نقض رواية للفاكهي عن سيرة النبي

وإنما قلت : رواية (واحدة) ؛ كيما أكون محددا مرماي، وكيما أكون مصوبا هدفي، فلست أروح بقاريء كريم هنا أوهناك، بعيدا عن مقصود قصدته، أو قاصيا عن مراد أردته.

وعلى اعتبار أن سيرة نبينا محمد ﷺ تدخل في جانب القصص والتاريخ، فقد دخل فيها ما أصيبت به القصص، وقد أصابها من مثل ما عيب به التاريخ، ذلك أن أنباء  تروى، وقد تكون صحيحة من أساس، وذلك أن أخبارا تحكى، وهي ضعيفة من أصل بابها، وذلك أن ثالثتها قد تنسج من خيال، ومسدد هذا الذي مَنَّ الله تعالى عليه بكشفها، وموفق ذاك الذي أكرمه ربه ببيانها.

وسيرة نبينا محمد ﷺ تكاد لا تخرج عن ذلكم سنن، بل إن نصيبها من ذلكم كان أكثر، وبل إن بعض أحداثها من باب أولى قد كانت محلا لقيل ليس صوابا، أو لخبر ليس ثابتا، لوضع قد ألم به، أو لضعف قد وقع به!

وإن قيل وما سبب؟

قلت: ذلك لأن أهل الكتاب والكفار والمشركين كل قد هاله من جانبه ما أوقع حدث الإسلام في ذات نفسه دويا، لم يجد حياله إلا طعنا في السيرة من أساس، كيما تضغف هيبتها في النفوس، وبالتالي يطال الأمر صاحبها محمدا ﷺ، ومنه ينال من دينه، كما قد نيل من سيرته، وهكذا دواليك حتى يتحقق لهم ما زعموه.

وهو أمر مشاهد في القديم وفي الحديث ، ذلك أن الآلة الإعلامية الجبارة التي يمتلكها مناهضو الحق لتفعل فعلها في العقول، كما لم تفعله سموم الدواب الزاحفة في الأبدان!  

لكن الله تعالى قد قيض لهذا الدين أهله، رعاة دعاة حفظة صادقين، يأخذون كل حدث بحقه درسا وفحصا وتنقيبا، عن مدى صحة وروده سندا من جانب، وهو ما أسموه علم الدراية (1) ، وعن مدى صوابه، ودقة متنه من جانب ثان، وعن حقيقة معناه من جانب ثالث، وهو الذي عنوه بعلم الرواية(2).  

غير أنه ورغم ذلك كله، ما زالت الجهود متواصلة دؤوبة بحثا عن مثل ذلكم لقبوله، إن وافى حقا، أو لإبطاله إن واجه باطلا.

والأمر هذه المرة متعلق برسول الله محمد ﷺ، وأيضا رأيته متعلقا بزوجه الطاهرة القانتة خديجة رضي الله تعالى عنها، وهي إذ كانت تمثل عضدا حاميا متينا قويا، وحائطا عزيزا حصينا منيعا له ﷺ ، وبالتالي فقد كان النيل منها له مبرراته، إذ لما كان هذا شأنها، فريب يداخل نفوسا أجهدها ضعفها، لوارد له أثره، ومنه أيضا يكون درسا قاسيا لزوجة أرادت أن تناصر زوجها، لتنال نصيبها المحتوم من الصد الداخلي، ومن الارتداد النفسي، كيما تترك زوجها في الميدان وحيدا بلا سند من ذات أسرته، وبالتالي يكون ناتج ذلكم، أو قل احتمالا، أن يصاب بفُتُور أو تَرَاخٍ أو كلل، أو أن يرهق بوهن  أو عَجْز أو ملل . وهو ما عوفي منه نبينا ورسولنا محمد ﷺ، قضاء من الله تعالى واختيارا منه واجتباءا.  

إذ لما كان الله تعالى هو الحفيظ ، ومنه فقد حفظ هذا الدين من انتحال الغالين وإبطال المبطلين، فاطمأن لذلكم فؤادي، واستروح بذلكم خاطري، إذ ﴿ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [ المجادلة:21].

لكنه واجبنا - كلنا -، ويكأنه فرض على كل قادر منا - جميعنا - أن يدفع بما مَنَّ به ربه الرحمن عليه من آلة غلبة وتفنيد، أو من مكنة تسْكيت وتفريد.  

وقد وقفت على خبر رواه الشيخ الفاكهي رحمه الله تعالى، وإذ لما وقعت عليه العينان أخذتا تمعن فيه نظرها مرات وكرات لتجد له مخرجا من سند رعاه، أو تأويلا من معنى قد حواه، ولما لم أجد لذلكم سبيلا، ولو من طرف خفي، ومنه فقد آثرت الكلام حوله مشاركة بجهد، هو أقل ما يجب حيال مسلم - أي مسلم - أحب الله تعالى، وأحب رسوله ﷺ، منافحا عن سيرته ،ومدافعا عن ملته.

النص:

قال الفاكهي رحمه الله تعالى: "عَن أنس رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عِنْد أبي طَالب فاستأذنه أَن يتَوَجَّه إِلَى خَدِيجَة فَأذن لَهُ وَبعث بعده جَارِيَة لَهُ يُقَال لَهَا نبعة فَقَالَ لَهَا انظري مَا تَقول لَهُ خَدِيجَة قَالَت نبعة فَرَأَيْت عجبا إِلَّا أَن سَمِعت بِهِ خَدِيجَة فَخرجت إِلَى الْبَاب فَأخذت بِيَدِهِ فضمتها إِلَى صدرها ونحرها ثمَّ قَالَت بِأبي وَأمي وَالله مَا أفعل هَذَا الشَّيْء، وَلَكِنِّي أَرْجُو أَن تكون أَنْت النَّبِي الَّذِي ستبعث، فَإِن تكن هُوَ فاعرف حَقي ومنزلتي، وادع الْإِلَه الَّذِي يَبْعَثك لي، فقال لها: "والله لئن كنت أنا هو لقد اصطنعت عندي ما لا أضيعه أبدًا، وإن يكن غيري فإن الإله الذي تصنعين هذا لأجله لا يضيعك أبدًا"(3).

وقفات حول النص:

هذا الخبر مضطرب. ذلك لأنه يغاير سيرة عطرة ذكرها التاريخ عن أم المؤمنين خديجة رضي الله تعالى عنها. وحيث "كانت تُدعَى في الجاهلية الطاهرة"(4).

هذا الاضطراب في النص، ومخالفته لما عهد عنها رضي الله تعالى عنها، فضلا عن أنه يصادم طهارة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم يجعلنا في يقين من أمره أنه ليس حقا، وإنه إلى عدم صوابه أدعى!  

ذلك وإنه ليس يعطي خبرا سند من صحة، أو تأييد من معنى، إذا كان مخالفا لما عرف عن زوج رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم الطاهرة أم المؤمنين خديجة رضي الله تعالى عنها، فضلا عن رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم من قبل ومن بعد، وليس يمنحه التصحيح وروده في مرجع أو كتاب، وحاله على ما وصف. 

ذكر حال الفاكهي:

أولاً: هذا النص قد تفرد به الفاكهي، فلم يخرجه أحدٌ غيره. أنبأك عنه أني بحثت وفتشت - وسعي -، فلم أجد له راويا غيره! حتى إن جل مصادر السيرة تكاد تكون خالية عنه، وهذه إضافة أخرى تعضد مذهبا لإبطال ذلكم خبرا، وبكل اطمئنان!

ثانيًا: الفاكهي هو محمد بن إسحاق الفاكهي، وهو "مجهول الحال"، فلم يذكره أحد من العلماء بجرح ولا تعديل. " فإن الفاكهي، وإن كان كالأزرقي في أنه لم يوثقه أحد من الـمتقدمين ولا ذكره، فقد أثنى عليه الفاسي في ترجمته من العقد الثمين ونزهه عن أن يكون مجروحًا. وفضل كتابه على كتاب الأزرقي تفضيلاً بالغًا، ومع هذا فالأخبار التي يتفقان في الجملة على روايتها نجد الفاسي، ومن قبله الـمحب الطبري يعنيان غالبًا بنقل رواية الأزرقي، ويسكتان عن رواية الفاكهي، أو يشيران إليها إشارة فقط"(5).

ثالثا: إنه من المستورين عند الشيخ الألباني رحمه الله تعالى إذ «ولم نجد له ترجمة مع كثرة البحث في شيء من المصادر المعروفة المطبوعة والمخطوطة إلا قول السمعاني ، وإلا قول كاتب النسخة الأولى الآتية ؛ فإنه قال في أول الكتاب بعد البسملة : قال الحافظ المتقن أبو الوليد الأزرقي رحمه الله ؛ لكني لم أعرف منزلة الكاتب في العلم حتى يوثق بتوثيقه ، لا سيما مع عدم ورود مثله في شيء من كتب أهل العلم ، ولذلك فإني أعتبر المؤلف في حكم المستورين عند المحدثين الذين يستأنس بحديثهم ولا يحتج به »(6).

وهذا هو خبره كما عند الذهبي رحمه الله تعالى "الفَاكِهِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللهِ بنُ مُحَمَّدِ بنِ العَبَّاسِ الإِمَامُ، أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللهِ بنُ مُحَمَّدِ بنِ العَبَّاسِ المكِّيُّ، الفَاكِهِيُّ. سَمِعَ: أَبا يَحْيَى بنَ أَبِي مَسَرَّةَ، فَكَانَ آخِرَ مَنْ حَدَّثَ عَنْهُ. رَوَى عَنْهُ: الحَاكِمُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عُمَرَ بنِ النَّحَّاسِ، وَمُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ بنِ الحَسَنِ البَزَّازُ شَيْخٌ لِلْبَيْهَقِيِّ، وَأَبُو القَاسِمِ بنُ بِشْرَانَ، وَآخَرُوْنَ. وَلَهُ تَصَانِيْفُ فِي أَخْبَارِ مَكَّةَ. تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَلاَثٍ وَخَمْسِيْنَ أَيْضاً"(7). 

فلست تروم منها جرحا له أو تعديلا. وإنما غايته وقصاراه أن يكون تعريفا به مقتضبا، ليس يعتبر قاعدة نبني عليها قبولا منه أو ردا.

ثالثًا: ومنه فإن هذ الخبر لا يصح؛ لجهالة حال الفاكهي رحمه الله تعالى، كما قد بدا لك.

فإن قيل: ولماذا نقض ما سبق؟!

وأقول إن النص الذي أمامنا فيه مآخذ شية وعيبة، وتتخلله مطاعن وصمة وأُبْنَة. ذلك لأن فيه خوضا في اثنين هما من أطهر ما عرف تاريخ الناس في عهده الضارب في القدم، وإلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها، وهما محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزوجه الطاهرة العفيفة خديجة بنت خويلد - رضي الله تعالى عنها -. أنبأك عنها رجوع لقراءته من جديد لتقف على ما حياء امريء منه ذكرا واقعا!

وبالتالي يجب – دينا – التعرض لذلك وبيانه وإبطاله، كيما لا تكون عاطفة جياشة حقها الانهيار عند أول صيد لها؛ وهيهات!  

لكن عجبا يتملك أحدنا وهو إذ يرى هذا النص موردا كثيرا من كتب السيرة! ويزداد ذلكم العجب حين تجد له نقلا دون تعليق! وكأنه مسلم بصحته، مع ما فيه مما سبق بيانه من خروج عن مألوف خلق حميد لنبينا صلى الله عليه وسلم ، وكذا ما يعتريه من مغايرة لسيرة  خديجة رضي الله تعالى.

بيد أن إشارة صاحب السيرة الحلبية، كانت أشد إيلاما، وأكثر إيضاحا، على نحو هذا نصه" وذكر الفاكهي عن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند أبي طالب فاستأذن أبا طالب في أن يتوجه إلى خديجة أي ولعله بعد أن طلبت منه صلى الله عليه وسلم الحضور إليها وذلك قبل أن يتزوجها فأذن له وبعث بعده جارية له يقال له نبعة فقال انظري ما تقول له خديجة فخرجت خلفه فلما جاء صلى الله عليه وسلم إلى خديجة أخذت بيده فضمتها إلى صدرها ونحرها ثم قالت بأبي أنت وأمي والله ما أفعل هذا الشيء ولكني أرجو أن تكون أنت النبي الذي سيبعث فإن تكن هو فاعرف حقي ومنزلتي وادع الإله الذي سيبعثك لي فقال لها والله لئن كنت أنا هو لقد اصطنعت عندي مالا أضيعه أبدا وإن يكن غيري فإن الإله الذي تصنعين هذا لأجله لا يضيعك أبدا فرجعت نبعة وأخبرت أبا طالب بذلك"[8].         

والأمر مفتوح على كل حال لبيان ربما قد غاب عني، أو لتأويل ربما قد سهوت عنه أيضا.

والله تعالى هو الهادي والموفق إلى سواء السبيل.

  • [1][علم دراية الحديث: هو علم يختص بدراسة بدراسة سند الحديث].
  • [2][علم رواية الحديث: هو علم يختص بدراسة متن الحديث نفسه أو نصه].
  • [3][أخبار مكة، الفاكهي، أبو عبد الله] بند (157) من (ملحق)، ص: ١٨٥].
  • [4][الاستيعاب، ابن عبد البر، جـ4/271].
  • [5][ تحقيق الـمقال في جواز تحويل الـمقام لضرورة توسعة الـمطاف بالبيت الحرام، عبد الله بن زيد آل محمود رحمه الله تعالى:61].
  • [6][المنتخب من مخطوطات الحديث بالظاهرية، ص 304/1075/805].
  • [7][ سير أعلام النبلاء، أبي عبد الله محمد بن أحمد/شمس الدين الذهبي‎:ج10/355].
  • [8][السيرة الحلبية، الحلبي: ج ١/٢٢٨].

  •  
  •  
  •  
  •