مقالات في فلسفة الهوايات
احمد بابكر حمدان
معلم سوداني مختص في تنمية القدرات
(1)
نحو مفهوم جديد للهوايات
- مقدمة:
إن عدم توفر بيئات جيدة لممارسة الهوايات، ليس العائق الوحيد أمام طلاب المدارس والجامعات للاهتمام بهواياتهم وتنميتها. ويعاني الشباب والناشئة من مشكلة أعمق تتمثل في عدم توفر مفهوم سهل وواضح للهواية نفسها بمستوى يحفزهم على الاهتمام بها وتعزيزها حال توفر ما تتطلبه من أدوات. في هذه الورقة محاولة لتقديم مفهوم فعال للهوايات، وتحتوي على تعريف المفهوم الشائع وخصائصه، وأهمية تقديم مفهوم جديد، إضافة إلى المفهوم الجديد وخصائصه واستخداماته.

- ما معنى "مفهوم"؟
في موقع التربية للجميع: "المفهوم حسب قاموس الفرنسية لاروس هو تصوّر فكرة لشيء موضوع من طرف العقل، وهو أيضا تعريف للخصائص والميزات الخاصة. وفي اللغة العربية المفهوم وجمعه مفاهيم يعني المعنى والمدلول". أما اصطلاحا: فالتعريفات التي وضعت لمصطلح المفهوم عديدة إذ يقدّم معجم المصطلحات التربوية المُعرّفة تعريفا للمفهوم على أنّه عبارة عن تجريد يُعبّر عنه بكلمة أو رمز، يشير إلى مجموعة من الأشياء أو الأنواع التي تتميز بسمات وخصائص مشتركة، أو هي مجموعة من الأشياء أو الأنواع التي تجمعها فئات معينة". في حين يشرح معجم المصطلحات التربوية والنفسية، المفهوم بأنّه "تكوين عقلي ينشأ عن تجريد خاصية أو أكثر من حالات جزئية (أمثلة) متعدّدة، يتوافر في كل منها هذه الخاصية حيث تنعزل الخاصية مما يحيط بها، فأي من هذه الحالات تُعطى اسما أو مصطلحا" (1).

- المفهوم الشائع للهوايات: 
أوردت موسوعة ويكيبيديا: الهواية هي نشاط منتظم أو اهتمام يمارس في الغالب خلال أوقات الفراغ بقصد المتعة أو الراحة. وهي تشمل هوايات الجمع والفنون حيث تؤدي إلى اكتساب مهارات ومعرفة كبيرة ولا يقصد بها تحقيق الأجر وإنما المتعة (2).

وفي موقع "موضوع": "الهواية هي إبداء الاهتمام والميول لنشاطٍ معيّنٍ بهدف الاستمتاع وقضاء وقتٍ جميلٍ أثناء وقت الفراغ وممارسة أفعالٍ محببةٍ للنفس، أو بمعنىً آخر هي التوجّه بكامل الانتباه إلى ما يهوى الفرد في أوقات فراغه، بشكلٍ يحسّن من نفسيّته وحياته ومشاعره، وتستلزم من صاحبها حسب نوعها إمّا مهارات عقلية مثل حل المسائل الرياضيّة، أو لعبة السودوكو اليابانيّة على سبيل المثال، أو عضليّة وحركيّة مثل: القفز والجري، والمشي، وغيرها، وتتنوّع الهوايات بين القراءة بما تشمله من قراءة الكتب والروايات والكتابة مثل: الشعر، والنثر، والسباحة والخياطة، والسفر، وكرة القدم، والسلة، وجمع الطوابع والعملات القديمة، .... وتسلّق الجبال، وغيرها الكثير، ولا يكون الهدف منها العائد الماديّ بالدرجة الأولى، فيفعلها الإنسان إشباعاً لرغباتٍ خاصةٍ، وفي أحيانَ معيّنةٍ تدرّ عليه عائداً يفيده في حياته إن امتلك الموهبة والإبداع، الذي يشكّل حاجة بالنسبة لغيره من الناس، وبذلك يفيد نفسه ويفيد مجتمعه، فيصبح فرداً فاعلاً نشيطاً، كما أنّه ينال إعجاب من حوله" (3).

- خصائص المفهوم الشائع للهوايات:
1- الهوايات أنشطة ترفيهية غير جادة.
2- تمارس في أوقات الفراغ بغرض الترويح عن النفس وكسر الروتين وتخفيف ضغوط العمل.
3- الخلط بين مفاهيم (الهوايات، المواهب، المهارة، الإبداع، ...).
وتعد إشكالية الخلط بين المفاهيم، من أبرز خصائص المفهوم الشائع للهوايات. وينتج عن الخلط المفاهيمي، تشويش بالغ في رؤى الناشئة، ومن ثم في اهتمامهم وتفاعلهم مع المفردات نفسها؛ إذ إن وضوح الفكرة أهم محفز، وأفضل دافع للتفاعل معها وتبنيها.

- أهمية تقديم مفهوم جديد:
إن عدم اهتمام الطلاب بهواياتهم، غالبا ما يعود الى غياب مفهوم واضح، وبالتالي عدم امتلاكهم فكرة صحيحة وجيدة وفعالة عن الهوايات نفسها.. ومن الطبيعي ألا يهتم الشخص بما لا يدركه بشكل جيد. وهذا ما يدفع الباحث لتقديم مفهوم جديد للهوايات، ليس ذلك فحسب، بل شيوع مفهوم مشوه، ما زال يسهم بقدر كبير في شل قدرة الطلاب على بناء رؤية واضحة للعلاقة بين مختلف أنشطتهم الدراسية وغير الدراسية، مما يحد من قدرتهم في توظيف ملكاتهم وميولهم.

- مفهوم جديد للهوايات:
إن درجة ارتباطنا بمختلف الأنشطة اقترابًا أو ابتعادًا، حبًا أو كراهية.. تساعدنا كثيرًا في الوصول إلى مفهوم سهل وفعال للهوايات. وممارستنا للأنشطة، لا تنفك عن وصفين اثنين غالبًا؛ حيث يمكننا وبكل سهولة تقسيم ما نقوم به من نشاطات إلى:
1- أنشطة نمارسها بدوافع ذاتية ورغبة حقيقية نابعة منا دون اضطرار أو إجبار من طرف آخر، بغض النظر عن أهمية تلك الأنشطة أو ضرورتها أو درجة حاجتنا إليها.
2- أنشطة نمارسها دون رغبة منا وبدوافع غير ذاتية، وتمثل حاجتنا أو اضطرارنا أبرز دوافع قيامنا بها، وقد يكون ذلك بإجبار وإكراه وإن كان إكراها اجتماعيًا كحالات العادات والتقاليد.

ويرى الباحث أن الهوايات هي "الأنشطة المفضلة للشخص، سواء كانت ترفيهية أو جادة، وتصنف إلى أربعة أقسام هي المعرفة والتعلم، الرياضة والترفيه، العمل والإنتاج، التطوع والخدمات الاجتماعية، وعادة ما يمارس الأشخاص أنشطتهم المفضلة بغرض إشباع احتياجات نفسية". ومن أشهر الاحتياجات النفسية، نظرية الاحتياجات الإنسانية الستة لأنتوني روبنز(4).

- خصائص المفهوم الجديد للهوايات:
1- الهوايات عبارة عن "أنشطة" مفضلة لدى الشخص. 
2- تعبر الهواية عن درجة ارتباط نفسي بين الشخص والنشاط.
3- الهوايات ليست مجرد أنشطة ترفيهية فقط. 
4- الهوايات ليست مرتبطة بأوقات الفراغ فقط. 
5- تصنف الهوايات إلى أربعة أنواع (المعرفة والتعلم، الرياضة والترفيه، العمل والإنتاج، التطوع والخدمات الاجتماعية).
6- تشبع الهوايات احتياجات نفسية "اليقين، التنوع، التواصل، الأهمية، النمو، والمساهمة".

- تصنيف الهوايات حسب المفهوم الجديد:
ويرى الباحث أن تصنف الهوايات حسب المفهوم الجديد، إلى أربعة أصناف:
- أولًا: المعرفة، في صدر الأنشطة المفضلة. وتمثل أول أقسام الهوايات.. وينتج الارتباط بين الهواية والمعرفة ما يمكن أن نطلق عليه الهوايات المعرفية، وتشمل، جميع الأنشطة المعرفية المفضلة، بمختلف قولبها وانماطها.
- ثانيًا: الرياضة، وتأتي تالية للمعرفة، وتشمل جميع الأنشطة الرياضية والترفيهية المفضلة، بما فيها المشي والركض وركوب الخيل والدراجات ومختلف الألعاب.
- ثالثًا: العمل: وتأتي الهوايات العملية/ المهنية ثالثة في الترتيب بعد المعرفة والرياضة، وتشمل جميع ما نهواه من أنشطة مهنية وإنتاجية.. ولعل قسم العمل من أهم ما يميز المفهوم الجديد للهوايات، من حيث توسيع مفهوم الهواية من مجرد الترفية والتسلية لتشمل الأعمال الجادة أيضًا. إن العمل امتداد طبيعي للمعرفة ومرحلة من مراحلها. وإذا كان العمل معرفة، فإن الرياضة نفسها عمل، وقد تكون مرهقة بدنيًا ونفسيًا.
- رابعًا: التطوع، يمثل القسم الرابع في تصنيف الهوايات، أبرز حلقات الوصل ما بين الأنشطة والرغبات؛ إذ إن التطوع لا يمارس إلا برغبة بخلاف الأنشطة الثلاثة السابقة، بما فيها الرياضة نفسها وإن كانت ترفيهية في معظم الأحوال، إلا أن اللاعب قد يقاد إليها مجبرًا لا بطلًا.. ويرتبط التطوع بقسم الهوايات العملية، بوصفه عملا، وإن كان ثمة تباينًا ففي الدوافع والمقابل المادي.

- توظيف المفهوم الجديد للهوايات:
وقد قام الباحث بتوظيف المفهوم الجديد للهوايات، في ابتكار نموذج ASC كأداة معنية باكتشاف هوايات الطلاب. فيما يلي تعريف موجز بالنموذج:
نموذج آسك أو ASC form تقنية وأسلوب جديد للتعرف على هوايات الطلاب وما يرتبط بها من مواهب وطموحات. والنموذج عبارة عن استمارة من “صفحة واحدة فقط” تتضمن ثلاثة عناصر رئيسة هي: المواهب والهوايات والطموحات، ويقسم كل عنصر رئيس إلى أقسام محددة، ومن ذلك تصنيف المواهب إلى “ذهنية وبدنية ونفسية”، وتصنيف الهوايات إلى “معرفية ورياضية وعملية وتطوعية”، وأخيرا تصنيف الطموحات إلى “معرفية ومهنية واجتماعية”.

تقوم فكرة آسك ASC form على مفاهيم دقيقة وأكثر تحديدا لمفردات الموهبة والهواية، بمستوى يمنح مستخدم النموذج طريقة سهلة وحاسمة للتفريق بينهما من الناحية النظرية، وتجنب ما يترتب على الخلط المفاهيمي من اضطراب في نواحي التطبيق والممارسة. حسب المفهوم الجديد للهوايات، فإن للمواهب معنى آخر: “ملكات وقدرات ما قبل التعلم”، أما الهوايات فهي أنشطة تتطلب سلة “قدرات” لممارستها. بما يقدمه النموذج من مفاهيم وما يكشفه من علاقات بين عناصره الثلاثة، تتكشف للمستخدم خيوطا مهمة للربط بين قدراته وأنشطته، وتفهم ميوله المهنية والاجتماعية والمعرفية (5).

- خاتمة:
يرى الباحث أنّ المفهوم الشائع للهوايات، مشوه وغير فعال، مما يحتم الانتقال إلى مفهوم جديد، أكثر وضوحا وشمولا وفاعلية. ويرى الباحث أن الهوايات هي جميع الأنشطة المفضلة للشخص، وتصنف إلى أربعة أقسام شاملة لمجمل الأنشطة، وتمارس بغرض إشباع احتياجات نفسية، وليست أنشطة ترفيهية مرتبطة بأوقات الفراغ فقط، وقد قام الباحث بتوظيف المفهوم الجديد للهوايات في ابتكار نموذج ASC كأداة لاكتشاف هوايات الطلاب، تمهيدا لوضع برامج لتعزيز هواياتهم وتنميتها. 
----------------------------------------
- هوامش:
1- من مقالة بعنوان (تعلم وتعليم المفاهيم) موقع التربية للجميع، على الرابط: https://educapsy.com/etudes/apprentisage-enseignement-concept-150
2- تعريف (هواية)، موسوعة ويكيبيديا، على الرابط: https://ar.m.wikipedia.org/wiki/%D9%87%D9%88%D8%A7%D9%8A%D8%A9
3- من مقالة بعنوان (أنواع الهوايات) موقع موضوع، على الرابط: https://mawdoo3.com/%D8%A3%D9%86%D9%88%D8%A7%D8%B9_%D8%A7%D9%84%D9%87%D9%88%D8%A7%D9%8A%D8%A7%D8%AA
4- انتوني روبنز متحدث تحفيزي أمريكي، صاحب نظرية الاحتياجات الإنسانية الست Human needs
5- من مقالة للباحث بعنوان (ماذا تعرف عن نموذج ASC مكتشف هوايات الطلاب؟) المجلة الثقافية الجزائرية، على الرابط: https://thakafamag.com/?p=42054
-----------------------
(2)
- قصة نموذج "ASC":
في أواخر عام 2015م، بدأت برنامجا تعليميا لاكتشاف هوايات الطلاب، بالتزامن مع إعدادي دراسة  عن مفهوم جديد للهوايات، وقد قمت بتطبيق "المفهوم" في استمارة خاصة، صممتها تلبية لحاجة البرنامج.. وكانت الفكرة حينها: أن الطالب بحاجة إلى إعداد سيرة ذاتية متضمنة مواهبه وهواياته؛ بغرض تتبع أنشطته وتطورها خلال فترة دراسته الثانوية والجامعية.. وكانت الاستمارة الجديدة، مساعدة للطالب في إعداد السيرة الذاتية المقصودة. أطلقت على الاستمارة اسم: نموذج أحمد حمدان للسيرة الذاتية للطالب، وأصبح اختصارها الجاري: نموذج ASC أخذا بالأحرف الأولى من الاسم الإنجليزي: AHMED HAMDAN STUDENT CV FORM ليستقبل مجتمع التعليم، أداة ووسيلة تعليمية مساعدة، وتطبيقا جديدا لاكتشاف هوايات الطلاب. وكان نموذج آسك أحدث محطاتي في رحلة الاهتمام بتنمية هوايات الطلاب، وقد سبقته عدة مقترحات وتصورات قدمتها في فترات ومؤسسات متعددة. 

خلال فترة عملي بالمدارس في العاصمة الخرطوم وخارجها (2004 - 2012)، كنت مهتمًا بما يعزز الأنشطة الأكاديمية للطلاب في محيطي الصغير، فكتبت برنامج «إسناد» في صورة مقترح لمساعدة الطالب أكاديميًا، ثم أتبعته بـ«إشراف» وهو مقترح أقل التصاقًا بالتدريس، وأقرب إلى التوجيه والإشراف حسب اسمه. وكتبت تصورًا ثالثًا أطلقت عليه «إبحار» وهو أكثر ابتعادًا عن النبض الأكاديمي، وكان الغرض منه توجيه الطلاب ثقافيًا، والإشراف على أنشطتهم المعرفية وتعزيزها، مما تطلب إعداد ملاحق للتصور الأساسي تتضمن قوائم وأدلة معرفية للمواد والوجبات المعرفية، بمختلف قوالبها. كان «إبحار» مشروعًا أكثر منه برنامجًا مدرسيًا بسيطًا، وقد ساهمت فكرة المشروع رغم عدم اكتماله، في تعزيز نجاح «ASC» فيما بعد. ولعل أفضل وصف يمكن إطلاقه على النموذج أنه (أداة) أردت بإنتاجها تلبية حاجة آنية في حينها، ولا تخفى أهمية الأدوات والوسائل المساعدة في عملية التعليم والتعلم. إن ASC في أبسط توصيف “عبارة عن منتج للمعلمين والمدربين والمربين، لمصلحة التلاميذ والطلاب ورصفائهم من المتدربين”.

قدمت استمارة ASC في بادئ الأمر، لتدريب طلبة الجامعات على إعداد سيرة ذاتية خاصة بالطالب student cv متضمنة (المواهب والهوايات والطموحات المهنية) تشجع على الاجتهاد في الدراسة، ومتابعة النمو الشخصي، وتسهم في تصحيح المسار الدراسي مبكرا. لم تكن الاستمارة ناضجة حينها، لكن اجتهاد المستخدمين ومساندتهم للفكرة، ساعدني كثيرا في تطويرها وتحسينها باستمرار ولثلاثة أشهر متتالية. خلال الفترة المذكورة كنت أقدم فكرة النموذج للمهتمين؛ للحصول "تغذية راجعة" أفادتني كثيرا في إنضاجه وتعميق فكرته بدرجة أكبر.. وكان على نموذجي التعليمي أن يقوم بمهمتين معا.. الاولى أن يجيب على سؤال: هل كنت موفقا حين اخترت المساق التجاري في المرحلة الثانوية عام 1995؟ والثانية ان يعمل على تصحيح المفاهيم الخاطئة من قبيل: "ليس للمتفوق إلا أن يصبح طبيبا" وهي واحدة من الأفكار السائدة في مجتمعاتنا (أن الطلاب المتفوقين دراسيا يفترض أن يصبحوا أطباء أو مهندسين.. أما مجالات المحاسبة والقانون فهي للأقل ذكاء.. والمجالات الصناعية لمن هم في ذيل القائمة).. وعادة ما نجد مبررات للافكار الاجتماعية في حينها ونطاقها المحدد لكنها كثيرا ما تكون مدمرة ومعطلة لكثير ممن هم تحت تاثيرها.. وفكرة اخرى خاطئة وذات صلة بما سبق وهي عدم التفريق بين الموهبة والتفوق الدراسي واعتبار المتفوق هو فقط الموهوب أما الأقل درجات والراسبون فلا حظ لهم في الموهبة. وللأسف، فإن هذه الأفكار الخاطئة، راسخة حتى في مجتمعات المعلمين فضلا عن وسائل الاعلام والجهات الاجتماعية ذات الصلة.

في أول تجربة ميدانية بالمدارس، قدمت نموذج ASC كوسيلة لاكتشاف مواهب الطلاب وهواياتهم؛ آملا التقاطا أسرع للاداة الجديدة في ساحة التعليم، وتوظيفا أكثر فاعلية من زملاء المهنة والميدان.. إلا ان التخوف "الطبيعي" حيال الافكار الجديدة، كان ذا تأثير كبير في تحجيم التجربة وتعطيل انطلاقها وتطورها بوتيرة سريعة. وخلال نفس الفترة، شرعت في إعداد دليل للمستخدم.. لم يكن الدليل المرشد كبيرا في بادئ الأمر.. حيث تضمن حينها فكرة النموذج ومميزاته ودوافع تطويره كأداة لاكتشاف مواهب الطلاب وهواياتهم وطموحاتهم المهنية.. إضافة إلى طريقة مقترحة لشرح فكرة النموذج ومصطلحاته للطلاب.

- عوائق وصعوبات:
إن ارتباط وثيقة “السيرة الذاتية” بطلبات الوظائف، ليس مبررا كافيا لحجرها في ذات الغرض دائما، وعادة ما تتجاوز الأدوات استخداماتها الأولية المفترضة، إلى أخرى قد تكون بعيدة حتى عن “اسم الأداة” وصورتها المعتادة، كما هو الحال بالنسبة للهاتف الجوال، فقد بدأ “أداة” للاتصال الصوتي، لكنه اليوم مدين للإنسان المعاصر بكثير من نجاحاته، بعد أن أصبح “أداة” لها أكثر من عشرة استخدامات متباينة؛ فمن المراسلة النصية والتسجيل والتصوير إلى عمليات التصميم والسداد وتحويل الأموال، تجده حاضرًا في جميع تفاصيل حياتنا. وكان من أكثر ما واجهني عند ابتكاري لنموذج خاص لسيرة الطالب، عوائق اجتماعية مرتبطة بكون “السيرة الذاتية” لا علاقة لها بالطلاب، وأنها مرتبطة بطلب الوظائف. إضافة إلى صعوبات تقنية أخرى مرتبطة بطبيعة “ميدان التعليم” وكلاسيكيته المفرطة، فضلا عن البيروقراطية القاتلة في مؤسسات التعليم الحكومية، والصبغة التجارية الفجة في التعليم الخاص، ومراكز التدريب.

- مبررات ومميزات:
في تقديمي لفكرة نموذج “سيرة ذاتية للطالب” student CV، عملت على الدفع بمبررات عديدة، علها تكسر حائط الجليد بين فكرتين، إحداهما عتيقة متخشبة، وأخرى حديثة مرنة، ومستوعبة للسابقة، ومكملة لها. وقد أوردت في كراسة مستخدم النموذج دوافع ابتكاره، وسلة مميزات:
(1) دوافع ابتكار نموذج ASC:
1- حاجة الطالب إلى التفريق بين المواهب والهوايات.
2- حاجة الطالب إلى المساعدة في اختيار الأنشطة المناسبة لقدراته وميوله.
3- حاجة الطالب إلى المساعدة في تنمية قدراته وأنشطته.
4- حاجة الطالب إلى اكتشاف العلاقات بين هواياته وطموحاته المهنية.
5- عدم توفر أدوات جيدة لتنمية قدرات الطلاب واكتشاف مواهبهم وميولهم.
6- عدم توفر أدوات جيدة لمساعدة الطلاب في التخطيط المعرفي والمهني.
7- عدم توفر أدوات لتوجيه الطلاب دراسيا ومنشطيا.

(2) مميزات نموذج ASC:
1- يساعد الطالب في اكتشاف مواهبه (قدراته) وهواياته (أنشطته المفضلة) وطموحاته المهنية.
2- يساعده في تقييم شخصيته في جوانب (المواهب، الهوايات، والطموحات).
3- يساعده في معرفة العلاقات والارتباطات بين مواهبه وهواياته واختياراته المهنية والاجتماعية اللاحقة.

- محتوى واستخدامات:
بعد الاطلاع على دوافع تصميم النموذج، تبدو محتوياته أكثر وضوحا، إذ يحتوى على ثلاثة عناصر فقط، تمثل “حزمة واحدة” لتحقيق أهدافه كأداة ذات فاعلية، وتأكيد مبررات تقديمه لمجتمع التعليم. وتعبر عناصره عن أهم ما يحتاجه المعلم من معلومات لتصميم برامج تعليمية مؤثرة.
(1) عناصر نموذج ASC:
1- المواهب abilities وهي الملكات وقدرات ما قبل التعلم، ويصنفها النموذج إلى (ذهنية وبدنية ونفسية).
2- الهوايات hobbies وهي الأنشطة المفضلة، ويصنفها إلى (معرفية ورياضية وعملية وتطوعية).
3- الطموحات aspirations وهي التطلعات المستقبلية، ويصنفها إلى (مهنية واجتماعية ومعرفية).

(2) استخدامات نموذج ASC:
عادة ما ترتبط فاعلية الأدوات بالمستخدم من حيث استيعابه للفكرة ومهارته في توظيفها، وبطبيعة الاستخدام، إلى جانب جودة الأداة نفسها وملاءمتها للاستخدام المعني. في كراسة مستخدم النموذج قدمت عدة استخدامات مفترضة، تتنوع ما بين شخصية وتربوية:
1- اكتشاف المواهب والميول والطموحات.
2- التخطيط لتطوير الأنشطة.
3- تحديد الطموحات بناء على الهوايات.
4- التوجيه الدراسي والمنشطي.
5- إعداد البحوث التربوية.
6- إنشاء قواعد بيانات تربوية.
7- تقويم البرامج التدريبية.

- وسائل إيضاحية مساعدة:
بحسب مشاركين في دورات نموذج "ASC" فإن قيمة النموذج لا تتوقف عند اختراقاته على مستوى المفاهيم ذات الصلة بالمواهب والهوايات، بل تتعداها إلى جانب الوسائل التعليمية المساعدة.. حيث يقدم دليل مستخدم اسك، حزمة ادوات متنوعة من شأنها مساعدة المعلم في شرح الفكرة وجذب الطلاب ومساعدتهم في استيعاب فكرة النموذج. وتكتسب الوسائل التعليمية أهمية كبيرة في تعزيز قدرة المعلم على نقل الأفكار والتدريب التطبيقي.. وتعمل في نفس الوقت على تيسير التعلم وتشجيع الطلاب على التحصيل والتلقي. وتعمل الوسائل المساعدة على توظيف أكبر لحواس المتعلم ومغازلة ميوله للعب والتجريب والتحدي والاكتشاف.. وقد حاولت عند تصميم وسائل آسك وأدواته المساعدة، مراعاة اتصافها بالجدة والتنوع وإثارة شغف المتعلم، وقدرتها على تحقيق أكبر قدر ممكن من الإشباع والمتعة:
1- لوحات آسك:
لوحات متباينة الأحجام لاستخدامها وسائل توضيحية في دورات النموذج.. وتتضمن اللوحات مصطلحات آسك، ومميزاته ودوافع تطويره، ومستخدمي النموذج واستخداماته.. فضلا عن لوحات خاصة بالنموذج نفسه بكل من العربية والإنجليزية والتركية والفرنسية.. ويستفاد من لوحات آسك في المعارض التعليمية وأي أنشطة أخرى ذات صلة.

2- حكايات آسك:
سلسلة حكايات قصيرة مساعدة للمعلم في استيعاب فكرة آسك وشرحها، حيث استهدفت بعض الحكايات المعلم نفسه مقدمة له محاكاة لطريقة عرض النموذج وشرحه للطلاب.. بينما تم تخصيص حكايات أخرى للطلاب. تشرح الحكايات جوانب من استخدامات آسك. في حكاية "عطلة رائعة" يجري حوار بين تلاميذ حول العطلة المدرسية، واقتراح أحدهم استخدام نموذج آسك بغرض التخطيط لأنشطتهم خلال الصيف. ويمكن للمعلم توظيف الحكايات في أنشطة القراءة والمسرح أيضا.

3- لعب آسك:
في سلة الوسائل المساعدة، مجموعة لعب مساعدة في تحبيب فكرة النموذج وتيسير استيعابها.. وتضمنت اللعب: لعبة الجوال، ولعبة آسك الناطقة، وسيارة آسك، ولعبة المكعبات.

برز نموذج ASC كأداة جديدة في حقل التعليم، وكان استجابة لحاجة فعلية لزملاء المهنة والطلاب في نفس الوقت. إن احتياج المعلم/ المدرب والطالب كليهما لوسيلة سهلة الاستخدام، كان دافعا أساسيا لابتكار النموذج، والدفع به إلى مجتمع التعليم؛ لاختباره وتقييمه، وتوظيفه في المساحات التربوية المتاحة.. وأطمح لأن يصبح نموذج ASC أداة قادرة على التناغم مع مختلف الاستخدامات التربوية، تتيح مزيدًا من المساحات لاستخدامات جديدة وباستمرار.
----------------------
(3)
- كيمياء الهوايات في فصولها الأربعة:
إن عدم اهتمام الطلاب بهواياتهم، غالبا ما يعود الى غياب المفهوم، وعدم امتلاكهم فكرة "صحيحة" و"جيدة" و"فعالة" عن الهوايات. في ميدان الإعلام والتدريب، تستخدم مفردات كثيرة، بمعان غير محددة، دون مراعاة لما قد يرسبه ذلك من مفاهيم خاطئة لدى المتلقين. يستهلك الإعلاميون مفردات الموهبة والإبداع أكثر من غيرهم، ويستخدمون صفة "مبدع" و"موهوب" بمعنى "ماهر" ، وتختلط في لغتهم المواهب بالهوايات، ويجري دمج الملكات في الأنشطة، بينما يفرط مدربو التنمية الذاتية في استخدام مفردات المهارة والنجاح والتميز. وتعد إشكالية الخلط بين مفاهيم (الموهبة والهواية) من أبرز خصائص المفهوم الشائع للهوايات. وينتج عن الخلط المفاهيمي، تشويش بالغ في رؤى الناشئة، ومن ثم في اهتمامهم وتفاعلهم؛ إذ إن وضوح الفكرة أهم محفز، وأفضل دافع للتفاعل معها وتبنيها، وليس غريبا ألا يهتم الشخص بما لا يدركه بشكل جيد.

- مفهوم الهوايات:
إن الهوايات هي كل ما نقوم به من أنشطة ذات امتدادات في نفوسنا، وتهواها أفئدتنا وقلوبنا، ولا تقتصر على الأنشطة الترفيهية فقط، وليست مجرد أنشطة إضافية تمارس في أوقات الفراغ وفي عطلات نهاية الأسبوع.. لكنها مجمل أنشطتنا المرغوبة والمفضلة. وتمثل الهوايات بمفهومها الجديد، فرصة لاستعادة التوازن وتصحيح المسارات المعرفية والمهنية والاجتماعية لمن هم بحاجة إلى تصحيح، لا سيما ممن استهلكتهم عجلة الحياة في مبتدر الصبا، ولم تمنحهم مساحات كافية للتأمل والاختيار والمفاضلة، سواء كان ذلك في مرحلة الاختيارات الدراسية، أو المهنية فيما بعد، أو الاجتماعية والإنسانية أيضًا. من المهم أن تنطلق جميع خطوات التطوير من نقطة “المفهوم” لا سيما في مجال التعليم وميدانه الواسع. إن التغيير إن لم يمس جوهر الفكرة، فلن يكون مجديا مهما كان كثيفا ومبهرا، ولعل تركيز المعلمين والمدربين على تكثيف الأنشطة، والاهتمام بالشكل دون الجوهر، ما زال محدود الأثر، إن لم يؤد إلى نتائج عكسية. 

وقد خلصنا في دراسة "نحو مفهوم جديد للهوايات" (1)، إلى أن المفهوم الشائع للهوايات “مشوه وغير فعال” مما يحتم الانتقال إلى مفهوم جديد أكثر فاعلية وتأثيرا، وقد اقترحنا التالي: “الهوايات هي جميع (الأنشطة المفضلة) للشخص، سواء كانت ترفيهية أو جادة، وتصنف إلى أربعة أنواع هي (المعرفة، الرياضة، العمل والتطوع)، وتعبر الهوايات على ارتباط نفسي بين الشخص والنشاط، وتمارس بغرض إشباع احتياجات نفسية لا سيما الاحتياجات الستة لأنتوني روبنز (اليقين، التنوع، التواصل، الأهمية، النمو، والمساهمة)”. ويمثل التصنيف الرباعي للأنشطة المفضلة، عامة الأنشطة الجارية لدى معظم الناس، وإن كان حديثنا هنا عن الطلاب بوجه خاص.

- نموذج السيرة الذاتية للطالب “ASC”:
وكان من استخدامات “المفهوم الجديد للهوايات” توظيفنا له في ابتكار نموذج ASC كأداة تعليمية ذات استخدامات متعددة، من أهمها اكتشاف هوايات الطلاب وميولاتهم، واكتشاف العلاقات بين قدراتهم وانشطتهم المفضلة من جهة، وبين أنشطتهم وطموحاتهم أيضا. وقد تبنى النموذج المفهوم الجديد للهوايات، والتصنيف الرباعي لها، ليقدم الهوايات بوصفها “أنشطة: activities” ويصنفها إلى (المعرفة والتعلم)، (الرياضة والترفية)، (العمل والإنتاج)، (التطوع والخدمات الاجتماعية). وإلى جانب الهوايات يشتمل النموذج على عنصرين آخرين هما المواهب والطموحات، وقد عرف المواهب بالقدرات والملكات abilities ، وعرف الطموحات بالتطلعات aspirations. ويستخدم نموذج ASC في البرامج التعليمية كأداة لتوفير أهم ما يحتاجه المعلم من معلومات عن الطالب، قبل تصميم برامجه التدريبية (2). ويمثل ASC رأس الرمح في أسلوب تعليمي جديد أكثر اهتماما بالأنشطة الجارية للطلاب، وأكثر تركيزا على اكتشاف العلاقات المتوفرة بينها. على سبيل المثال وحسب النموذج، فإن أنشطة “التطوع” تعد نمطا من أنماط “العمل” والعمل نفسه يعد من أنشطة “المعرفة والتعلم”. أما أنشطة “الرياضة والترفيه” فإنها ضرورة صحية واحتياجا أساسيا need لممارسة الأنشطة الأخرى.

- تعزيز الأنشطة وتنميتها:
من أين نبدأ رحلة التطوير الشخصي؟ سؤال مهم وجوهري، تمثل الإجابة عنه مرحلة جديدة كليا عما قبلها. في دراستنا "نحو مفهوم جديد للهوايات" قدمنا فكرة تبدو أكثر فاعلية وإيجابية فيما يتصل بالأنشطة المفضلة. من المهم أن تقوم برامجنا التدريبية على فكرة "تعزيز الأنشطة الجارية" للطالب، ومن ثم المضي قدما بناء على ما يقدمه من تفاعل واستجابات وتقدم. إن الفكرة المهمة هنا، أن ندرك ما بين "الأنشطة المفضلة" و"الأنشطة الجارية" من صلات وعلاقات، من شأنها الإسهام في تعزيز أنشطة الطلاب، وترقية معظم أنشطتهم إلى مصاف "المفضلة". إن الاهتمام بالأنشطة الجارية، والانطلاق منها في رحلة التطوير، مدعاة للفاعلية؛ إذ إن الأنشطة ليست سوى شاشة لعرض قدراتنا وجداراتنا بمختلف تقسيماتها (ذهنية، بدنية، نفسية) حسب توصيف النموذج. ويعد الاهتمام بعامة هوايات الطلاب وأنشطتهم المفضلة، نقلة مهمة في طبيعة البرامج التدريبية، وتطويرًا مهمًا في ساحة التعليم. وما يقدمه نموذج آسك من ربط بين الجاري من أنشطة الطالب، ومستقبله الدراسي والمهني، خطوة جيدة نحو توثيق الصلة بين المؤسسات التعليمية، وسوق العمل. يقول الطالب إبراهيم يوسف (جامعة المشرق، السودان): “للاهتمام المبكر بهوايات الطلاب وميولهم تأثير جيد في اختياراتهم الدراسية والمهنية مستقبلًا، ونحن بحاجة لمثل هذا الاهتمام الذي يساعدنا في اختيار أفضل ما يناسب قدراتنا وميولنا”.

في توظيفنا للمفهوم الجديد للهوايات، نعمل على التعامل مع "الأنشطة" في صورتها الطبيعية "العادية" دون إضافات. ومن ثم العمل على تنميتها وتعزيزها، دون تركيز على صورتها من "الخارج" مهما كانت. لتقريب فكرة التعامل مع "الأنشطة" لنضرب مثلا بالكتابة كأحد الأنشطة "الجارية أو المفضلة" للمتدربين. إن صورتها الاجتماعية كالآتي: (الكتابة إبداع، الكتابة موهبة، الكتابة شاقة وعسيرة وتتطلب ثقافة واسعة ومعرفة دقيقة بالنحو وقواعد اللغة... الخ). أما صورتها الطبيعية، فإنها نشاط عادي في سلة أنشطتنا الجارية، وليست بكل تلك الأشكال والقيود. وهكذا نعمل على نقلها من سياق الاستعراض إلى سياقات طبيعية أخرى كالتعلم والتواصل، بوصفها أداة مهمة وضرورية لكليهما. وحتى نحقق فاعلية أكبر لأنشطتنا التدريبية، لعلنا بحاجة مستمرة إلى:
1- تهيئة مناخات جيدة للتعلم والنمو، وقد كانت ابتكارات "مارك" وإخوته إفرازا طبيعيا للمناخات المعرفية الجيدة، والإتاحات الوافرة للتعلم والتجريب والابتكار..
2- التعرف على ملكات الطلاب وقدراتهم وهواياتهم، وآلية ذلك أن نستخدم أدوات أكثر جودة وحداثة في اكتشافها، ونستفيد من المتاح من الكتابات والبرامج ذات الصلة. وبمقدار جودة الأدوات وفاعليتها، وحداثتها، يكون تجاوب الطلاب، وتفاعلهم مع البرامج المقدمة واستفادتهم منها.
3- الاهتمام بالتكامل في تنمية مواهب الطلاب (ذهنية، بدنية، نفسية) عبر أنشطة متنوعة ومتوازنة؛ لصياغة شخصيات متكاملة محبة للحياة والخير والجمال، وذات طموحات معرفية متوازنة.
4- التركيز على دائرة منشطية محددة في هوايات الطلاب؛ لتحقيق مخرجات ونتائج أكثر جودة. ويتحقق التطور بالتركيز في مجال محدد، ومن ثم توسيع دائرة النشاط والانطلاق إلى فضاءات أكبر.

- رباعية الأنشطة الجارية:
إن ما نطمح إليه من تقدم شخصي فعال، لا يرتبط بكثافة ما نحصل عليه من معلومات، أو برامج عالية الثمن. إن الخطوة الأولى في التقدم أن نبدأ مما نحن عليه الآن، بالشروع في تعزيز أنشطتنا الجارية وتطويرها بما يتناسب مع قدراتنا واحتياجاتنا. في دراسة "مفهوم الهوايات" قدمنا تصنيقا جديدا للأنشطة المفضلة، ويعد التصنيف مجرد خطوة أكاديمية لشرح الفكرة، وتيسير استيعابها، أما الأنشطة نفسها فمن طبيعتها الترابط والتشابك، وإن ما بينها من تباين ليس سوى فرصة ومدعاة التكامل والانصهار. في تصنيفنا للأنشطة وضعنا المعرفة والتعلم في المقدمة، ومن ثم الرياضة والعمل والتطوع، وقد افترضنا أن عامة أنشطتنا قابلة للتصنيف تحت الأقسام الأربعة المذكورة. وتبدو أنشطة "المعرفة والتعلم" الأوفر حظا في سلة الأنشطة المفضلة للطلاب وهواة المعرفة. حسب نموذج ASC وهو من تطبيقات المفهوم الجديد للهوايات، فإن "العمل" نفسه أحد أنشطة التعلم، بوصفه ميدانا لتطبيق المعرفة واختبارها في ذات الوقت. أما التطوع فإنه نشاط عملي بطبيعة الحال، وإن كان ثمة تباينا بينهما، فذلك في الدوافع والمقابل. وينظر النموذج إلى أنشطة الرياضة والترفيه، كاحتياج وضرورة للصحة البدنية والنفسية، ولا يخفى ارتباط الصحة بجميع ما نقوم به من أنشطة. ويوفر ASC أداة من شأنها الإسهام بفاعلية في إنجاح برامج التطوير، وذلك بتقديمه قراءة جيدة لأنشطة الطلاب تحت العناوين الأربعة سابقة الذكر، بما يعرف الطالب بمسارات أنشطته الجارية، وما يتوفر بينها من صلات وعلاقات، كخطوة أولى في رحلة التقدم والنمو الشخصي.

تفترض "خطة الأنشطة الأربعة" وهي برنامج لتعزيز أنشطة الطلاب، أن عامة أنشطتنا الشخصية قابلة للتصنيف تحت أربعة عناوين رئيسية، ويضم كل منها تفاصيل وأمثلة قد تتباين لدى الأشخاص، لكنها متجانسة بدرجة عالية في العناوين الكبيرة. وتعتمد الخطة على مفهومنا الجديد للهوايات (جميع الأنشطة المفضلة للشخص، وتصنف إلى أربعة أنواع هي المعرفة والرياضة والعمل والتطوع). وتأسيسا على التصنيف المشار إليه، فإن المعرفة تمثل العنوان الأول في “رباعية الأنشطة” وتليها الرياضة، فالعمل، ثم التطوع. وأقصد بالمعرفة كل الأنشطة المتصلة بالتعلم والتحصيل المعرفي، بغض النظر عن أدوات التعلم ووسائله، وما إذا كان مؤسسيا نظاميا أم حرا مفتوحا.. أما الرياضة فأقصد بها "كل الأنشطة المتعلقة بالرياضة والترفية والألعاب، بمختلف صورها وأنماطها". وأعني بمنشط العمل "جميع الأنشطة المهنية والإنتاجية، وكل ما يطلق عليه عملا في العادة".. ويلي العمل، النشاط التطوعي وإن كان في حقيقته، نوعا من ضروب العمل، إلا أن طبيعته ودوافع الإقبال عليه عادة ما تكون مختلفة عن العمل التقليدي الهادف إلى تحقيق عوائد مادية محددة.

في خطة الأنشطة الأربعة، يهتم (المعلم/ المدرب) بالتعرف على طبيعة وتفاصيل كل من الأنشطة الأربعة لدي كل طالب على حدة، في محاولة للتخلص من عادة “الوصفات السحرية” الشائعة في كتب ودورات التنمية الذاتية. إن تطبيق خطة الأنشطة الأربعة من شأنه بناء تواصل أكثر جودة بين المعلم والطالب؛ حيث يشعر الأخير بملامسة البرنامج التدريبي لأنشطته الفعلية ومخاطبته لما وراءها من احتياجات. على سبيل المثال، فإن التعرف على الأنشطة المعرفية الجارية للطالب يمنحه فرصة لاكتشاف ما يربط بينها من صلات وعلاقات، والتعرف على ما تعبر عنه من قدرات وملكات.. فضلا عن لفته إلى الاهتمام بمدى علاقتها بما يطمح إليه مهنيا واجتماعيا. تهتم الخطة بما يتوفر من علاقات بين الأنشطة الأربعة للطالب؛ للتعرف على العلاقات الداخلية بينها، وما يربطها مجتمعة بما يطمح إليه من نجاحات في المستقبل. ويعد اكتشاف العلاقات بين المفردات مرحلة متقدمة في التعلم والمعرفة تتطلب تفكيرا وتأملا وجهدا ذهنيا، مما يدفع بقدرات المتعلم وينميها.

- تغيير طفيف.. نتائج كبيرة:
إن أنشطتنا الجارية ليست سوى شخصياتنا، بكل ما نملكه من قدرات، وما نمتاز به من خبرات وجدارات، وما نطمح إليه من نجاحات. وقد علمتنا التكنولوجيا أن تغييرا طفيفا في إعدادات الهاتف مثلا، قد يمنحنا نتائج مبهرة، وتغيرا كبيرا في واجهة التلفون ووظائفه.. وقل مثل ذلك في الريسيفر وغيره من أدوات العصر. وفي حقل التعليم والتعلم، نحتاج إلى سلسلة عمليات ﻹعادة ضبط المصطلحات والإجراءات والأنشطة والخطط، بغرض تحريرها من تراكم المفاهيم الخاطئة أو غير الفعالة. إن كل ما نبذله من جهد في ميدان التعليم، لن يقتصر أثره في نفس الدائرة فحسب، بل سيتعداها إلى جميع الحقول والأنشطة والمجالات.
------------------------
- هوامش:
1- "نحو مفهوم جديد للهوايات" مقال سابق للباحث، منشور في مجلة أجيال الالكترونية، على الرابط:  https://www.ajeal.net/spot-light/4216/نحو-مفهوم-جديد-للهوايات/
2- من مقال تعريفي عن نموذج ASC، منشور في المجلة الثقافية الجزائرية، على الرابط:  https://thakafamag.com/?p=42054

-----------------------
(4)
- مع هواة المعرفة والتعلم:
"إن توقفك عن التعلم لقلة الوقت، يشبه إيقاف ساعتك على أمل تثبيت الزمن" روجر فريتس

“كنت أبحث عن معيار حقيقي للتقدم الحقيقي، فوجدته في رقي أخلاق النخب، وشغف الناس العاديين بالعلم والاكتشاف" عبد الكريم بكار

يمكننا وصف التعلم بأنه عملية اتصال بين طرفين يجمعهما فضاء اتصالي جيد يساعد في نقل المعلومات أو تبادلها بحسب نوع التعلم وطبيعته. وإن كان لا بد من معلم ومتعلم في العملية التعليمية، فإن أدوات الاتصال وأساليبه المتاحة، يكتسبان أهمية مماثلة للطرفين الأساسيين. إن التعلم وسيلة تواصل وهمزة وصل بين الأجيال والمعارف، ولو لم يكن ثمة تعلم لانقطع عزف المعرفة وصمت صيتها؛ إذ الإنسان وهو حامل المعارف محدود الأجل ومعرض لمختلف آفات الزمان، وبالتعلم من السابق يكتسب اللاحق جملة المنتج من المعرفة، ويصبح المتعلم أداة وصل لما سبق من المعارف بما يستجد منها. والفكرة السابقة ذات أهمية كبيرة لهواة المعرفة والتعلم.

- المعرفة نشاط مفضل:
من المهم أن يستقر في ذهن الطالب أن المعرفة "نشاط مفضل" في سلة أنشطته وبرامجه المعتادة، وليست عبئا ثقيلا وجهدا لا يطاق. في هذا السياق، كتب الطالب أنور فريحة (جامعة السلام، السودان): "في كورس اكتشاف الهوايات بدأ التغير يشق طريقه بعمق في حياتي المعرفية.. في تلك اللحظات شعرت بأنني أنتقل إلى عالم آخر، عالم مليء بالمعرفة، مفعم بكثير من ادواتها.. بدأت في التمييز بين الهواية والموهبة، ووجدت نفسي قريبآ من تحقيق طموحاتي، حين تعرفت على طرق تعزيز الهوايات، وكيفية تطويرها، وقد ساعدني الكورس في التعرف على تصنيف مبتكر لكل من الهوايات والمواهب كلا على حِده". ويضيف قائلا: "عند تطبيقي لتقنيات الكورس، وجدت نفسي اكثر ميلا للهوايات المعرفية، وقد كنت في أمس الحاجة للمعرفة بالطبع وما زلت. إن الهوايات المعرفية هي أنشطتي المفضلة، ومن خلالها أستطيع النفاذ إلى أسرار وخفايا عالم المعرفة الشاسع، وبلوغ ما كنت أطمح إليه. في الهوايات العملية كانت الكتابة وهي من أدوات المعرفة ايضا. بالكتابة أستطيع ان أعبر عن سرائري، وكل لحظاتي، الحزينة منها والسعيدة" (1).

عندما نطلب من الطلاب تحديد أبرز هواياتهم المعرفية، تتوارد إجاباتهم بسلاسة متسقة مع أعمارهم ومستوياتهم الذهنية، وتتكشف بشكل تلقائي، ميولاتهم الدراسية، ودرجات التفاوت في حبهم لما يتلقونه من مواد ومقررات. إن الكشف عن تفضيلات الطلاب قد يساعدنا في معالجة ما يواجهونه من صعوبات أكاديمية، أو ما يعانونه من صعوبات في التواصل مع مدرسي بعض المواد، فضلا عن توفير ما تتطلبه بعض الدراسات من أدوات، قد يكون توفرها سببا حاسما في ارتباط الطلاب بها وحبهم لها وتفوقهم في تعلمها. وقبل أن نلومهم على الانصراف عن التعلم والمعرفة، يجدر بنا أن نغرس في نفوسهم أن المعرفة نشاط مفضل وهواية ممتعة. إن النقلة الحاسمة في مسار التعلم، قد تكون فكرة أو مفهوما concept فعالا يتبناه المتعلم ويقيم عليه بناءه المعرفي. والملاحظ أن غالب جهودنا في مجال (التعليم والتعلم) إنما تتركز على تكثيف الأنشطة من ناحية، أو التعويل على صور التعلم وأدواته وتقنياته كإجراءات جوفاء فاقدة للروح والمضامين.

إن التعلم في مجمله جهد ذهني مضن، وبطيء النتائج في ذات الوقت، مما يتطلب توفير مبررات جيدة وكافية، في ظل التنافس الشرس للاستحواذ على أوقات الطلاب على وجه الخصوص وجذب اهتماماتهم إلى ساحات أخرى أكثر بريقا وأوفر إثارة من ميادين التعلم. إن ما نطمح إليه من نتائج جيدة وتغير كبير في أداء الطلاب، قد لا يكون بنفس سرعتنا في صياغة الأفكار وإعداد الخطط وتقديم البرامج، لكن المهم قطعا هو نجاحنا في إحداث مستوى من التغيير في مفاهيم المتعلمين، وإعادة رسم الصور الذهنية، في خطوة وصفناها بعملية إعادة “ضبط الإعدادات”.

- نموذج ASC وتعزيز حب المعرفة:
تعد سيرة الطالب student cv أداة مهمة لمتابعة نموه الشخصي، وتتضمن حسب نموذج ASC ثلاثة عناصر رئيسة هي (المواهب والهوايات والطموحات). وتمثل الهوايات أفضل وسيلة لاكتشاف العلاقات المتوفرة بين قدرات الطالب وملكاته من ناحية، وطبيعة ميولاته، وطموحاته المستقبلية. ويأخذ ASC منحى جديدا في الاهتمام بأنشطة جميع الطلاب، والعمل على اكتشاف ما لدى كل منهم من ميول منشطية، مما يسهم في زيادة فاعليتهم ويعزز درجة تواصلهم البيني وارتباطهم بمؤسساتهم التعليمية. بحسب النموذج، فإن الهوايات Hobbies عبارة عن سلة الأنشطة المفضلة للشخص، وتصنف إلى أربعة أقسام تتصدرها “المعرفة” وما يتصل بها من أنشطة التعلم والتحصيل العلمي، بمختلف أدواته وقوالبه وإطاراته. إن ثمة تغيرًا كبيرًا ينتظر أن يضيفه نموذج “ASC” فيما يتعلق بنظرة الطالب للمعرفة، و"تحسين مستوى الاهتمام بها"، حسب تعبير طالب بالثانوية. ويهدف النموذج من وضع النشاط المعرفي في سلة هوايات الطالب، إلى ترقية المعرفة والتعلم إلى مرتبة الأنشطة المحببة، أسوة بالرياضة والترفيه. إن ما يقوم به “ASC” محاولة لتوظيف العقل الباطن في ربطه بين المفردات والأحداث، وإنتاجه مشاعر متماثلة برابط التزامن. ولك أن تتخيل ما سيجنيه مستخدم النموذج وهو يقبل على المعرفة كنشاط مفضل في سلة هواياته، وما يرسخه ذلك من حب للمعرفة. قد تكون مهمة المعلم في ترسيخ “حب المعرفة” شاقة بدرجة كبيرة؛ نسبة لما تصنعه البيئات الاجتماعية من معاجم في الواقع، وتحديدها لأوزان الأشياء وأدوارها، ومن ذلك المعرفة بالطبع. إن تأكيدنا على صعوبة مهمة المعلم، ليس سوى تنبيه؛ حتى لا يتخطفه اليأس حين يتبنى معظم الطلاب تفسيرات مزرية بالمعرفة والتعلم، ولا يحطمه الإحباط وهو يشاهد تباين الأوزان على صفحة الواقع.
 
الإتقان وليد "الشغف"
"إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه". حديث شريف
في دراستنا "نحو مفهوم جديد للهوايات"، قدمنا تصورا واسعا للهوايات، لتشمل في طياتها جميع الأنشطة المفضلة للشخص، ومن بينها بالطبع، الأنشطة (الجادة) إلى جانب أنشطة الرياضة والترفيه.. وفي مقدمة الأنشطة الجادة (التعلم) و(العمل). إن حب العمل لا ينفصل عن «حب المعرفة»؛ بالنظر إلى أن «العمل» نفسه من ضروب «التعلم» ودرجة من درجات المعرفة. ولنا أن ننظر إلى العمل بوصفه تطبيقًا للمعرفة، ومنتجًا لها في نفس الوقت. أما إتقان العمل فهو درجة أرفع من مجرد أدائه، ولا تخفى صلة ما بين الإتقان وحب العمل. إن المتقن لعمله المتفاني فيه هو ذلك المتعلق بمهنته ومجاله، الشغوف بهما، لا ذلك المؤدي لمهامه بدافع الواجب في أحسن الأحوال، إن لم يكن مجبرًا عليها ومضطرًا.

وفي استخدامنا للمفهوم الجديد، عبر تطبيق (نموذج آسك)، استمر تأكيدنا على صلة ما بين المعرفة والعمل من ترابط وتعاضد، وعادة ما تظهر علاقات أكبر بينهما مع تقدم مستوى المستخدم. عند استخدامنا للنموذج في المرحلة الثانوية، يتجه اهتمام الطلاب الى ما يتوفر من علاقات بين تفضيلاتهم المعرفية واختياراتهم المهنية مستقبلا، لكن النموذج يوفر لهم منطقة وسطى بالغة الأهمية، وتتمثل في الأنشطة العملية الجارية للطلاب، وما إذا كانت متصلة بأنشطتهم المعرفية الجارية أم لا. إن اهتمامنا بترسيخ «حب المعرفة» والشغف بها في نفوس الطلاب مبكرًا وهم في أطوار التشكل والنضوج، يتسق مع رغبتنا في التعامل معهم، فيما بعد- كمهنيين ومختصين أكثر حبًا وشغفًا لأعمالهم بمختلف ضروبها، بغض النظر عما تصنعه معاجم المجتمع ولغة الواقع من تصنيف وتمييز بين الأعمال والمهن. إن من ينشأ في حبٍّ للعلم والاكتشاف، سيكون محبًا لممارسة ما تعلمه وتطبيقه عمليا، كخطوة جديدة في مشوار التعلم، تزين صدره، وتنير ذهنه، وينفع بها الناس. 

منذ مطلع رمضان (2021) يعمل الطالب مجاهد احمد علي (جامعة غرب كردفان، السودان) متدربا في إحدى الصيدليات بمدينته الصغيرة، بعد عودته إليها في عطلة الصيام، وكان قد أكمل برنامجا مهنيا قصيرا في الصيدلة، إلى جانب دراسته الجارية في الطب البشري. يقول مجاهد عن تجربته الأخيرة: "أرى أن الفترة التدريبية جزء من التعلم، بل إن العمل نفسه، عبارة عن تعلم جديد عن طريق تطبيق المعرفة". وحسب مجاهد، فإن صفة (متعلم) ينبغي أن تكون ملازمة للشخص في مختلف مراحل العمل، سواء كان متدربا أو ممارسا محترفا.

إلى جانب أنشطة العمل والإنتاج، أولى المفهوم الجديد للهوايات، عناية خاصة بالعمل التطوعي، وأفرد له نموذج آسك عنوانا مستقلا، وإن كان نوعا من العمل. وتبدو فرص الإتقان في الأعمال التطوعية أكبر، من حيث ارتباط التطوع بالرغبة والشغف عادة، بخلاف الأعمال العادية، وإن كان الشغف مهما في كليهما. ويمثل إدراج التطوع في مصفوفة هوايات الطلاب، إلى جانب كل من المعرفة والرياضة والعمل، حزمة متكاملة توظف مختلف القدرات (ذهنية وبدنية ونفسية) في تآزر وتناغم بديع يؤكد أن تجديد مفهوم «الهوايات» لا تقف إيجابياته عند مرحلة «المعرفة» فقط، لكنه يمتد إلى صويحباتها الأخريات في سلة هوايات الطالب. يقول أحد مستخدمي «ASC»: «لا يقف النموذج عند مساعدتنا في اكتشاف هواياتنا المعرفية والمهنية، بل يطلب منا معرفة ما بينهما من علاقات أيضًا». ويعمل النموذج على اكتشاف ما بين هوايات الطالب المعرفية والمهنية من صلات وروابط، من شأنها نقل شغفه بالمعرفة إلى شغف مماثل بالعمل، سواء كان بأجر محدد أو تطوعا.

- تحليل شخصيات الهواة:
إن تحليل شخصيات الهواة، يمنحهم رؤية أوسع مدى، ويحفزهم على الاستمرار بوعي وثقة.. ويتيح أمامهم فرصا أفضل لتعزيز هواياتهم، لا سيما "هواية المعرفة". بحسب مؤشر MBTI الشهير لأنماط الشخصية، فإن سمة (الإنجاز) تعد نمطا شخصيا في مقابل صفة (التشتت) وهما صفتان عبر عنهما المؤشر في محوره الرابع تحت عنوان (الترتيب). وتقدم أنماط الشخصية عموما، صورة حالية للوضع الغالب والاعتيادي في تصرفات الشخص، بحيث يمكننا البناء عليها في تواصلنا معه، وتجنب الاصطدام. وتعبر الثقافة الشعبية عن الأنماط بالعادات، وترى أن العادة "جبل" تأكيدا على رسوخها وتعذر تغييرها في غالب الأحوال (2).

عادة ما تواجهنا صعوبات كبيرة في الانتقال بالمتدربين من التفاعل التدريبي القصير، إلى تواصل مستمر لفترات أطول، وبالتالي إتاحة فرص أكبر للانتقال من نقطة إلى أخرى، وتحقيق نتائج ذات قيمة أكبر. في الواقع تتوفر رغبة كبيرة لدى معظم المتدربين، لتحقيق نقلات وإنجازات، لكن واقع الحال يؤكد أن الانتقال قدما لا يتحقق بمجرد رغبات صادقة، أو الحصول على دورات احترافية عالية القيمة. وتكتسب دراسة الأنماط الشخصية أهمية كبيرة؛ حيث تعمل على نقلنا من مجرد التركيز على تحصيل كم معلوماتي، إلى نقطة أعمق بالنظر إلى طبيعة ما تتطلبه شخصياتنا من تعديلات في (الإعدادات) أو جهود لتحقيق درجة من التوازن. إن ما يواجهنا من صعوبات في التقدم الشخصي، وإنجاز الأعمال، ذو صلة مباشرة بأنماط شخصياتنا وما يسيطر علينا من (تلقائية) وعدم قدرة على التأني والالتزام والاستمرار في مشروعات طويلة نسبيا. وتعد سمة (الاستعجال) والاندفاع لتحقيق نتائج سريعة، والتحرك بدوافع المنافسة والانتصار، من أبرز ما يحول بيننا وبين تحقيق نتائج ذات قيمة.. وما لم نعمل على معالجة المشكلة الحقيقية بكل وضوح وحزم، فإن الوصول إلى نجاحات حقيقية سيظل أمنية وحلما مهما توفرت لنا من أدوات وفرص. وتهدر كثير من جهودنا في التعلم على وجه الخصوص، والعمل والعلاقات، بسبب عامل جوهري يتصل بعدم معرفتنا وعدم (اهتمامنا) بأنماط شخصياتنا أو شخصيات من نتفاعل معهم، في خضم انشغالنا المستمر بما يحقق أسرع نتائج وأفضل بريق.

- سمات هواة المعرفة:
لنقترب من هواة المعرفة؛ لنتعرف على أبرز قدراتهم وملكاتهم، ونكتشف أنماط شخصياتهم، واحتياجاتهم النفسية الدافعة لممارسة الهوايات والشغف بها، ودورها في تعزيز هواية التعلم لديهم. إن تحليل شخصيات  “هواة المعرفة”، يتطلب استخدام حزمة أدوات وتطبيقات، بحيث تعرفنا كل أداة، على جانب أو أكثر في شخصية “هاوي المعرفة”. من المناسب استخدام كل من نموذج ASC ومؤشر MBTI وأسلوب الاحتياجات النفسية الستة، حيث يتميز آسك بخاصية اكتشاف العلاقات بين القدرات والأنشطة والميول، بينما يمتاز مؤشر مايرز بريغز بتركيب نمط code الشخصية من دراسة عدة محاور.. أما تحليل الاحتياجات النفسية، فيقدم لنا تفسيرا لدوافع السلوك، ويمنحنا إجابة عن “لماذا نفعل ما نفعله” (3).

حسب نموذج ASC فإن هواة المعرفة، هم من تسيطر الأنشطة المعرفية وأنشطة التعلم على معظم اهتماماتهم، وتبدو قدراتهم وملكاتهم الذهنية أكثر بروزا، وتظهر طموحاتهم في قوالب غير مهنية، حيث يطمح معظمهم لأن يصبح مخترعا، مكتشفا، مطورا، ونحو ذلك من صفات العلماء والباحثين. ونلاحظ تناغما كبيرا بين كل من نموذج آسك ومؤشر الأنماط، حيث يطلق المؤشر وصف “العالم” على أصحاب النمط INTJ ويعني أن الشخص أكثر ميلا للنشاط الداخلي (التفكير)، وأكثر استخداما للخيال، ويتخذ قراراته بعقلانية، ويتصف بالحسم والإنجاز. في نموذج آسك كان ناتج العلاقة بين القدرات الذهنية والانشطة المعرفية، طموحات “عالم”.. وفي مؤشر الأنماط كان نمط “العالم” نتاجا لتفاعل سلة صفات شخصية، من بينها التفكير، الخيالية والعقلانية. ويأتي استخدام الأداة الثالثة (تحليل الاحتياجات النفسية)، أكثر تناغما مع كل من الأداتين السابقتين (النموذج والمؤشر) ؛ حيث يميل "هواة المعرفة" عادة، للبحث عن أكثر الأماكن هدوءا وأبعدها عن الضجيج والصخب، ويتناسب هذا الميل مع المكون الأول في نمط العالم “النشاط الداخلي” ويتماهى مع طبيعة ميولاتهم البحثية.. ويمثل “اليقين” certainty (الثبات، الأمان، التحكم) احتياجا نفسيا عاليا لدى هواة المعرفة والتعلم والبحث، إلى جانب احتياجهم النفسي الأبرز “النمو” growth (التعلم، التطور، التقدم).

- تشجيع الأكثر استعدادا:
كتب الطالب أيمن حماد (جامعة بحري، السودان) في مقالة له بعنوان: التعلم الذاتي في زمن كورونا: "عند العودة إلى الجامعة في سبتمبر لم أشعر بأنني كنت في فترة توقف عن الدراسة، وقد كنت مدركا ان التعلم والمعرفة ليس في الجامعه فقط، بل هو أمر متعلق بالذات، والدراسة الجامعية وسيلة لزيادة المقدرات المعرفية ومهارات الحياة" (4).

ينتظر من المعلم الوقوف على مؤشرات هامة فيما يختص بقدرات المتدربين (الطلاب) واستعداداتهم الذهنية والنفسية.. وذلك من خلال التعرف على مختلف أنشطتهم الجارية، ومنها بطبيعة الحال (الأنشطة المعرفية) وما يتصل بالتعلم والتثقف والمعرفة. يميل الطلاب ذوو النشاط البدني والاجتماعي المحدود إلى أنشطة التعلم بشكل أكبر، بينما تقل مساحات التعلم لدى الأكثر نشاطا، لصالح الأنشطة البدنية والاجتماعية، هذا بصفة عامة وإن كان بعضهم أقدر على التوازن من سواه. من المهم أن نشجع الأكثر رغبة واستعدادا على المضي قدما، وأن نعمل على دعمهم وتزويدهم بما يعزز استعداداتهم تلك ويحفزها باستمرار.. وذلك من خلال المقترحات التالية:
1- إن أول ما يحتاجه المتعلم الراغب في تميز معرفي ذي قيمة، أن نساعده في رسم صورة ذهنية جيدة لمشروعه المعرفي وما ينتج عنه من صفات معرفية محددة، ولا بأس من طرح ذلك في شكل سؤال كبير تمثل الإجابة عنه ملخصا للصفات المراد الوصول إليها وتمثل في ذات الوقت “طموحات معرفية” للمتعلم.
2- يتطلب تحقيق طموحاتنا المعرفية وجودنا في “ميدان ما” أو مجال مهني محدد تتراكم فيه معرفتنا النظرية والتطبيقية باضطراد، حتى نبلغ مستوى يؤهلنا للمساهمة في حل مشكلاته أو تطوير أدواته وتقنياته. ويمثل مجالك المهني ساحة لتعزيز التعلم وميدان للإسهام المعرفي في ذات الوقت.
3- إن اختيارنا للمسارات الدراسية ليس سوى اختيار مهني، وإن كان أوليا وغير حاسم في كثير من الأحوال.. ومما يجدر بالطالب وهو في مراحل دراسية وعمرية مبكرة، أن يعمل على اكتشاف ميولاته وهواياته بشكل مستمر؛ ليمهد لنفسه ويساعدها عند الاختيارات الدراسية والمهنية الحاسمة.

- تجربة التعلم (5):
في تقدير الطالب “مجاهد أحمد علي” (جامعة غرب كردفان، السودان)، أن التعلم عبارة عن إدخال معرفي منظم وهو “ذلك الإدخال الذي يعمل على تشكيل المفاهيم، وتمليك المنهجيات الصحيحة لرؤية وتحليل الواقع، والقضايا التي تواجه (المتعلم) في مسيرته المعرفية.. أكثر من الذي يعمل على تمليك المعلومات والحقائق المثبتة كمفردات. يقال أن ”من يملك معلومة كمن يملك قطعة ذهبية، أما من يملك رؤية منهجيه فهو كمن يملك مفتاح منجم للذهب”. ويضيف شارحا الفكرة: “هذا المفتاح هو ما يحتاجه كل من يطمح إلى بناء (مشروع معرفي)، فهو يفتح الأبواب أمام المتعلم ويعطيه القدرة على التعامل مع واقعه بصورة أكثر تفهماً ووعياً، ومع أحداثه الجارية بصورة أكثر مرونة، وفاعلية، وإدراكاً لما يمكن أن تؤول إليه الأمور.. كما يساعده على تحليل القضايا التي تواجهه في مسيرته المعرفية تحليلاً منهجياً يمكنه من استخلاص نتائج وخلاصات، وتكوين خبرات تراكمية تمهد الطريق له ولغيره، أي يساعده على تحويل نشاطه المهني إلى مشروع معرفي مستمر”.

ما بعد الاضطراب العرفي:
“في قصتي الشخصية، وتجربتي، كنت أعيش حياة مضطربة معرفيا، ولا أستطيع الحصول على ذرة نجاح واحدة؛ بسبب اتباعي أساليب عديدة لا تصب في قوالب النجاح المهم بالنسبة إلي، وكنت دائما ما ألتقي بالفشل في طريقي في كل رحلة معرفية أعدُ لها. ربما كنت غير مرتب الأفكار، وليست لدي مصفوفة منتظمة، او بالأحرى: إن أفكاري في ذاتها كانت لا تخضع للترتيب لغياب بعض بناتها اللبيبات”. هكذا قدم الطالب انور فريحة (جامعة السلام، السودان) لتجربته في التعلم.. ويضيف مستكملا: “في تجربة التعلم، التقيت بهذا العنوان “أسرار التميز المعرفي”.. لم يكن طويلا ولا شاقا، لكن أحرفه شكلت في دواخلي دوافع دعتني للإقبال عليه متحمسا للبحث عن محتواه، وقد قلت في نفسي: لعلي أجد سرا من هذه الاسرار، ويصبح مفتاحا لأفكاري. عندما غُصتَ في عُمقهِ وجدته يتحدث عن المعرفة بطريقة مبسطة ومختلفة، وكأنها ما كنت احتاجه بالفعل”.

أهمية الكتابة في التعلم:
أما طالب الماجستير زبير بن عبد العزيز (جامعة دار الهدى الإسلامية، الهند)، فقد كتب عن تجربته في التعلم قائلا: “إن النشاط المعرفي هو حلقة الوصل بيني وبين المجتمع. في نظامي لا تأتي المعرفة دون مساعدة الآخرين وذلك واضح لأن الشخص الواحد لا يستطيع له أن يبني النشاط المعرفي. إن التواصل بيني وبين مجتمع المعرفة مهم في جميع المجالات، ولا يستطيع أحد أن يبني المجتمع إلا بمتعاون معه.. وأرى أن أي شخص أراد أن يكون ناجحا في مشروعه المعرفي فإن عليه العزم والثقة بنفسه والروح الخالصة. ولابد للعالم والطالب في حياته المعرفية من الكتابة، وهو بغير الكتابة غير كامل وفي حياتنا نثبت أن “من كتب قر ومن حفظ فر”. لذا، الكتابة في حياته واجبة، يقال: عندما تكون قارئًا فكن صاحب قلمٍ مميزٍ أيضًا. وعلى الطالب أن يصحح الأفكار الخاطئة عن الكتابة، ومن ذلك: كونها “ليست من الأعمال والأفعال العادية بل هي علامة قدرة عظيمة” وهذا خطأ”.

المعرفة في مقدمة الأنشطة:
ويكتب الطالب ايمن حماد (جامعة بحري، السودان) عن نشاطه المعرفي الشخصي قائلا: “إن التواصل بيني وبين مجتمع المعرفة أهم خطوة في التقدم المعرفي لدي لأن الشخص لا يستطيع ان يفعل شيئا دون فريق متعاون معه. وأري أن أي شخص اراد ان يكون ناجحا في مشروعه المعرفي فعليه بروح الفريق الواحد”. ويجيب عن سؤال: كيف أدير انشطة حياتي؟ “إن ادارة النشاط الشخصي تختلف من شخص لآخر بطبيعة الحياة. أطمح لتلقي المعرفة بشكل متواصل وإنجاح مشروعي الشخصي” ويضيف: “أما الأنشطة الأخرى فإنها ضرورية وتعمل على تنظيم مسار الحياة لذلك وضعت النشاط المعرفي في المقدمة”.

- خاتمة:
إن طريقنا نحو “تعزيز التعلم” وتحقيق تميز معرفي، عادة ما يبدأ عند اكتشافنا لقدراتنا، وما يتصل بها من أنشطة وهوايات، مرورا بالاختيارات الدراسية والمهنية المرتبطة بميولاتنا واستعداداتنا.. ومن ثم بوجودنا في مجالات مهنية متصالحة مع شخصياتنا، وأخيرا بمدى قدرتنا على الانتقال من صورة المهني التقني أو مجرد الممارس لمهنة ما، إلى موقع المهني "الباحث" المساهم في تعزيز المعرفة في مجاله، وتقديم حلول لمشكلات المجال وتطوير أساليب العمل.
--------------------------------
- هوامش:
1- من مقال "التعلم يغير حياتنا"، أنور فريحة، المجلة الثقافية الجزائرية، على الرابط: https://thakafamag.com/?p=48181
2- للاطلاع على مقال مفصل عن مؤشر MBTI، ... على الرابط: https://www.meemapps.com/term/myersbriggs-type-indicator-mbti
3- للاطلاع على شرح مبسط لنظرية الاحتياجات الإنسانية للمتحدث التحفيزي الأمريكي أنتوني روبنز،  من مدونة الدكتورة سيوين علي، على الرابط: https://iradatuna.com/2018/09/28/%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%A7%D8%AC%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%86%D8%B3%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%AA/amp/?__twitter_impression=true
4- من مقال "التعلم الذاتي في زمن كورونا"، ايمن حماد، المجلة الثقافية الجزائرية، على الرابط: https://thakafamag.com/?p=45805
5- من استطلاع للكاتب بعنوان "تجربة التعلم".
---------------------
(5)
- اختبار التخصص الجامعي باستخدام نموذج ASC:
يوفر نموذج ASC أسلوبا مرنا، يتيح للمستخدمين فرصا أكبر لاكتشاف قدراتهم وميولاتهم وتحديد احتياجاتهم المعرفية. وتساعد استمارة “ASC” في قراءة مجمل شخصيات المستخدمين، وتشخيص احتياجاتهم الأكثر إلحاحا؛ وذلك لاعتمادها على فكرة الهوايات و”الأنشطة الجارية” كمؤشر لاكتشاف مختلف القدرات والميول والاحتياجات. عند استخدامه للنموذج، يلاحظ المستخدم زيادة قدرته على اكتشاف ملامح ميولاته في جانب الأنشطة المعرفية، لينتقل من بعد- من مجرد الملاحظة إلى دائرة أكثر تحديدا، وذلك حين يربط بين قدراته واحتياجاته الدافعة نحو مختلف الأنشطة. أما المعلم فيمكنه ملاحظة الفروق الفردية بين مستخدمي النموذج بكل سهولة ويسر، وقراءة كل من القدرات والاحتياجات المعرفية، والاستدلال بكل منها على الأخرى، فضلا عن ملاحظة اتصالهما بالأنشطة الجارية للمستخدم.

يلاحظ المعلم أن بعض المستخدمين أكثر محدودية في تفاعلهم مع النموذج، ويتحرك بعضهم في دائرة مهنية (تقنية) شبه ثابتة، لا تتعداها أسئلتهم أو استفسارتهم، بينما يلاحظ آخرين أكثر تمردا على الأسئلة التقنية المحدودة، وأعلى رغبة في التواصل مع الأفكار. وما بين هؤلاء وأولئك يرسم المعلم منحنى “القدرات والاحتياجات” ومن ثم له أن يتوقع ما يمكن أن يحققه كل فريق من نجاحات عادية أو طفرات. بطبيعة الحال، ليس من مقاصد النموذج المفاضلة بين المستخدمين وترتيبهم، وإنما مساعدتهم في التعرف على ميولاتهم وقدراتهم واحتياجاتهم بشكل أفضل من ذي قبل.

إن النموذج أشبه بأداة لإعادة ضبط الإعدادات الشخصية للمستخدم، ومن ثم له تثبيت ما يشاء من برامج وتطبيقات مدعومة من نظامه، وداعمة لأهدافه المستقبلية. ويعمل “ASC” كأداة للغوص بعمق أبعد من مجرد تنظيم أنشطة المستخدم أو تكثيفها. إن الجانب المهم في النموذج قدرته على إعادة ضبط الإعدادات الشخصية إن جاز الوصف، واعني بها: الاهتمام بالأفكار الموجهة لأنشطة المستخدم واهتماماته، ومخاطبة احتياجاته، وتحديد ما إذا كانت معرفية أو غير معرفية. إن المفتاح الأهم في النموذج هو العمل على نقل المستخدم من النقطة (أ) إلى النقطة (ب)، والنأي عن تقديم وصفات تطويرية "جاهزة". إن الاحتياجات المعرفية للشخص، عادة ما تكون مؤشرا لملكاته وقدراته الذاتية، ويتطلب إشباع احتياجات كل شخص نوعا وكما مختلفا من الأنشطة.. ويمكننا تمثيل ذلك لاحقا بمنحنى الاحتياجات والأنشطة. ويعد ASC مساعدا جيدا للمعلم في قراءة أنشطة المستخدمين والتعرف على مؤشرات عامة حول قدراتهم واحتياجاتهم المعرفية، كل على حدة، ومن ثم العمل على مساعدة كل منهم، في رسم خارطته المعرفية، حسب احتياجاته وقدراته.

- اختيار التخصص الجامعي:
عادة ما تكون عمليات الانتقال من مرحلة إلى أخرى، معقدة وعسيرة، إذا كان التعامل معها جزئيا بوصفها "حدثا" لا أكثر. إن الانتقال بين المراحل والمستويات لن يكون بكل ما نراه من الصعوبة والعسر، إن استطعنا النظر إلى "الصورة الكاملة" وعملنا على وضع العناصر في إطار مترابط، بدلا من الاجتهاد في صناعة تقابل دائم بينها. ويأتي الحديث عن اختيار التخصص الجامعي، في نفس السياق، حيث تبذل جهود كبيرة في لحظة "الحدث" لمساعدة الطلاب في انتقال سهل من الثانوية إلى الجامعة، بتقديم نصائح وإرشادات وبرامج وتقنيات، تبدو جيدة وإن كانت في توقيت غير جيد. إن التعامل مع موضوع اختيار "اختيار التخصص"، كحدث مستقل يتطلب حلولا عاجلة، ليس غريبا في سلوكنا الاجتماعي؛ فإننا نتعامل بنفس الطريقة والأسلوب في معظم تفاعلاتنا الاجتماعية. في هذه المقالة محاولة للنظر إلى "اختيار التخصص" ضمن دائرة أوسع، ودعوة للاهتمام بها في وقت أبكر، واقتراح أداة حديثة نسبيا من شأنها مساعدة الطالب في اكتشاف الخيوط الواصلة بين أنشطته الجارية، وما يناسبه من أعمال مهنية في المستقبل، ومن ثم ما تتطلبه تلك الأعمال من تخصصات جامعية.

وترجعُ عامة الصعوباتُ التي تواجه الطالبَ عند اختيار التخصص الجامعي، إلى سببين:
1- ضعف الأنشطة المعززة لهوايات وميول الطلاب في المدارس الثانوية على وجه الخصوص، والتي يفترضُ اهتمامها ببناء روابطَ جيدةً بين أنشطةِ الطالب وطموحاته المهنية، ووضع رؤيةٍ واضحةٍ تدعم هذا الاتجاه.  
2- ما يحصل من تجاذب داخل الأسرة عند اختيار التخصص، كمظهر للفجوةِ النفسيةِ الكبيرةِ ومؤشرٌ لضعف التواصل المعرفي بين الآباء وأبنائهم. وعادة ما يتم اختيار التخصص دون استشارة الابن، ودون مراعاة رغباته وميوله وقدراته؛ مما يؤدي عادة إلى التعثر الدراسي، ومن ثم الفشل، أو التحطم والإحباط، وحرمان المجتمع من مبدعين يعشقون مجالاتهم الدراسية والمهنية فيما بعد.

من المهم أن يبدأ تعرف الأسرة على اهتماماتِ الابن وميولاته الدراسيةِ والمهنية منذ وقتٍ مبكر، وذلك عن طريق الملاحظة في المقام الأول، أو باستخدام بعضِ النماذج التربوية ذاتِ الصلة، مثل نموذج السيرة الذاتية للطالب ASC، وأن تعملَ الأسرة على رعاية هواياتِ الابن وتنميتها وتوجيهها؛ لتصبحَ رغباتٍ واعيةً وناضجةً، وذاتَ صلاتٍ حقيقيةٍ بواقعه الاجتماعي، وبفرصِ العمل المتوفرة.  وتعد السيرة الذاتية للطالب student cv اداة مهمة لمتابعة نموه الشخصي في الجوانب المضمنة في  الاستمارة.

- اختيار التخصص أم اختيار المجال المهني؟
إن طلابنا في المرحلة الثانوية، بحاجة إلى من يمنحهم رؤية أبعد مدى من مجرد (التخصص الجامعي)، ويمنحهم فرصة للتعرف على (المجالات المهنية) قبل اختيار التخصص. في استخدامنا لنموذج ASC نعمل على توجيه الطالب إلى التركيز على المجالات المهنية الملائمة لميولاته، ومن ثم اختباره في تحديد أي التخصصات أكثر صلة بها.

إن الدراسة الجامعية الاولى، ليست سوى إبحار عام في مجال مهني واسع، وتمليك لمفاتيح العلوم الأساسية في المجال المعني، مما يتطلب منح الطالب إتاحات اكبر في المراحل الدراسية والمعرفية التالية. وحسب تجربتنا في حقل التعليم فإن حاجة طالب الثانوية لرؤية وفكرة، أكثر من حاجته لتوجيه وإرشاد. في جلسة تدريبية مع طلبة جامعيين خلال فترة كورونا الأولى، طرحت سؤالا عن العناوين الرئيسية للأنشطة المهنية في المجتمع، لتأتي الإجابات مفاجئة حتى لأصحابها؛ فقد اكتشف كثير منهم أن تخصصاتهم الدراسية فروع متكاملة في "مجال مهني واحد". فما هي هذه العناوين المهنية الكبيرة دون اعتبار للترتيب؟ كان ملخص جلسة الحوار أن أنشطتنا المهنية تتلخص في:
1- التجارة
2- الصحة
3- التعليم
4- الانشاءات
5- الصناعة
6- الزراعة
7- التوجيه
8- الأمن
9- القضاء
10- الترفيه

عندما يكتشف الطالب ملكاته وميولاته المعرفية والمهنية في وقت مبكر، ويتعرف على طبيعة المجالات المهنية نفسها في ذات التوقيت، فإن عملية اختيار التخصص الجامعي ستصبح إجرائية، ولا تعدو كونها خطوة لتحصيل معرفي منتظم في مجال مهني تم اختياره مسبقا بناء على قدرات وملكات وميولات شخصية، من شأنها أن تقدم للمجال المعني هواة قادرين على العمل والإبداع والتطوير، لا سيما وقد أصبحت المؤسسات الناجحة أكثر ميلا للهواة والمبادرين وأصحاب الإنجازات الشخصية.
-----------------