1

قال الله تعالى ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ [الحشر :8 ]

هذه هي الآية الثامنة من سورة الحشر، وهي أيضا تحكي سيرة قوم آمنوا بالله تعالى ورسوله ﷺ، وكان من إيمانهم صدقهم، حتى أضحى شارة عليهم، وحتى صار نعتا لهم!

وعلى طريقة القرآن المجيد البالغة في الثناء، والعميقة في الإنباء، ومن نهجه السامق في الأداء، عن قوم صدقوا ماعاهدوا الله تعالى عليه، وحتى كان من شأنهم أنهم قد تركوا الديار والأموال، وليس يصنع ذلكم من أحد إلا من قد صفا قلبه، وليس يفعل ذلكم من أحد إلا من زكت نفسه، متطلعة بإسلامها، ومشرئبة بإيمانها، صاعدة آفاق العزة والرقي والسناء والمجد، ومتألقة درجات العلا والرفعة والسمو والسؤدد!

والشأن فيهم أن فعلهم ذلكم من ترك للديار وللأموال وللأهلين، إنما كان نابعا من شيء واحد فقط، بينه الكتاب، وأفصح عنه الخطاب، إنه الإيمان بالله تعالى وحده فردا صمدا، لا والد ولا ولد، ولم يكن له كفوا أحد، تيكم الطاقات المتعاقبة، التي تصنع من صاحبها عبدا لله تعالى، وهو حسبه أن يكون لربه الرحمن عبدا، إذ غاية المجد هو أن يكون المرء عبدا لله - فقط عبدا لله تعالى وحده - إذ ههنا السعادة، وإذ ههنا العزة، وإذ ههنا الأنفة، وإذ ههنا الإكرام، وإذ ههنا السلامة والأمن والأمان، وكلها موجبات حياة هنيئة لامريء عاقل، ليس يبحث عن سواها، وكلها دعائم حياة أحدهم، ولما أن كان عبدا لله تعالى ربه الرحمن وحده لا سواه!

وعقيدة هكذا تفعل بصاحبها، أن تسوقه سوقا في رضا، وأن تهفو نفسه إلى هجرة خالصة لله تعالى ولرسوله ﷺ في صدق ومحبة، ابتغاء مرضاة ربه وحده، وليس لأحد فيها من شيء، إن هي إلا عقيدة تستحق أن يبذل في شأنها كل غال، وأن ينفق في حقها كل نفيس!

وهي عقيدة العزة الكرامة والإباء، أزهارها طيبة شذية، وثمارها غضة ندية، وأولى نتائجها سعادة في الدنيا، وآخرها جنات عدن في الآخرة الأخرى، ومنه كان ذا ثمنها، ومنه كانت غالية، ألا إن سلعة الله الجنة!

إذ لما كان هذا شأنها، فهي من ثم آخذة بعنان أربابها إلى الآفاق العالية، وهي إذن سامقة بهم إلى مراتب الدرجات الرفيعة السامية، كيما يتنفسون في ظلها كل عبير من رحيق، وكيما يتنسمون في ظلالها كل طيب هو لحياة قلوبها، وموقوفة عليه، وهي سعادة لألبابها، وهي مرهونة به!

وليس يكون ذلك إلا لعقيدة صح لدى العقلاء بيانها، وليس يكون ذلكم إلا لدين حق ساغ في الفطر السليمة أن يكون دينا!

وليس يكون ذلكم في حسبان أول النهى حقيقة، ولايتأتى أن يكون ذلك في عقد أولي الألباب يقينا، إلا لدين واحد فقط ألا وهو الإسلام! كما قال تعالى ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۗ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [ آل عمران :19]. وكما قال تعالى ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [آل عمران :85].

إذ كان من اسمه السلم والأمان والأمن والإيمان، وهو إعجاز آخر حتى في اختيار اسم الدين الذي هو طريق الأنبياء والرسل الكرام، مذ أن بعث الله تعالى أنبياءه، وحين أن أرسل الله تعالى رسله وأولياءه!

فهو دين واحد، ودل على إله واحد هو ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾ [الطلاق : 12].

فإنه لو كان قد اختلف الدين، فلربما وجد من قال إنه يختلف الإله!

وتلك مقدمة حسن البدء بها، كيما تتكشف أمامنا قيمة هذا الجيل الكريم، وكيف أن العقيدة التي كانوا يحملونها إنما حملوها عن صدق ويقين، نصرا للدين، وقياما بحق رب العالمين، واتباعا لسيد المرسلين، وخاتم النبيين، محمد بن عبد الله النبي الأمي الأمين ﷺ، حتى كان من فعلها ما فعلت بهم، سوقا لهم إلى هدى، وروحا بهم إلى إيمان، لينالوا سعادة الدارين حتى حازوا الفضل كله من الله تعالى ذي الفضل العظيم.

ففعلت بهم كما قد حكى القرآن المجيد عنهم ﴿ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ﴾[الأحزاب : 23].

وكشفت عن صدق معدنهم، وإخلاص قلوبهم، كما أنبأ الله تعالى عنهم ﴿ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ۖ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ ۚ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ۗ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الفتح :29].

وقادتهم إلى تضحية وفداء، نصرة للدين، ورفعة للملة، حتى أتوا ما به قد بشروا من الله مولاهم الحق، وحتى فازوا فوزا أسماه الله تعالى ﴿الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾! بما قد قطع على أحدنا وصفا لمبناه، أو نعتا لمعناه! كما قال الله تعالى فيهم﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة :111].

وكان من شأن تأثيرها فيهم أن حدا بالقرآن العظيم لهم ذكر، وأن جاء بالقول المبين عنهم خبر! كما قال الله تعالى ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ [الحشر: 8]

وكان من حقيقتها ما أنزل الله تعالى في شأنهم ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر : 9].