لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي
قال الله تعالى﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ ٱلطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ ٱجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ٱدْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَٱعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [البقرة: 260].
ولا تزال قافلة الذود عن أنبياء الله تعالى ورسله مشرعة شرائعها، لتموج في الفلك سابحة بأمر ربها، متوكلة عليه، مستمدة عونه وتوفيقه، ذبا عن أؤلاء الركب الكرام عليهم الصلاة والسلام. وذودا عن أولاء رهط غر ميامين.
وإذ لما كان من شأن نبي الله تعالى إبراهيم عليه السلام ما كان من شأن رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، من اشتراكهما في فضل النبوة، ومن اتحادهما في شرف الرسالة، ومن تقلدهما وسام أولي العزم من الرسل، فقد كان طبيعيا أن يخوض قوم فيهما عن سوء قصد أو حسنه، لكن الأول أولى!
ومنه فقد تناولوا ذلكم الذي قال الله تعالى عنه من حيث سؤال نبي الله إبراهيم عليه السلام أن يريه ربه كيف يحي الموتى ، من أن ذلك شك منه عليه السلام في أمر ربه الرحمن سبحانه وقدرته !
وهو قول جد متهافت، كما أنه زعم حق متهاوٍ. ذلك لأنه يلاحظ من سياق النظم القرآني الكريم أن سؤاله عليه السلام ربه الرحمن سبحانه إنما كان بعد واقعة نقاشه المحتدم مع نمرود في إثبات وحدانيته تعالى من واقعة الإحياء بعد الإماتة، وذلك أن إحياء الله تعالى إنما يكون برد الروح إلى بدنها. وكان من محاجة نمرود أنه قال: فهل عاينته؟ فلم يقدر أن يقول نعم.
ومنه فلعل سؤاله ربه كيما يستطيع مواجهة النمرود في شبهته. وعليه فليس ينطوي ذلكم عن شك وحاشاه، وإنما يحمل على سؤال واستفسار عما يمكنه به مواجهة خصوم دعوته. وذلك لأن نمرود كان قد واجهه بسؤال فيه حنق وجهل ينم عن طبيعة المستكبرين المعاندين، يوم أن قال له بعناد المستكبرين وجفاء المعاندين : قل لربك حتى يحيي، وإلا قتلتك، فسأل الله تعالى ذلك.
ثم إن نبي الله إبراهيم عليه السلام ﴿ قَالَ ﴾ لما رأى جيفة حمار مطروحة على شط البحر، فإذا مدّ البحر(1) أكل دواب البحر منها، وإذا جزر البحر(2) جاءت السباع فأكلت، وإذا ذهبت جاءت الطيور فأكلت وطارت ﴿ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ ﴾ أي كيف تجمع أجزاء الحيوان من بطون السباع والطيور ودواب البحر، أو لما ناظر نمرود حين قال: ربي الذي يحيي ويميت، وقال الملعون: أنا أحيي وأميت وأطلق محبوسًا وأقتل رجلاً. (3)
"وإذا تأملت سؤاله عليه السلام وسائر ألفاظ الآية لم تعط شكا، وذلك أن الاستفهام بـ "كيف" إنما هو عن حال شيء موجود متقرر الوجود عند السائل والمسؤول - نحو قولك: كيف علم زيد؟ وكيف نسج الثوب؟ ونحو هذا - ومتى قلت: كيف ثوبك؟ وكيف زيد؟ فإنما السؤال عن حال من أحواله، وقد تكون "كيف" خبرا عن شيء شأنه أن يستفهم عنه بكيف نحو قولك: كيف شئت فكن، ونحو قول البخاري: كيف كان بدء الوحي" (4).
على أن قولا سائغا مؤداه أن طمأنينة قلب نبي الله تعالى إبراهيم صلى الله عليه وسلم إنما كانت من أجل أن يخلد إلى أنه خليل الله تعالى مطمئنا. كما قال سعيد بن جبير: "لما اتخذ الله تعالى إبراهيم خليلا سأل ملك الموت ربه أن يأذن له فيبشر إبراهيم بذلك فأذن له فأتى إبراهيم ولم يكن في الدار فدخل داره وكان إبراهيم عليه السلام أغير الناس إذا خرج أغلق بابه فلما جاء وجد في داره رجلا فثار عليه ليأخذه وقال له : من أذن لك أن تدخل داري؟ فقال : أذن لي رب هذه الدار فقال إبراهيم : صدقت وعرف أنه ملك فقال : من أنت؟ قال : أنا ملك الموت جئت أبشرك بأن الله تعالى قد اتخذك خليلا فحمد الله عز وجل وقال : فما علامة ذلك؟ قال : أن يجيب الله دعاءك ويحيي الله الموتى بسؤالك فحينئذ قال إبراهيم : ( رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ) أنك اتخذتني خليلا وتجيبني إذا دعوتك" (5).
على أن عبدا قد تعاظمت لديه مقامات عبوديته لربه ومولاه الرحمن سبحانه، حتى صار من إلفه أنه عبد لمولاه يشمله الصدق ويعمه، ويحيطه اليقين والقبول ويغمره، ويكتنفه الإخلاص والانقياد ويسيجه، أقول : إن ذلكم لموجب لأن يأخذه ظنه الحسن بربه، أن يقوده إلى سؤاله كما ورد في حق نبيه تعالى إبراهيم صلى الله عليه وسلم، ولما تسامقت عبوديته، وفي خضوع عبد لربه وبارئه، وفي خشوع قانت لمبدعه وخالقه .
و"قال ابن عباس وسعيد بن جبير والسدي رضي الله عنهم: أن الله تعالى أوحى إليه إني متخذ بشرا خليلا: فاستعظم ذلك إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وقال إلهي ما علامات ذلك؟ فقال: علامته أنه يحيي الميت بدعائه، فلما عظم مقام إبراهيم عليه السلام في درجات العبودية وأداء الرسالة، خطر بباله: إني لعلي أن أكون ذلك الخليل، فسأل إحياء الميت فقال الله ﴿ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾ على أنني خليل لك"(6).
فتعاظُمُ مقامِ عُبَيْدٍ بعبوديته لمولاه سبحانه موجب من موجبات محبته، وطريق من طرق إجابته، ومنه كان استناد إبراهيم عليه السلام لما أيقن من ذات قلبه التجاء إلى الله تعالى وحده. وهذه حيثية قمنة بالمدارسة والحفظ والمعالجة، إذ لما كان العبد حافظا لربه تعالى، فمنه كان الرب الرحيم حافظا لعبد ذاك شأنه مع ربه الرحمن سبحانه.
وسؤال نبي الله تعالى إبراهيم عليه السلام لم يكن شكًّا بل من قبيل "زيادة العلم بالعيان، فإن العيان يفيد من المعرفة والطمأنينة ما لا يفيده الاستدلال"(7). و"العلم الاستدلالي مما يتطرق إليه الشبهات والشكوك فطلب علما ضروريا يستقر القلب معه استقرارا لا يتخالجه شيء"(8).
واطمئنان قلب لا يكون إلا بعلم يقني وعينه معه. ولذا جاء التعبير القرآني البليغ بقوله سبحانه﴿ لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾ بإقامة الدليل، منعا للاضطراب.
وزيادة اطمئنان قلب يحققها تظاهر الأدلة وتكاثرها وتضافرها، سكونا بها وتصديقا لها ويقينا معها. وهذا أمر مشاهد حسا، كما أنه ليس يخرج عن ذلك حتى أنبياؤه تعالى عليهم الصلاة والسلام, اتساقا مع بشريتهم التي ما انفكت كانت سنته تعالى فيهم، أن يكونوا بشرا مثلنا. وبالتالي فليس ينعى عليهم ما قد يحصل منهم من مقتضى هذه البشرية الإيجابية! "وذلك أن النفوس مستشرفة إلى رؤية ما أخبرت به ، ولهذا قال النبي عليه السلام : «ليس الخبر كالمعاينة» ، وأما قول النبي عليه السلام نحن أحق بالشك من إبراهيم فمعناه : أنه لو كان شك لكنا نحن أحق به ونحن لا نشك ، فإبراهيم عليه السلام أحرى أن لا يشك ، فالحديث مبني على نفي الشك عن إبراهيم. والذي روي فيه عن النبي عليه السلام أنه قال : ذلك محض الإيمان إنما هو في الخواطر الجارية التي لا تثبت ، وأما الشك فهو توقف بين أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر"(9).
وإيمان عبد بربه كان من موجبه تصديقه واستجابته، وكان من سببه قبوله وموافقته، وأضحى من ثماره تلبيته وإجابته، وإن كان ذاك في عبد من عوام العبيد، فذاك أولى إذا كان في حق خواصهم، ومن أخص خواصهم ذلكم العبد الأمة القانت لله حنيفا له تعالى، كما قال سبحانه ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾[النحل:120]. وكما قال ابن عطية رحمه الله تعالى: "فالشك يبعد على من ثبتت قدمه في الإيمان فقط ، فكيف بمرتبة النبوءة والخلة ، والأنبياء معصومون من الكبائر ومن الصغائر التي فيها رذيلة إجماعا"(10).
هذا؛ وإنه لمركوز في الفطر أن الإنسان قد يطلب ما يكون سببا في انتقاله من علم يقينه إلى عينه. وهو قانون أودعه الله تعالى سبحانه في سائر من خلق من بشر، ولا يمكن أن يستثنى منه أحد، ولو كان رسولا نبيا ، كيما يكون هنالك ذلكم التناغم مع جنس الإنسان وما قد جبله ربه تعالى عليه، وهو ليس عيبا به يعاب، كما أنه ليس نقصا فيه يشينه، بل إنه مزية يمكن من خلالها طبع على المجاهدة، وتعويد على الوصول إلى درجات اليقين، التي يكون من موجبها تيسير مسألة الانقياد، وإسلاس القياد لله تعالى ربنا الرحمن سبحانه من ثم.
وسؤال نبي الله تعالى إبراهيم صلى الله عليه وسلم ﴿ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ ﴾ هو استفهام تقريري وحسبه. ولو أنه كان استفهاما حقيقيا لكان قد حمل تبكيتا رأينا أثره في السياق، وهو ما خلا عنه نظم القرآن الكريم ههنا، وذلك كيما يكون متوافقا منسجما مع قوله الله تعالى ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام:124 ].فهم أنبياء، وأخلاقهم سامقة، ويقدرون الله تعالى ربهم حق قدره. وهم المصطفون الأخيار، كما قال تعالى ﴿وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ﴾ [ص:47].
ذلك وأنه من كمال أدبه عليه السلام دعاؤه ربه بلفظ الربوبية الحاني، تعبيرا عن مطلق العبودية لربه الرحمن سبحانه، وهو ما يتفق والقول بأنه عبد موقن، ولم تتسرب إليه هنة من شك، أو عِلَّة من ريب، فإن الاعتراف للرب سبحانه بربوبيته وألوهيته ينعدم معه أدنى ريب فيما يقدره في كونه سبحانه، وهذه كلية جديرة بالوقوف أمامها إيمانا بها ويقينا واعتقادا جازما.
وسؤاله تعالى عبده ونبيه إبراهيم عليه السلام بقوله سبحانه﴿ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ ﴾ مع علمه سبحانه بما قد ثبت في قلبه عليه السلام من يقين وإيمان تامين تامين، هو من باب أن يفيد قارئا للحوار، أو مستمعا للتنزيل الحكيم، والذكر المبين. كيما يكون سنة متبعة وطريقا حسنا لآداب الحوار من جانب لصحته، وجوازه بين الأعلى والأدنى من جانب آخر لقيمته، أو لجوازه بين متجادلين بالحسنى، في إثراء إدلاء كل بحجته، رفعة للمجتمع المسلم وعزته .
ذلك؛ وفرق بين من يتلقى القرآن العظيم وهو إذ به مؤمن منقاد راض سلس القياد، وبين آخر وإذ به غير ذي إلف مع الكتاب المجيد، ليحرم نوره ويستر عنه هداه.
وانظر إلى طريقة التلقي عن الله تعالى، وكيف كانوا يمازجون بين إيمانهم ويقينهم، وبين كيفية تصريف المعاني الخالدة الرفيعة لطريقة تلقيهم كلام ربهم الرحمن سبحانه! كما قال عبد الرزاق : "أخبرنا معمر ، عن أيوب في قوله : ﴿ وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾ قال : قال ابن عباس : ما في القرآن آية أرجى عندي منها . فرضي من إبراهيم قوله : ﴿ بَلَى ﴾ قال : فهذا لما يعترض في النفوس ويوسوس به الشيطان"(11).
فذهبوا إلى هناك، وما أدراك ما هناك ! إنه ذلكم التأطير لكلام الله تعالى على وجهه الحسن حتى جعلوا منها مادة إلى قولهم: إن أرجى آية هي قوله تعالى ﴿أَوَلَمْ تُؤْمِن﴾، أي: إن الإيمان كاف لا يحتاج معه إلى تنقير وبحث"(12). كما أن قوله تعالى ذلكم ﴿أَوَلَمْ تُؤْمِن﴾، ودون عقاب، أو حتى عتاب، عند سؤاله ربه كيف يحي الموتى، دال أيما دلالة على مقتضى قوله تعالى ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم﴾ُ [الزمر:53].
- [المحرّر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز - أبي محمّد عبدالحقّ بن غالب بن عطيّة الأندلسي: ج ١/ 353].
- [تفسير القرآن العظيم - الحافظ أبي الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي : ج1/690].
- [تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن)، أبي عبد الله محمد بن أحمد/الأنصاري القرطبي: ج2/194].