•                                                                    

2

فإنهم﴿ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ﴾ تقريرا لهم، واهتماما بهم، وتنويها عنهم!

وهذا رهط كريم آخر نزل في شأنه﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ [الحشر :10].

فهم - جميعا - كالسيل المدرار، وهم كالقطر الجرار، ليس يدرى خيره أَمِنْ أوله أو من آخره؟! ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة : 100].

وهكذا تتنوع صفات هذا المجتمع المسلم الناشيء، وهكذا تبين روافد هذا الجيل السامق الفريد، إلى ما يعجز خيال عن تخيله، مما فعلوا، ومما جاهدوا، ومما قاموا به، طاعة لله تعالى واحتسابا، حتى كان من أن فعلهم ولتفردهم أن عز في الوجود مثلهم، وأن أنكر مُنَاْوِؤُهُم فعلَهم، لما عز في الخيال أن تنال التصديق سوى خيال واحد فقط هو خيال الموقنين والمصدقين لله تعالى فيما أخبر، وفيما أنزل، وفيما حكى عن هذا الرهط الكريم!

وأولاء هم المهاجرون !

وأولاء هم المعنيون بشرح جانب من مآثرهم، وأولاء هم المقصودون ببيان طرف من مناقبهم!

وأول ما يلفت النظر أنهم المهاجرون! كيما يتوافر على الذهن صورة متألقة لهم، ووصف فريد عنهم!

قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى (حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا شُعْبَةُ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي السَّفَرِ ، وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ ، عَنِ الشَّعْبِيِّ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ، وَالمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : وَقَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ هُوَ ابْنُ أَبِي هِنْدٍ ، عَنْ عَامِرٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ عَمْرٍو ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ عَبْدُ الأَعْلَى ، عَنْ دَاوُدَ ، عَنْ عَامِرٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) [صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، حديث رقم : 10].

والشاهد من الحديث قوله ﷺ (وَالمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ)، لبيان أن المهاجر إنما يصدق عليه وصف كونه مهاجرا، يوم أن هجر الشرك والمشركين، ويوم أن هجر سائر ما نهى الله تعالى عنه، في بيان شامل، لا يعوزه تفسير آخر لنص الحديث النبوي الكريم! فقد بان  بفصاحته وبيانه، وقد تجلى بحجته وإيضاحه، وها هو قد تكشف بانجلائه وإعلانه، قول كريم، من رسول كريم هدى للنور، وبيانه النور ﷺ!

ذلك لأن الأصل في المسلم أنه يهاجر إلى حيث يمكنه إقامة شعائر دينه، ولا خيار آخر له في ذلكم.

وقد سار على ذلك الهداة  المهتدون والحنفاء المسلمون من أزل وإلى الأبد!

عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ : بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً إِلَى خَثْعَمٍ فَاعْتَصَمَ نَاسٌ مِنْهُمْ بِالسُّجُودِ ، فَأَسْرَعَ فِيهِمُ الْقَتْلَ قَالَ : فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ لَهُمْ بِنِصْفِ الْعَقْلِ وَقَالَ : أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ . قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ ؟ قَالَ : لَا تَرَاءَى نَارَاهُمَا قَالَ أَبُو دَاوُدَ : رَوَاهُ هُشَيْمٌ ، وَمَعْمَرٌ ، وَخَالِدٌ الْوَاسِطِيُّ ، وَجَمَاعَةٌ لَمْ يَذْكُرُوا جَرِيرًا.[سنن أبي داوود، كِتَاب الْجِهَادِ،  بَابُ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ مَنِ اعْتَصَمَ بِالسُّجُودِ،  حديث رقم: 2318].

وأخرجه الشيخ الألباني في صحيح الترمذي

الصفحة أو الرقم: 1604. وقال: صحيح دون الأمر بنصف العقل.

وقوله: "بنِصْفِ العَقْلِ"، أي: بنِصْفِ الدِّيَةِ.

ويتوارد على الذهن أيضا أنهم المهاجرون من أوطانهم وبلدانهم التي ولدوا عليها وعاشوا على أرضها حتى انبرت لهم أعرافها، وحتى قد طبعت فيهم أخلاقها!

لكنه الإسلام حينما ينادي أهله أن يتصرموا من بيئة عز عليهم فيها إقامة دينهم، وهكذا بنداء كريم، وإذن حليم «إن الله قد أذن لي في الخروج والهجرة». وكأنها لم تكن البيئة، وهكذا في لمح البصر، وكأنها ليست ببلادهم التي نشأوا عليها، فهم قائمون بأمره تعالى، أينما كانوا، وحيثما حلوا، ولا تمثل الأرض بجواذبها في شأنهم من شيء!

قال الله تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء:97].

وهكذا لا يقيم الإسلام للبيئة وزنا في حياة الحنفاء، إذا ما كانت هذه البيئات عملا غير صالح لإقامة الدين في الواقع وفي القيم والموازين والتصورات!

ومنه ندرك قيمة وصفهم بكونهم مهاجرين، ونحن نستحضر أمامنا هذا الركام الهائل من تأثير الطين وجواذب الأرض في قوم آخرين لا يمكنهم أن يهجروها كائنا ما كان من شأن البيئة معهم من تأثير في الدين، ومن فتنة في العقيدة، ومن ابتلاء في الواقع !

فحق إذن وصفهم بذلكم وصفا كريما آخر منضافا إلى ما توالى من ذكره تعالى عنهم من كونهم ( المهاجرون)، إلى نعوت الخير والصلاح والهدى والفلاح!

فهم الفقراء، وفقرهم ليس عيبا، كما أن فقر غيرهم لا يعد نقيصة، فتلك قسمة الله تعالى مولاهم الحق! ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [الزخرف :32].

بل كان فقرهم زينة لهم، وفخرا لهم، ورصيد خير، وشارة إخلاص، ودليل تجرد!

ألم تر أن الله تعالى قد بدأ به، اهتماما بشأنه، وتقريرا لأمره، وتنويها بقيمته؟!

ذلك لأن أحدهم كان يمكنه الاعتذار لفقره، لكنها العقيدة الصادقة، حين يكون ذلك فعلها في أصحابها الخيرين، فلا تتبقى لهم بقية من نفس، ولا تستأثر بهم نفحة من هوى!

وهم المهاجرون على ما سلف بعض من بيانه!

وهم الذين أخرجوا من ديارهم كلها ! ويحتسبونها على الله مولاهم الحق سبحانه!

وهم أولاء الذين قد أخرجوا من أموالهم كلها! ويحتسبونها على الله مولاهم الحق سبحانه!

وهم هؤلاء الذين قد فعلوا ذلك لمآثر خلدها القرآن الحكيم عنهم بأنهم ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾!

ولذا كان ختما حسنا لذكرهم، قد أبانه الكتاب في شأنهم، حين قد تطاير في الأنباء إخلاصهم، ولما أن قد شاع في الأخبار صدقهم، حتى قال الله تعالى عنهم ﴿أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾!