيمة، إن كان من يديرها في عصر آخر، لا يمت لعصر التقنية والتواصل والسرعة بأية صلة. إن ثورة الاتصالات لم تكن مجرد منتجات تقنية لاستخدامات الطبقات المتخمة، لكنها كانت فعلا ثقافيا واجتماعيا كبيرا، وزلزالا لم يسلم مجال أو جهة من تأثيراته وتوابعه وهزاته الارتدادية. لم تكن الاتصالات في "ثورتها" تقليدية كقريناتها، لم تجيّش طرفها ضد آخر، لم تشتبك مع عدو ولم تخض حربا، لكنها كانت ثورة لإزالة الحواجز والمتاريس والفواصل. ولم يكن لها أن توصف بالثورية، إلا لتجاوزها المألوف من أسوار ومداخل وأبواب كرست لمحتكري "المعرفة والثقافة والعلوم" أسوة بسدنة الأنظمة وسادة الاستبداد بتنوع صوره وأنماطه ومستوياته. ويرى محتكرو النشر وحراس البوابات، في ما أتاحته أدوات الاتصال الحديثة من فضاءات، خصما من أرصدتهم العتيقة لا سيما في سوق الثقافة والمعرفة والتوجيه. ولعل أجدر من يحدثنا عن قيمة الكم والوفرة هم أبناء العم هان، حين تقول الحكمة الصينية "كل كم كيفه فيه" لافتة إلى عدم الانشغال برافعي رايات الجودة والتميز، لتبرير احتكارهم للأدوات والمنابر ومساحات النشر.
إن ذاكرة الاستبداد بمختلف صوره، ومشاهد السيطرة، وسطوة المدير والناظر، ليست صورا عادية، ومجرد احداث عابرة في الزمان، لكنها برامج يبدو أن تثبيتها كان جيدا، إذ ما زالت فعالة حتى في مساحات التثاقف والتنوير والابداع، على حد وصفهم.
كانت ثورة الاتصالات و(فورتها) اجتماعية أكثر منها تقنية بحتة، لا سيما فيما يتصل بإعادة رسم علاقات المعرفة وأدوات تسويقها ونشرها، فضلا عن أساليب التلقي والتعلم، أو المشاركة والتفاعل مع منتج الرسالة الثقافية. إن تطور متابعي الإذاعات من مجرد مستمعين، إلى متفاعلين ومشاركين في البرامج الإذاعية، ليس مجرد تقدم تقني فقط، وإنما تغير كبير (في طبيعة العلاقة بين الإذاعة ومستمعيها) من شأنه التأثير في مجمل ما يقدمه المنتج بناء على استجابات وردود أفعال المتلقي.
- نهاية الأساطير:
من أهم ما قدمته أدوات التواصل في نسختها الاجتماعية، إسهامها المباشر في فك احتكارات الكتابة والقلم بإتاحتها مساحات متباينة للتعبير والنشر، بعد أزمان طويلة من استبداد طبقة بالكتابة لنا في علاقة جافة ذات اتجاه واحد. إن ما تعيشه مجتمعاتنا من تسلط سياسي، لا ينفصل عما تعيشه عقولها من قهر ثقافي يوظفه المستبدون ويستثمرونه بإفراط.
- التحام الثورات:
قبل تشكل الثورات السياسية الأخيرة في الشرق العربي، كانت ثمة ثورات نفسية وبالتالي اجتماعية في سياقات ثقافية ومهنية، أدى التحامها إلى إحداث ما عُرف إعلاميا بثورات الربيع. كانت الثورات صغيرة ومحدودة ومتفرقة في أذهان الشباب، وأوراقهم، ومن ثم في حوائطهم الإلكترونية.. كانت استقالة الناشط من حزبه صغيرة من وجهة نظر الحزب العتيق وسادته المعمرين.. وبنفس القدر كانت صغيرة ثورة الإعلامي (الصغير) المغادر لقناته ومفارقا لها، بعد فقدانه كل خيوط الأمل بسبب أصنام القناة وكهنتها، واحتكارهم لكل شيء.
- إزالة الأصنام وفك الاحتكار:
عندما فتح الرسول صلى الله عليه وسلم، مكة المشرفة، وشرع في إزالة الأصنام الحجرية.. لم يبك عليها أهل مكة؛ حيث كان تكسير الأحجار تاليا لفك احتكار السدنة للمعرفة والتوجيه المجتمعي. أن حكمة النبي المسدد بالوحي كانت تستوعب الواقع بعمق وتنظر إلى المفردات في سياق متكامل، وتضع لبني البشر قواعد الفعل الاجتماعي المنتج. كانت الحجارة الجاثمة حول البيت العتيق مناظرة لمثيلاتها في أفئدة عُبادها وعقولهم، وما كان لامرئ عاقل أن يلتجئ لحجر أصم، لولا وجود (قارئ) مثبت في نظامه الداخلي حسب لغة التقنية.
- اضطراب القوالب الصحفية:
إن الارتباط بالقوالب والعكوف عليها، أشبه ما يكون بما ذكرناه من شأن الصنميين، وقد عشنا زمنا أهدرنا خلاله أوقاتا ثمينة من أعمارنا في التفريق والتفضيل بين المقفى والعمودي من الشعر، واشتعلت لذلك (الشأن) مصابيح المنابر والمناظرات، وسالت أودية بأحبار الفريقين.
واليوم نعيش صورة مماثلة في ساحة الكتابة، بعد ان فكت الأدوات الجديدة أغلالها وأعادتها إلى مجرد أداة للتواصل ونقل الأفكار، وأزالت عنها (الأسطورية) ووزعت أضواءها على عدد كبير من حملة الأقلام الإلكترونية والكيبادات، تاركة وراءها نفوسا ثكلى، ما زالت تتحسر على الكتابة والثقافة في (زمن) سابق، وازدحام القراء في دكان الجرائد.
أسهمت الأنماط الجديدة للنشر والتواصل الثقافي في اضطراب المتعارف عليه من قوالب الصحافة، وأضيفت أشكال وقوالب، وتغيرت أخرى؛ لتتماشى مع نفَس العصر وسرعته. في الصحافة الإلكترونية لا نكاد نفرق بين التقرير ومقال الرأي، بل نقرأ في أخبارها (الفاتحة) على قدسية الخبر المفترضة، وتطورت التقارير وتضخمت بتضمين الصور والروابط والتغريدات، وحافظت المقالات الحرة على كثير من حيويتها بالاقتراب من أسلوب البوست، حين نعنون فقرات المقال ونحرص على الاختصار.
إن الكاتب يختار الفكرة عادة، وتختار الفكرة قالب عرضها، وإن كان من عيب ففينا حين نقدس القوالب على حساب المضامين، ونرفض الإتاحة، ونشتاق إلى عصور "الاحتكار وتقديم القرابين" لصحيفتنا المفضلة حين تحصل على موافقة (كاتب كبير).
حكاية الشاب (ج):
في خضم أجواء ملبدة بغيوم الإحباط وانسداد الآفاق.. يبحث الشاب (ج) عن مسارات نجاح علها تسهم في مقاومة واقع بائس تظلله سحب الطيش السياسي وغياب الرشاد.
أمام كمبيوتره المحمول، يجلس (ج) لساعات طويلة محاولا لملمة أطراف روايته الأولى حسب وصفه، لكنه سبق وأن نشر مقالات صحفية وشيئا من مذكرات شخصية وثق فيها جوانب من حياته الدراسية؛ إذ ما يزال طالبا في السنة الثانية بالجامعة.
وحسب (ج) فإن الرواية الأولى ستصبح فيما بعد شاهدة على ما يعيشه من اضطراب نفسي؛ بسبب الظروف السياسية المضطربة في بلاده.. لكنه يرى في محاولته الروائية أبعد من كونها نصا أو مجرد عمل أدبي، بل أداة مقاومة للإحباط ومحاولة نحت على جدران سميكة تحجب ضوء الشمس.
إن ما يعيق نجاحاتنا كأفراد ليس مجرد فقداننا لأدوات، أو عدم امتلاكنا لمفاتيح حاسمة لتحقيق قفزات ذات قيمة.. بل، إضافة لما سبق، افتقارنا إلى فيض من مشاعر الحب والاهتمام والاحتواء.. وحاجتنا إلى حواضن نفسية تعزز مساعينا وتمنحنا مزيدا من العناية والأمان والدفء.
إن ما نعيشه من غياب مؤسسات راشدة في مختلف المستويات والمجالات.. يلقي بظلال ثقيلة على حياة الشباب، تحد من قدرتهم على النظر بعيدا في أمداء يطبعها الضباب وعدم وضوح الرؤية، ويحملهم أثقالا من الهموم والآلام؛ لتصبح الصورة كما هي ماثلة أمامنا: إحباط شبه مطبق لا تكاد ترى معه خيطا من نور .
يقول (ج) عن محاولته الروائية قيد الكتابة: لست وحدي بطبيعة الحال.. من زملائي وغيرهم من يحاول شق طريق في الوحل، أو بناء جسر على النهر. إن محاولاتنا قد تقدم لنا مزيدا من الطاقة والقدرة على الصمود. ويتابع: وسعيد الحظ منا من يجد شيئا من اهتمام ورعاية لمحاولاته.. أو تقديرا لفكرته وجهده.
- تاريخ حاضر:
في عصر توافرت أدوات التوثيق والنشر بمستوى غير مسبوق، لم تعد الأحداث بحاجة إلى آجال طويلة لتصبح تاريخا يُحكى لأجيالنا التالية، بل لم يعد التاريخ نفسه مجرد سجلات يكتبها أتباع ومهزومون عن وقائع يصنعها الكبار و"علية القوم".
- قانون الغاب:
إن ما يجري في صراعات باردة وساخنة في معظم مناطق العالم، ليس سوى حلقات من صراع ممتد بين فكرتين، الوعي والتغييب، أو الإتاحة والحجب. يستقوي الساسة في غالب الأحيان بالقانون، لممارسة هواياتهم في مصادرة حق الشعوب في المعرفة، أو التفاعل والمشاركة في صنع المواقف والقرارات. لكن ما يغيب عن ساستنا "المبجلين" ولا يدركه وعيهم، أن قوانينهم تلك لم تعد ذات قيمة في وعي الشعوب، ما دامت سيفا يستل باستمرار، ولا يستخدم إلا في قص الأجنحة، وحجب المعلومات، وحبس الأنفاس والعواطف.
- معرفة في خدمة الإنسان:
كانت المنتجات الاجتماعية من قبيل الأنترنت ووسائل التواصل، عند ابتكارها في المجتمع الغربي- تلبية لحاجة ملحة يتطلبها المجتمع في رحلة نموه وتقدمه. كان العقل الغربي في مختلف ضروب المعرفة خادما لاحتياجات المجتمع، وتضافرت جهود التربية والاقتصاد والتكنولوجيا؛ لتنهض بمسؤوليتها التاريخية، وتنهض بمتطلبات العصر. إن ابتكارات "مارك" وإخوته كانت إفرازا طبيعيا لمناخات المعرفة والإتاحة، وحلقة لتعزيز ثقافة العولمة التي تقودها بلدانهم في نفس الوقت.
إن ما يبدو من تقابل بين الإتاحة والمنع ليس صحيحا على إطلاقه، وإن كان من تقابل فلا يعدو دائرة اللغة فقط؛ وما ذلك إلا لاختلافهما الموغل في التباعد. إن الإتاحة ويمكننا التعبير عنها بالحرية، ليست حالة طارئة أو منحة، وليست منة من طرف على آخر.. لكنها، وحسب ما توحيه اللغة نفسها، الحالة الطبيعية المفترضة، والمناخ الصحي الصحيح، وإن كان تناولها عسيرا نظريا، فضلا عن المطالبة بها لفظا، أو الوصول إليها واقعا.
إن المناخ قوة مشاهدة لا يفكر العقلاء بمقاومتها، لكنهم يبذلون كل المتاح للتأقلم معها، بل وتوظيفها ما أمكنهم ذلك. إن عاصفة واحدة ثلجية كانت أو غبارية، كفيلة بتغيير جداول أضخم المطارات وتعطيل مئات الرحلات الجوية مهما كانت أهميتها وأوزانها..
إن دورات الإتاحة أشبه ما تكون بدورات المناخ نفسه؛ يدور ويتقلب ويتنوع لكنه ليس سوى مناخ غير قابل للرفض؛ لأنه هو الحقيقة والقوة والواقع وإن تسامح أو تناءى أو تظاهر بالغياب. ومما يجدر بجيل التقنيات والوسائط ملاحظته وقراءة خلفياته، أن ما صنعته قنوات التواصل الاجتماعي من إتاحات مبهرة غير مسبوقة، لم يكن إلا حلقة بارزة في دورة إتاحات أكبر صنعتها بيئة تعليمية معينة ذات إتاحات أكبر أيضا.. وما تلك البيئة إلا منتجا شرعيا لبيئة اجتماعية أكثر نضجا وأوفر إتاحات وحرية.
إن ما يبقى عادة ليس الطارئ وما أجمل اللغة نفسها حين تنقش على قلبك إيحاء الكلمة قبل أن يدرك العقل معناها. وما دام الطارئ زائلا، فإن ما يبقى ويقيم وينمو هو الطبيعي والملائم لسير الحياة وطبائع الأحياء.
لم يكن لمطوري الخوارزميات والدوال وأنظمة الحاسوب نوايا مبيته لرفد ميدان الإعلام بإتاحات أفضل.. وبنفس القدر لم يجل بخواطر خبراء الكرة ومنظمي اللعبة أن تصبح ميادينها ساحات للبحث عن إتاحات، أو منصات لرسم مواقف. أن تتقابل دول متخاصمة سياسيا في كأس قارية، ليس سوى تفاعل رياضي عادي حسبما توفره اللعبة من إتاحات.. لكنه ليس كذلك بالطبع، حين تتخلل مناخاتنا عقليات الكبت. إن المباراة ستستمر سجالا بين الإتاحة والكبت وإن كانا من قارتين مختلفتين ويمارس كل منهما لعبة مختلفة تماما عن لعبة الآخر. إن الإتاحة مناخ، أما الكبت فعقلية توشك أن تذبل وينقطع نسلها وتميل بهدوء إلى الانقراض.
- فلسفة الإتاحة:
في ظل الإتاحة، تزيد فرص الأفراد في الإبداع والابتكار والنجومية، ويدرك المخططون في الدول المتقدمة أن مساعدة الفرد وتعزيز فرصه في النجاح- يعد تعزيزا لرصيد المجتمع والدولة، وبالتالي فليس من مصلحة الساسة كبت الشباب، أو اغتيال المفكرين، أو مصادرة كاميرات الصحافة. في الصراعات الجارية، يتساءل الصغار والكبار، المثقفون، والمتابعون العاديون: ما الذي يجري؟ وماذا تخبئ الأيام؟ لتأتي الإجابات حادة: ليس من حقكم أن تعرفوا، بل ليس لكم أن تستفسروا عما يجري حولكم. وليت إجابات الساسة كانت شفاهية ومباشرة، لكنها لم ولن تكون كذلك بالطبع.
- تلاميذ مؤرخون:
إن تلاميذ المدارس المعاصرين لمختلف الأزمات، وحجب المعلومات، واعتقال المغردين، وكبت التعبير، وتجريم التعاطف، وتهكير المواقع، ومنع النشطاء من السفر، وشراء المواقف، وابتزاز الدول الفقيرة- ليسوا مجرد تلاميذ في الواقع، بل متابعين ومؤرخين لمرحلة تاريخية، ستظل محفورة في وعيهم، وتقرأها الأجيال اللاحقة في بوستاتهم وتغريداتهم وأدبياتهم.
بالطبع، ليس بمقدور التلاميذ في المدارس والطلاب في الجامعات، التعبير عن اهتمامهم بما يجري، فضلا عن إبداء أي درجة من درجات المعرفة، أو محاولة التحليل؛ ومسؤول التعليم نفسه لا يسمح له بذلك، وما عليه إلا التناغم مع رغبة الساسة في توظيف منظومات التعليم والتربية والإعلام والدين والثقافة في تغييب الوعي وحجب المعرفة.
- بؤس وإحباط:
حين تطلع على مجمل ما تنشره المواقع الصحفية لا سيما مقالات الرأي، ومن مختلف الأعمار والتوجهات، تجد شبه إجماع على ما يعيشه الإنسان من إحباط وبؤس، في ظل الاستبداد، وما يستتبع ذلك من احتقان وغليان، كمنتج أولي لدوائر محكمة على عنقه وعقله ولسانه.
- المستبد والإنسان:
إن المستبد لا يفتر من الاستمرار في إنتاج كل ما من شأنه إبقاء قبضته حديدية صارمة، وإن كان الثمن إبادة الإنسان، أو تدمير حضارات إنسانية ضاربة من التاريخ، حاكية عن أجيال وعت رسالتها في حفظ تراث الإنسان ومعارفه منذ أزمنة بعيدة. إن استعداد المستبد لإزهاق روح إنسان واحد أو إذلاله، أكثر فظاعة بالطبع من إحراقه متاحف ومعالم وآثارًا ليس له إدراك قيمتها ما دام ذاهلًا عن قيمة الإنسان نفسه.
- سلاح التغييب:
لاعتماده على فرضيات الأزمات الحلقية المتصلة ببعضها البعض، فإن المستبد يظل أكثر حرصًا على التجهيل وتغييب الوعي، وتجده أكثر ضراوة في محاربة أدوات المعرفة ومنافذ التنوير. إن تعطيل قنوات الاتصال أو خدمات الإنترنت أو حجب المواقع، ليس إلا أمثلة لما يراه المستبد من أخطار التوعية "بالكلمة" وإن كانت تغريدة عل جدار إلكتروني لا تحمل رشاشًا ولا قنابل يدوية. إن ما يقوم به المستبد من تعسف لا يستهدف من هم اليوم تحت عصا الطاعة، أو تحت رحمة الإغراء بالمال والكراسي الدوارة، وإنما تمتد أنظار إلى تلك الأجنة التي لم تتخلق في أرحامها بعد.
- المستبد عدو المعرفة:
ليست المعرفة المعنية تلك المعلومات الباردة المعبأة الملقاة على أذهان الطلبة أو في مطاحن أدمغتهم، لكنها تلك المحفزة للوعي، الدافعة إلى الإحساس بالكرامة. إنها المعرفة المتجاوزة لأسوار القبيلة والطائفة والحزب والسيد. يبدو المستبد أكثر حماسًا وتفاعلًا مع أدوات التواصل الحديثة ومختلف منتجات العولمة لو اقتصرت على مقاطع الرقص وإحراز الأهداف والمصارعة وتوثيق الحياة البرية. أما أن تصبح حاملة لأفكار وناقلة لوعي، فذلك سبب كاف لردعها وتحجيمها وإن أعاد حياة الشعب سنين تقنية، أو حرم أجيالًا من مناظرة رصفائها في مواضع أخرى من الأرض.
- مثقفون في قطار التضليل:
إن الدعوة للتجهيل ومحاربة المعرفة لا تتم علنًا بطبيعة السياق، لكنها تستخدم مراكب شتى، من بينها أهل المعرفة أنفسهم بمختلف مجالاتهم وتخصصاتهم ومضاربهم العلمية والمهنية؛ لتحقيق نتائج آكد وأسرع وأبلغ أثرًا. ويبتلى متابعو القنوات الحكومية، بمشاهدة عدد وافر من أولئك المسبحين بحمد الأنظمة والطائفين بكراسيها، ولعل المتابع للإعلام العربي قبل ثورات الربيع وما تلاها من استعادة الرموز العتيقة للأنظمة المنهارة لمراكز نفوذها، يقرأ بوضوح كم تدمى بلداننا من بعض مثقفيها وقادة الرأي فيها، حين يمحو الليل ما يقوله المثقف نهارًا، وتمحو دموعه ما خطه بالأمس في ذم النظام.
- انسداد الآفاق:
في ظل الأوضاع القائمة، يتعذر وصف المشكلات الاجتماعية بشكل دقيق، وإن كانت جميعها ذات صلة بانسداد الآفاق السياسية، وغياب العدالة في توزيع الثروات والفرص والوظائف، إلى جانب غياب دور المثقفين والأكاديميين ومراكز البحوث والإعلام وانسداد الأفق الثقافي نفسه. ويمكننا تلخيص كل ما سبق في سبب رئيسي واحد يتمثل في الاستبداد السياسي وصناعته لمشكلات اجتماعية عميقة ومستمرة تستخدم فيما بعد مبررًا لبقاء الأوضاع على ما هي عليه. وما بين غياب "المؤسسات" كجهات تقنية يناط بها خدمة المجتمع وتلبية احتياجات مختلف قطاعاته من جهة.. في مقابل مشهد الشباب متلمسا خطاه في ظلام متراكم.. يبرز سؤال رئيس حول خلفيات الصورة وصانعيها والمستفيدين من نتائجها ومن استمرار الأوضاع على ما هي عليه.. وريثما تتوافر إجابات صادقة عن جملة ما سبق من أسئلة، لنعمل على منح الشباب "مزيدا من المعرفة والاهتمام والحب".
- خاتمة:
من خصائص الكلمة المكتوبة تجدد إيحاءاتها النفسية والذهنية بالترافق مع تجدد الأمكنة والأزمنة والمناسبات، أما صنعة الكتابة فمن شأنها توثيق ما يخطر من إشراقات في نفس الكاتب وذهنه عن كتابات سابقة، ومزجها بروح الوقت ولغته وأدواته، وللخواطر في تواصلها عجبٌ للمتأمل؛ فإنها تقطع المسافات وتخترق الجدر ولا تحدها العوائق.
---------------------
* معلم سوداني