فصبرٌ جميلٌ

وكفى به صبرًا تشريفًا وأهمية اشتقاقه من مادته صبرًا مرًّا حَنْظَلًا علقمًا؛ وإذ به دلَّ على علوِّ منزلة، وإذ به دل على سموِّ مقامٍ.

وتجرُّعُ صبرٍ مرٍّ حنظلٍ علقمٍ لدفعِ أذًى لَهُوَ من شارات الهِمم العالية، كما أن تناوُلَ صبرٍ مرٍّ حنظل علقم لتحصيل نفع إبراءً من سقمٍ لَهو أيضًا من مقتضيات العقل السليم والنهج الرشيد، وهو ما يوافق أصله؛ لأن الصَّبِرَ هو عصارةُ شجرٍ مرٍّ، فيها مذاقةُ حنظلٍ.

وهو قرين الإكراه والإلزام، وهو نقيض الجَزَعِ، وهو حبسُ النفس عند الجزع، وفيه معنى الإيثاق والربط، والصبر: الجراءة؛ ومنه قوله تعالى: ﴿ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ﴾ [البقرة: 175]؛ أي: ما أجرأهم على أعمال أهل النار، وكلُّها معانٍ توافق شدته، كما أنها تناسب غلظته، ومنه فكان الصبر أمرًا عظيمًا.

ويأتي بمعنى الحِلْم على عكسه من معناه؛ كما في حديث الإمام مسلم رحمه الله تعالى عن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا أحدَ أصبرُ على أذًى يسمعه من الله عز وجل؛ إنه يُشرَك به، ويُجعل له الولد، ثم هو يعافيهم ويرزقهم))، حدثنا محمد بن عبدالله بن نمير، وأبو سعيد الأشج، قالا: حدثنا وكيع، حدثنا الأعمش، حدثنا سعيد بن جبير، عن أبي عبدالرحمن السلمي، عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله، إلا قوله: ((ويجعل له الولد))، فإنه لم يذكره[1].

وفيه معنى الحبس؛ فشهر الصبر هو شهر رمضان، وهو شهر الصوم؛ وكما في حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((صوم شهر الصبر وصوم ثلاثة أيام من كل شهر صومُ الدهر))[2].

وإنما سمِّيَ الصوم صبرًا؛ لِما فيه من حبس النفس عن الطعام والشراب والنكاح، وهو حبس عن شكوى، وهو كفٌّ عن سخط، كما أنه رضًا بمقدور الرحيم الغفور.

وفيه معنى الشدة والغلظة؛ فالصُّبْرَةُ هي الحجارة الغليظة المجتمعة.

وهو من خير ما يستعان به - بإذن مولانا الله تعالى - على قضاء الحاجات العاليات، والخروج من القضايا العظيمات المُدْلَهِمَّات؛ ولذا فقد كان من شأنه أن أمر الله به كله، وبالصلاة كلها؛ لتحصيل الفضائل والخيرات، وللنجاة من الموبقات والمهلكات؛ كما قال تعالى: ﴿ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ﴾ [البقرة: 45].

وهو الصبر على الطاعات بإتيانها، وهو الصبر على المعاصي باجتنابها، وهو الصبر على أقداره تعالى إيمانًا ورضًا بها، وكان منه بذلك حبس النفس عن نزواتها ورغباتها وأمنياتها، وإذ كان به خَطْمُها عن أهوائها ولذَّاتها وشهواتها.

رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الصبر في ثلاث: الصبر عن تزكية النفس، والصبر عن شكوى المصيبة، والصبر على الرضا بقضاء الله خيره وشره))[3].

وقال الإمام الحبر الترجمان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: "الصبر في القرآن على ثلاثة أوجه: صبر على أداء الفرائض، وصبر عن محارم الله، وصبر في المصيبة عند الصدمة الأولى"[4]؛ ومن ثَمَّ وبه تُنال أعلى الدرجات السامية، ومن ثَمَّ وبه تُمنح أسمى المنازل العالية.

وقال عبدالرزاق: "قال الثوري عن بعض أصحابه أنه قال: ثلاث من الصبر: ألَّا تُحدِّثَ بوجعك، ولا بمصيبتك، ولا تزكيَ نفسك"[5].

ومن مَنْدُوحته أنه موجِبُ إمدادِ ربنا الرحمن لعباده لما صبروا، ولما اتقَوا؛ ومنه قوله تعالى: ﴿ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ ﴾ [آل عمران: 125].

ومن مندوحته أنه وقاية من التنازع، كما أنه حصن من الفشل، وأنه حافظ لقيمة المجتمع المسلم وهَيْبَتِهِ، وأنه من ثَمَّ مُوجِب معية الله تعالى للصابرين؛ كما قال تعالى: ﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 46]، ومن ثَمَّ وبه فأمنٌ تامٌّ غير منقوص لمَن كانت معية مولاه له شرفًا وسؤددًا ووسامًا، ومن ثَمَّ وبه فلا يلحقه بَوَارٌ، ومن ثَمَّ وبه فلا يكتنفه عُوَارٌ.

ومن مندوحته أنه موجب تحقيق الفلاح، حيثما وُجِدت سبلُهُ، وأينما كانت موارده؛ كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 200].

وإن لم تكن من مندوحة صبر إلا أجر بغير حساب، لكفى، بل إيفاء، وهو معنى أكملُ من الجزاء، وهو عطاءٌ أوفرُ حظًّا من الحق المستحق؛ ليدُلَّكَ على عظيم فَيْضِ ربِّك، ولأقف بك على عظيم مِنَحِهِ وهِباتِهِ، وجُودِهِ ومَنِّهِ، وكرمه ولطفه وإحسانه سبحانه.

قال الله تعالى: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10].

ومن مندوحته ثناؤه تعالى على أهله، ومن مثوبته أجرهم بأحسن مما كانوا يعملون؛ مكافأة منه تعالى وهبة ومنحة وجائزة؛ كما قال سبحانه: ﴿ مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 96]، وكان من شأن الصابرين أن مدحهم ربهم؛ وذلك إمعانًا في التنويه بهم؛ لشرفِ فعلٍ قد تدثَّروه، حتى صار وكأنه دِثارهم الذي به يستترون، وحتى أضحى وكأنه لِباسهم الذي به يتزيَّنون، فكان منه إذًا جزاؤهم؛ وذلك تأكيدًا لكريم فعلهم، واهتمامًا بجميل صنيعهم.

ومن مندوحته أنه قرينُ توكُّلِ عبدٍ على ربِّه، كما أنه قرين اهتداءٍ إلى صراط الله تعالى المستقيم؛ كما قال سبحانه: ﴿ وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ﴾ [إبراهيم: 12].

ومن كريم ثمره فوزٌ بمكاسبَ هي أعزُّها، وبكل معنًى يمكن تصوره من مكاسب الناس وأعلاها، ومن جميل ثمره مجانبة الخَسَارِ لأي معنى يمكن تخيله من ذلكم الخسار؛ كما قال تعالى: ﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ [العصر: 1 - 3].

ولأنه عزيز فقد عزَّ عزمٌ عليه، إلا من فُتح له منه بابه، وإلا من وُفِّق إلى جزيل حظِّه وفضله، فوفَّاه ربه أجره وحسابه، وأجزل له به عطاءه وثوابه.

وركن تمامه أن يقع من العبد تعبُّدًا وإيمانًا، وشرط كماله أن يكون منه احتسابًا؛ لِما روى شهر بن حوشب الأشعري عن أبي أمامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أقل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر، ومن أُعطي حظه منهما، لم يبالِ ما فاته من قيام الليل وصيام النهار، ولأن تصبروا على مثل ما أنتم عليه أحبُّ إليَّ من أن يوافيَني كلُّ امرئ منكم بمثل عمل جميعكم، ولكن أخاف أن تُفتحَ عليكم الدنيا بعدي، فيُنكر بعضكم بعضًا، ويُنكركم أهل السماء عند ذلك، فمن صبر واحتسب، ظفر بكمال ثوابه؛ ثم قرأ: ﴿ مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 96]))[6].

وإن من أشرف مراتبه حبسُ نفسٍ عن أغراضها؛ من إيقاع ضرر بمخلوق، أو هضم لقدره، أو نيل من حقه؛ كما قال تعالى: ﴿ وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾ [هود: 85].

وصبر على إعطاء أهل الحقوق حقوقَهم؛ دقَّت أو جلَّت الحقوق، قرُب أو بعُد أهل الحقوق.

ومن عزيمة صبرٍ أن تحتملَ أذًى من غير، وهو من ثَمَّ قرين الهدى، وقسيم التوكل على الله تعالى، ومن ثَمَّ وبه ينال شرفه عبدٌ، ومن ثَمَّ وبه يُمنح مسلمٌ وسامَهُ، وكان من شأن الصابرين أن مُدحوا، ومنه وبه فكان من وصفهم أن قد أثنى عليهم ربهم الرحمن سبحانه؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ﴾ [إبراهيم: 12].

وهو مقام من مقامات أولى النُّهى، وهو وصفٌ لمن تسامت بهم الأخلاق، وهو نعتٌ لمن تسامقت بهم القيم والمروءات.

وصبرٌ على غِنًى وعافية، فلا يستعان بهما - أحدهما أو كليهما - على ارتكاب إثم، أو مقارفة ذنب.

كما أن صبرًا على فقرٍ وسَقَمٍ أدعي وأوفر حظًّا؛ لأن صاحبه وهو إذ يصبر فلا تشكِّيَ ولا قنوطَ ولا تأفُّفَ ولا ضَجَرَ - فصبرُهُ في رضًا، وتصبُّره في احتساب ما ناله في سبيل ربه ومولاه.

ومنه كان الصبر على كلٍّ من السراء والضراء هو ذلك الامتحان الحقيقي في ساحة الابتلاءات الربانية والاختبارات الإلهية؛ ليخرج منها أحدهم صابرًا جَلْدًا فائزًا، أو ليخرج منها ضَجِرًا منكسرًا منهزمًا.

وكان من أمرهم أن عظَّموا شأن الاختبار بالسراء على أمر الاختبار بالضراء؛ كما قال أحدهم: "الصبر على العافية أشد من الصبر على البلاء، والصبر على الغِنى أشد من الصبر على الفقر".

وعن عبدالرحمن بن عوف قال: "ابتُلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالضراء فصبرنا، ثم ابتُلينا بعده بالسراء فلم نصبر"[7].

وصبرٌ في السراء هو الشكر، كما أن صبرًا في الضراء هو حبسُ نفسٍ عن امتعاض، أو ذَوْدُها عن اعتراض، وفي اجتماعهما خيرٌ لأولي النُّهى، وفي ائتلافهما فوزٌ لذوي الألباب؛ كما أخرج الإمام مسلم رحمه الله تعالى عن صهيب بن سنان الرومي رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((عجبًا لأمر المؤمن؛ إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراءُ شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراءُ، صبر فكان خيرًا له))[8].

وفي الصبر كفَّارةٌ للذنوب، وفي الصبر تكفيرٌ للخطيئات والسيئات؛ كما أخرج الإمام أبو داود رحمه الله تعالى عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني رجل من أهل الشام يُقال له: أبو منظور، عن عمه، قال: حدثني عمي، عن عامر الرام أخي الخضر، قال أبو داود، قال النفيلي: هو الخضر، ولكن كذا قال، قال: ((إني لببلادنا إذ رُفعت لنا رايات وألوية، فقلت: ما هذا؟ قالوا: هذا لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته، وهو تحت شجرة قد بُسط له كساء، وهو جالس عليه، وقد اجتمع إليه أصحابه، فجلست إليهم، فذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسقام، فقال: إن المؤمن إذا أصابه السقم، ثم أعفاه الله منه، كان كفارةً لما مضى من ذنوبه، وموعظةً له فيما يُستقبل، وإن المنافق إذا مرِضَ ثم أُعفي، كان كالبعير، عَقَلَهُ أهلُهُ، ثم أرسلوه، فلم يَدْرِ لمَ عَقَلُوه، ولمْ يَدْرِ لمَ أرسلوه، فقال رجل ممن حوله: يا رسول الله، وما الأسقام؟ والله ما مرضت قط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قم عنَّا، فلستَ منَّا، فبينا نحن عنده إذ أقبل رجل عليه كساء، وفي يده شيء قد التف عليه، فقال: يا رسول الله، إني لما رأيتك أقبلتُ إليك، فمررت بغَيْضَةِ شجرٍ، فسمعت فيها أصواتَ فراخٍ طائر، فأخذتهن فوضعتهن في كسائي، فجاءت أمهن فاستدارت على رأسي، فكشفت لها عنهن فوقعت عليهن معهن، فلففْتُهُنَّ بكسائي، فهن أولاء معي، قال: ضعهن عنك، فوضعتهن، وأبت أمُّهن إلا لزومَهُنَّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: أتعجبون لرحمِ أمِّ الأفراخِ فراخَها؟ قالوا: نعم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فوالذي بعثني بالحق، لله أرحم بعباده من أمِّ الأفراخ بفراخها، ارجع بهن حتى تضعهن من حيث أخذتهن، وأمُّهُنَّ معهن، فرجع بهن))[9]، وكما أخرج الإمام البخاري رحمه الله تعالى عن أبي سعيد الخدري، وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما يصيب المسلم من نَصَبٍ ولا وَصَبٍ، ولا همٍّ ولا حزن ولا أذًى ولا غمٍّ، حتى الشوكة يشاكها - إلا كفَّر الله بها من خطاياه))[10].

ولما كان الصبر من عزم الأمور، فإنه أيضًا مدعاة للمغفرة والتجاوز والصفح والعفو؛ لأن من كان هذا دأبه فقَمِنٌ أن يجزيَهُ ربه الرحمن سبحانه بأحسنَ مما صبر، وبأفضلَ مما عفا وصفح وتجاوز.

وانظر إلى ترابط الألفاظ الموحية من صبر ومغفرة وعزم للأمور، وهي تحكي صورة التآلف والتعاضد، والاقتران والالتئام والانسجام؛ لتؤديَ دورها المرسوم لها نَظْمًا وبلاغة وقولًا فصلًا من لدنه تعالى؛ كما قال سبحانه: ﴿ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [الشورى: 43]، وهو أيضًا دليل عزم للأمور كما نصت عليه الآية الكريمة سالفة الذكر.

والصبر على سائر ما يقع لعبدٍ هو تمام أدب، وإحسان دين؛ لأن من كان شأنه أنه قد صبر، فأمره ظفر.

وصابرٌ تكلؤه عناية مولاه، وتحفُّه رحمته، ويناله أجرٌ بمنَّتِهِ، وكرمٌ بفضله العظيم، وإذ قد صار من أهل المعية، وكفى بها من مَزِيَّة.

وإن لم يكن صابرًا فمتصبِّرًا مجاهدًا نفسه، ليدخل في عداد الصابرين، فيناله ما نالهم من الفضل والجود، والكرم والرضوان؛ إذ ((هُمُ القوم لا يشقى بهم جليسهم))[11].

وليس قد أعطى الله تعالى ربنا الرحمن سبحانه عبدًا عطاءً خيرًا من الصبر، فدلَّ على أنه أعظم الغنائم، ودلَّ على أنه أفضل القسائم؛ كما أخرج الإمام البخاري رحمه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: ((إن ناسًا من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعطاهم، ثم سألوه، فأعطاهم، ثم سألوه، فأعطاهم حتى نَفِدَ ما عنده، فقال: ما يكون عندي من خير، فلن أدَّخره عنكم، ومن يستعفف يُعِفَّهُ الله، ومن يستغنِ يُغْنِهِ الله، ومن يتصبَّر يُصبِّره الله، وما أُعطيَ أحدٌ عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر))[12].

وأفضله ما كان عند الصدمة الأولى؛ لأنه دالٌّ بطبعه على دماثةِ أخلاقٍ، ولأنه دالٌّ بحقيقته على نزاهة من أخلاط، ولأنه دليل على تمام الرضا بما قدَّر الرب الرحيم على عبده، فلا ضَجَرَ، ولا حَنَقَ، بل تسليم، ورضوان كريم؛ لِما أخرج الإمام البخاري رحمه الله تعالى عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: ((مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بامرأةٍ تبكي عند قبر، فقال: اتقي الله واصبري، قالت: إليك عني، فإنك لم تُصَبْ بمصيبتي، ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وسلم، فأتت باب النبي صلى الله عليه وسلم، فلم تجد عنده بَوَّابين، فقالت: لم أعرفك، فقال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى))[13].

وصبرٌ سبيلُ تمكينٍ، وصبرٌ موجبُ تبوُّءِ المكانة العليا، واستحصال أسباب الرِّيادة، والفوز بدرجات السيادة.

بيد أنه أيضًا من الصبر أن يكون عبدٌ هاديًا بأمره تعالى، وإلى طريقه سبحانه، وأجمِلْ بصبرٍ يكون من ثماره أن تكون إمامًا! وأجمِلْ بصبر يكون من شأنه أن تكون إمامًا هاديًا، لا إمامًا عاصيًا! وأجمِلْ بصبر أن تكون هاديًا لا بأمر أحد سواه تعالى!، وتلك منزلة سامقة رضيَّةٌ، وتلك مكانة رفيعة هنيَّةٌ، وهي تَشِي بالرضا الرباني الحاني عن ذلكم عبد قد أناخ رواحلَ الصبر أمام عَتَبَةِ باب مولاه سبحانه؛ ليمنحه ذلك الفضل، وليُتَوِّجَهُ ذلكم التاج السلطاني اسامي؛ كما قال تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾ [السجدة: 24].

وأجمِلْ بصبر من وصفه أنه كان صبرًا جميلًا! وهو ذلكم الصبر الذي لا جزعَ فيه ولا شكوى ولا تسخُّطَ، وهو ذلكم الصبر المُتَّزِرُ بإزار الرضا، وهو ذلكم الصبر المتلبِّس بلِباس القَبول بكل ما يقدِّره ربنا الرحمن سبحانه، وذلك لأن عبدًا قد أسلم وجهه لله تعالى - وهو محسن - فإنما كان من ألف باء إسلامه صبرٌ، وهو ذلكم الصبر الجميل؛ فإن الله تعالى قد ذكر الصبر بوصفه جميلًا في غير موضع من كتابه؛ كما قال تعالى: ﴿ فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا ﴾ [المعارج: 5]، وكما قال تعالى: ﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ﴾ [يوسف: 18]؛ فدلَّ على أن الصبر ليس يجمل إلا أن يكون صبرًا جميلًا.

ولعل من جميل صبرٍ "ألَّا تحدث بوجعك، ولا بمصيبتك، ولا تزكي نفسك"[14].

وانظر كيف كان فقهُ الصديقة بنت الصديق رضي الله تعالى عنهما، وكيف كان توفيق الله تعالى لها أن صبرت واحتسبت في حادثة الإفك المشهورة، حتى إنها لم تجد قولًا إلا كما حكى القرآن العظيم على لسان والد نبي الله يوسف عليه السلام حين قالت: ((فوالله لا أجد لي ولكم مثلًا إلا أبا يوسف حين قال: ﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ [يوسف: 18]))[15].

وكفاك بالصبر لطفًا أنه هديُ أولي العزم من الرسل، فاقتدِ بهم يا رعاك مولاك، واهتدِ بسُنَنِهم يا وفقك ربك، وهداك وأرشدك، وآواك وأيَّدك وأغناك؛ قال تعالى: ﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ﴾ [الأحقاف: 35].

وانظر إلى عظمة البلاغ، وأعِدِ النظر كرَّةً أخرى؛ لتقف على لطف قول ربك وبلاغته وبيانه، وسموه ورفعته وأدائه: ﴿ كَمَا ﴾، كيما يكون حرصك أن تسلك سبيلهم، وكيما يكون دأبك أن تحذوَ حَذْوَهم؛ لتصبر ﴿ كَمَا ﴾ صبروا.

ومنه أُفِيدُ صبرًا عند وقوع المُلمَّات، ومنه أستنُّ سننًا تصبُّرًا عند حلول الأزمات، وعندها ليجدنَّ عبدٌ عنده ربَّ الأرضين والسماوات.

وصابرٌ له البشرى؛ ذلك لأنه قد احتسب ما وقع له عند ربه؛ ولذا كان دليلُ رضًا بمقادير الله تعالى عليه، ومن ثَمَّ فلا ريبَ أن تكون له البشرى مَسُوقةً من ربه الرحمن إليه، وهو أقصى ما تتعلق به همةُ صابرٍ، وهو أربى ما يَحُوزُهُ محتسبٌ؛ كما قال تعالى: ﴿ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ [البقرة: 155، 156].

وليس يكون صبرٌ إلا حين كونه لله تعالى، وليس يكون صبر إلا حين كونه بالله تعالى؛ إذ إنه وكما أن العبد لا حول له ولا قوة إلا بالله تعالى مولاه سبحانه، فإنه كذلك ليس بإمكانه أن يصبر إلا بعونه تعالى ومَدَدِهِ لعبده، فكلنا ذاك الفقير إلى مَدَدِهِ تعالى ورضاه سبحانه؛ كما قال تعالى: ﴿ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ﴾ [النحل: 127].

ومن مندوحته أن عاقبته خيرٌ تامٌّ غير منقوص؛ كما قال تعالى: ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ﴾ [النحل: 126].

وأقول: إننا إذا ما تحلَّينا بصبرنا، فلربما نقصت معدلات لَأْوائِنا وأمراضنا، وأسقامنا وأوجاعنا، ومنه ولربما قلت مرات مراجعاتنا لمستشفياتنا.

وذلك لأن ضجرًا يوجِب ألمًا، وذلك لأن حَنَقًا يسبِّب مرضًا، وذلك لأن جَزَعًا يُوَلِّدُ تفاعلًا نفسيًّا داخليًّا لا تُدرَى عواقبه، ولا تُحمَد بوائقه، فتأمل.

وأما صبرنا فهو صبرٌ مآله كله خير؛ من أمن وأمان، واطمئنان وسكينة، وراحة بال، وصلاح حال، وصحة وأجر وعافية.

[1] صحيح مسلم، كتاب: صِفَةِ الْقِيَامَةِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، بَابُ: لَا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، حديث رقم: (5145)؛ أي: أشد حِلْمًا على فاعِلِ ذلك، وترك المُعاقبة عليه.

[2] الصحيح المسند، الوادعي، الصفحة أو الرقم: 1353؛ قال الوادعي رحمه الله تعالى: صحيح، رجاله رجال الصحيح،

التخريج: أخرجه النسائي (2408)، وأحمد (7577) باختلاف يسير.

[3] إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين، أبو الفيض محمد بن محمد الحسيني/ مرتضى الزبيدي، (ج: 11/ 50).

[4] إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين، أبو الفيض محمد بن محمد الحسيني/ مرتضى الزبيدي، ج: (11/ 57).

[5] تفسير ابن كثير: (ج: 3/ 237).

[6] كتاب تخريج أحاديث إحياء علوم الدين، العِراقي (725 - 806هـ)، ابن السبكي (727 - 771هـ)، الزبيدي (1145 - 1205هـ): (ج: 1/ 211)، وقال العراقي: "وروى ابن عبدالبر في كتاب العلم من حديث معاذ رفعه".

[7] سنن الترمذي، الصفحة أو الرقم: 2464؛ قال الترمذي رحمه الله تعالى: حسن؛ [الموسوعة الحديثية].

[8] صحيح مسلم، الصفحة أو الرقم: 2999.

[9] سنن أبي داود، باب: الأمراض المكفِّرة للذنوب، رقم الحديث: 2687.

[10] صحيح البخاري، كتاب المرضى، باب: ما جاء في كفارة المرض، حديث رقم: 5342.

[11] صحيح مسلم، كتاب الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالتَّوْبَةِ وَالاسْتِغْفَارِ، بَابُ: فَضْلِ مَجَالِسِ الذِّكْرِ، حديث رقم: 4983.

[12] صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب: الاستعفاف عن المسألة، حديث رقم: 1411.

[13] صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب: زيارة القبور، حديث رقم: 1236.

[14] تفسير ابن كثير: (ج: 3/ 237).

[15] صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب: حديث الإفك، حديث رقم: 3937.

رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/142154/#ixzz6Yy4sJrun