دلائل مما لخديجة من فضائل
(فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الخَبَرَ : لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي فَقَالَتْ خَدِيجَةُ : كَلَّا وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا ، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ )[1].
هذا مقطع جليل قدره رفيع شأنه من حديث صحيح رواه الإمام البخاري رحمه الله تعالى، ييبن منه فضل عظيم لأم المؤمنين خديجة رضي الله تعالى، كيما يكون سمة لامرأة مسلمة كانت عونا لزوجها في مجابهة أخطار الدعوة إبان نشأتها، وفي سائر أطوارها، وعلى كل حال من مراحلها، ولما كان رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم يكابد ويصبر ويصابر حين واجه وحده مجتمعا مشركا بأسره! وهو ما يؤكد حاجة الأمة المسلمة إلى زوجات شأنهن أمهن خديجة بنت خويلد زوج نبينا محمد صلى الله عليه وسلم رضي الله تعالى عنها، صبرا واحتسابا وعونا ودعوة إلى الحق وبه يعدلون. وهو ما يوجب أيضا بنذر آحاد من قوم آخرين أنفسهم دعاة إلى الحق وبه يعدلون أيضاً، كما هو الشأن في رسولهم محمد صلى الله عليه وسلم، حين واجة وحده الناس بأسرهم.
ذلك وإنه ولو لم يكن من فضل هذه الأم الزوجة الطاهرة الحكيمة إلا قولها( كَلَّا وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا ، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ) لكفى! وإذ إنها لتأخذ بيد زوجها النبي المؤيد بتأييد ربه الرحمن سبحانه، وبما كان سببا منه تعالى اصطفاء وانتخابا لأولاء عصبة كانت يدا على يده، وقوة مع قوته، نصرة للدين، ورفعا لشأن الملة الجديدة، وهو إذ يجابه مجتمعا ضاريا ضاربا، كان من لزومه أم حانية، وزوجة مسددة، لتكون ذراع خير، ومعين عون، وسند قوة، لهذا النبي الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ، وأقول مرة أخرى: إنه لو لم يكن من قولها إلا ما جاء في متن حديثنا موضوع شرف الكلام حوله لكفى!
بيد أن ذلكم هو قولها، وإن له لنصيبا كبيرا في الحقل الإسلامي الواسع الممتد الفسيح، وبيد أن هذا هو زوجها، وهو رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم الذي كان من شأن دعوته أن تبدأ بما بدأ الله تعالى به، ومن حيث قال سبحانه﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾[الأنبياء:25]. ليأتلف البر والإحسان مع تعليم الناس عقيدتهم وتصفية توحيدهم لربهم من شائبة شرك أو هوى نفس. وهو صلى الله عليه وسلم إذ حفلت صحائفه بأقواله، وهو إذ حظيت حياته بأفعاله، برا غير منقطع، وإحسانا موصولا.
وأقول هذا لمناسبة أن بررة كراما، لا ينقصهم نبل في قصدهم، ولا يفوتهم صدق في عملهم، إلا أنهم غارقون في أعمال البر، استنادا إلى قول أم المؤمنين سالف الذكر، ومستظلين بظله، وغيره معه، وهو عمل ولا شك محمود مأجور فاعله، وإنه لمن أعظم القربات عند الله تعالى، إلا أنه يجب أن نحذر من ولوج البيت من غير بابه، فيكون ضرر فعلنا بهم أكثر من نفعه لهم. وإن أولاء الذين تقدم لهم أعمال البر لهم في حاجة أسمى من برنا لهم، وإنهم لفي مسيس الاحتياج إلى أن نقف بهم على طريق العقيدة والتوحيد، لنصفي أفئدتهم من كل ميل إلا ميلا واحدا، هو ميل قلوبهم كله إلى مولاهم الحق سبحانه، ونكون حينئذ قد جنينا آثار الحسنيين، حسنى تعليمهم العقيدة والتوحيد، وحسنى برهم وصلتهم. أما أن نتركهم فريسة جهلهم بدينهم، فلربما قد سئلنا عنهم أكثر من برنا بهم، فأجمل البر أن نعلمهم بربهم الحق سبحانه، جنبا إلى جنب مع بر بهم مَشْكُور، وإحسان لهم متقبل مأجور.
وإذ كان من أثر لقولها هو خروج قلب كبير يحمل الخير للناس، وإذ كان من خبره تحقق نبوءتها، إذ حقا ما أخزاه ربه، وهو إذ يقينا ما خذله مولاه، وهو إذ لم يصبه ضعف ولا هوان، وهو إذ لم يتسرب إلى نفسه الزكية خور ولا خوف ، ولو لحظة واحدة، مما يمكن قياسه بمقاييس الزمن، وهو إذ كان من ثمره أيضا خروج نبي مستكين الوجدان، رضية حياته، مطمئنا قلبه، منشرحا صدره، بذكر ربه، ودعوة الناس إلى الله مولاهم الحق، وهو إذ ينجلي به غبار الضنك عن فؤاده، ولما أن قام بدعوته، على وجهها الذي قد أمر به، وعلى سبيلها الذي قد توجه لسلوكه. ولما كان من شأن ربه معه ﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى﴾ [الضحى:3- 8].
ومرحلة التكوين والإعداد لهي أخطر مراحل الدعوات، ولهي أعظم أطوار النبوات. وخاصة أن ذلك الدور كان في مهد قيام الدعوة إلى الدين الجديد، وهو ذلك الوقت الأول لتحمل أعباء هذه الرسالة الكريمة، وكان من شأنها ذلكم الدوي الذي حصل في مكة وجزيرة العرب آنذاك، تفاعلا مع هذا الحدث الأعظم في تاريخها الطويل، وكان منه ضرورة أن يكون هناك وزراء صدق، يقومون بتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم، والذب عنه، والدفاع عن شخصه ودينه، وكذا عن بيضة الدين الجديد الذي جاء به من عند ربه الرحمن سبحانه، وذلك بمواجهة ما قد عاناه أول ماعاناه من أهله وعشيرته وقومه! أولئك الذين كان يفترض فيهم أن يكونوا أول مناصريه، وأن يتقدموا هم الصفوف الأولى في معركة حمي وطيسها بين الإيمان والكفر آنذاك.
وكانت أم المؤمنين خديجة رضي الله تعالى عنها زوج نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وزيرة صدق بصدق، ومن حيث قيامها بأعظم دور وأجله، وخاصة أنه كان في مرحلة الإعداد الأسمى لقيادة قافلة الدعاة إلى الله تعالى، كما أشرت آنفا.
وكان من كل ذلك أن نالت الوسام ، وتقلدت النيشان، وكان من إثر ذلك أنها قد تبوأت خير مقام، إن في داخل أسرتها، وإن من زوجها الرسول المصطفى والنبي المجتبى صلى الله عليه وسلم، وإن على مستوى الأمة كلها وبأسرها، وذلكم وفاء بحقها، وذلكم قياما بقِسْطها، ولما قد تمايزت به من يقينها، ولما قد تبوأت بها من صدقها، وهو أمر جدير بالرعاء، كما أنه شأن قمن بالإكلاء.
ولهذا فقد توجت نوط الصدق الجميل، من الله تعالى الكبير الجليل، ومنه فقد كان استحقاقها رضى الله عنها تحية وسلاما من الله تعالى العلى الأكرم، كما في البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله : هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام ، أو طعام أو شراب ، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ، ولا نصب[2].
وما ظنك بامرأة جاءها السلام من ربها السلام، ومن جبريل عليه السلام؟! إذ لم يذكر التاريخ نصا بهذا أو قريبا منه لامرأة على مداره طولا وعرضا، فدل على ذلكم تميز تفردت به، كما دل على ذلكم خصوص قد اختصت به، وإذ كان من شأنها أنها امرأة مشهود لها بكل حسن فضيل من الشيم، وبكل كريم من جميل القيم. حتى كان من موجب ذلك أمره تعالى لجبريل عليه السلام أن يبلغها بما قال سبحانه: وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب [3].
ومن فقه الحديث خدمة الزوجة زوجها، والقيام على شؤون بيتها، جنبا إلى جنب مع رسالتها الخالدة الأصل الأساس من دعوة إلى الإسلام، وفقه الإيمان، وعمل الإحسان، إلا أنه يزداد فقها، ويتأصل علما، ولما كانت تكبره عمرا وسنا، لكنها الزوجة، وهذه من وظائفها على أية حال كان أمرها عند زوجها.
بيد أن لطيفة وقفوا عليها استنباطا من كون بيتها المبشرة به في الجنة موصوفا بكونه بيتا، في الجنة، من قصب، لا صخب فيه، ولا نصب، على ما قال السهيلي لنفي هاتين الصفتين[4] حكمة لطيفة فقال(لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما دعا إلى الإيمان أجابت خديجة -رضي الله عنها- طوعًا فلم تحوجه إلى رفع الصوت من غير منازعة ولا تعب، بل أزالت عنه كل تعب، وآنسته من كل وحشة، وهوّنت عليه كل عسير، فناسب أن يكون منزلها الذي بشرها به ربها بالصفة المقابلة لفعلها وصورة حالها - رضي الله عنها، ومن خواصها - رضي الله عنها- أنها لم تسؤه قط ولم تغاضبه)[5].
ذلك وأنه صلى الله عليه وسلم قد قوبل بما لم يقابل به أحد، وأنه صلى الله عليه وسلم قد أوذي، ولم يؤذ مثله صلى الله عليه وسلم أحد، وقد حورب صلى الله عليه وسلم ولم يحارب مثله أحد، كما قال صلى الله عليه وسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنهما:( لقَد أوذيتُ في اللَّهِ وما يؤذي أحَدٌ ، ولقد أُخِفتُ في اللَّهِ وما يُخافُ أحدٌ ، ولقد أتَت عليَّ ثالِثةٌ وما لي ولِبلالٍ طعامٌ يأكلُهُ ذو كبِدٍ ، إلَّا ما وارى إبِطُ بلالٍ )[6].
وكل ذلك كان من موجبه حاجته إلى أنسه، وبذل الوسع في الذب عنه وحمايته، وإذ كانت خديجة وعمه، وثلة من كان حوله، هم أولاء المسخرون للقيام بواجب القيام عليه، وتقديم كل عون ممكن إليه، وكل ذلك مما يوجب محبته صلى الله عليه وسلم أكثر فوق محبته، وكل ذلك مما يشي باتخاذه صلى الله عليه وسلم مثالا للبذل والعطاء والتفاني في سبيل دعوة، هي أحق ما يقال فيها إنها دعوة الله تعالى ربنا الرحمن سبحانه، وكل بذل في سبيله تعالى فوق أنه واجب شرعي، وتكليف رباني، إلا أنه في ذات الوقت لشرف انتمائي.
ومن قبل كل شيء ومن بعده حَسُنَ القول بأن الانتساب لرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم هو غاية الشرف والمجد، مهما قام أحدنا بواجبه تجاهه مشكورا، ومنه شرفها لانتسابها إليه ومنه سؤددها لانتمائها إليه - صلى الله عليه وسلم -.
[1][صحيح البخاري، بدء الوحي، كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حديث رقم: 3].
[2][صحيح البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة وفضلها رضي الله عنها، حديث رقم:3644].
[3][المرجع السابق].
[4] الصفتان هما(لا صخب فيه، ولا نصب).
[5][السراج الوهاج في كشف مطالب مسلم بن الحجاج، شرح مختصر صحيح مسلم، للحافظ أبي الطيب محمد صديق بن حسن/القنوجي البخاري:ج7/149].
[6][ صحيح المسند، الوادعي: الصفحة أو الرقم: 80].