﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9].
بيد أنه ليس يفوتني ذكر طرف من حديثه ﷺ في بيان زكاء الأنصار، وكيف أنهم كانوا طرازا فريدا من الناس في عصرهم، وفي كل عصر!
قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى ( حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ ، قَالَ : لَمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ ، قَسَمَ فِي النَّاسِ فِي المُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ، وَلَمْ يُعْطِ الأَنْصَارَ شَيْئًا ، فَكَأَنَّهُمْ وَجَدُوا إِذْ لَمْ يُصِبْهُمْ مَا أَصَابَ النَّاسَ ، فَخَطَبَهُمْ فَقَالَ : يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ ، أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللَّهُ بِي ، وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَأَلَّفَكُمُ اللَّهُ بِي ، وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ بِي كُلَّمَا قَالَ شَيْئًا قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ ، قَالَ : مَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تُجِيبُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ : كُلَّمَا قَالَ شَيْئًا ، قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ ، قَالَ : لَوْ شِئْتُمْ قُلْتُمْ : جِئْتَنَا كَذَا وَكَذَا ، أَتَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالبَعِيرِ ، وَتَذْهَبُونَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى رِحَالِكُمْ ، لَوْلاَ الهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الأَنْصَارِ ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَشِعْبًا لَسَلَكْتُ وَادِيَ الأَنْصَارِ وَشِعْبَهَا ، الأَنْصَارُ شِعَارٌ وَالنَّاسُ دِثَارٌ ، إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أُثْرَةً ، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الحَوْضِ ) [صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الطائف، حديث رقم: 4097].
وإذ كان من وصفهم أنهم قد اهتدوا من بعد ضلال. وذلكم من شاهد قوله ﷺ ( أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللَّهُ بِي)!
وإذ كان من نعتهم أنهم قد اتحدوا من بعد فرقة. وذلكم من شاهد قوله ﷺ ( وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَأَلَّفَكُمُ اللَّهُ بِي)!
وإذ كان من شأنهم أنهم كانوا عالة فأغناهم الله تعالى برسوله. وذلكم من شاهد قوله ﷺ (وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ بِي)!
ومنه رفع شأنهم والتنويه بقدرهم وشاهده قوله ﷺ (لَوْلاَ الهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الأَنْصَارِ ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَشِعْبًا لَسَلَكْتُ وَادِيَ الأَنْصَارِ وَشِعْبَهَا ، الأَنْصَارُ شِعَارٌ وَالنَّاسُ دِثَارٌ)!
وطرف آخر أريد كشف حجابه لعله أن يستبين منه قيمة قوم آمنوا بالله تعالى ورسوله على ذلكم الوصف، وهم إذ كانوا حديثي عهد بالإسلام، وهو ما ينبيء عن مدى تقبلهم للإسلام وانصهارهم به قلبا وقالبا وروحا ومعنى واندماجا فيه حتى صاروا به لحمة واحدة! وفي فترة قصيرة يبعد أن يتوافر عليها قوم آخرون!
لكنه الإسلام حين يخالط شغاف القلوب، ولكنه الإيمان حين يجري في الإنسان المسلم كما الدم يجري في العروق!
ذلك أنه وعند النظر إلى الآية الكريمة محل البيان تصدر أمامنا ثلاث صفات للأنصار أوجزها على نحو ما يلي:
- أنهم يحبون الله تعالى ورسوله ﷺ.
- أنهم لم يجدوا في أنفسهم حاجة مما أوتوا.
- وأنهم يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.
وعند النظر إلى حديث الإمام البخاري سالف الذكر قد تضمن ثلاث صفات للأنصار أيضا للأنصار أوجزها على نحو ما يلي:
- 1 - هداهم من بعد ضلالهم.
- 2 - ألفتهم من بعد فرقتهم.
- 3 – غناهم من بعد عالتهم.
- وهي تختلف عما ورد في الآية، مما يعد دليلا على كثرة نعوت الخير فيهم، مما بوأهم هذه المنزلة السامقة العالية السامية الرفيعة!
- ومنه حسن الجمع بين الآية والحديث لاستجماع مواطن الخير فيهم رضي الله تعالى عنهم.
- وإذ كان شرف الاسم من شرف المسمى !
- وأولاء هم الأنصار !
بيد أن طرفا آخر أريد التنويه به. ذلك أنه يلاحظ أنه قد جاء ذكر كل من الأنصار والمهاجرين بصفة كل منهم !
وهو أدعى في التأثر والـتأثير مما لو جاء النص ممهورا بذكر أسمائهم واحدا تلو الآخر!
ومنه كانت مدحة ذكرهم بوصفهم إطراء كما أنه اسم جامع على دلالات الخير والنصرة للدين الجديد، مما يعد أيضا دليلا على لزوم توافر فصيل هذا شأنه، ومما يوجب وجود رهط هذا وصفه، ليكونوا عونا للدعوة الجديدة، فتفتح لها الأذرعة والقلوب معا، كيما يمكن لهذه الدعوة الجديدة أن تتبوأ منزلها!
وهؤلاء إذن هم الأنصار!
كما أنه ينطبق أيضا فيما لو جاء بيان بذكر أسماء المهاجرين واحدا تلو الآخر!
وقس عليه ما يمكن أن يقاس مما جاء في شأن إخوانهم الأنصار!
وثمت جانب آخر عظيم الشأن!
وهذا من لطائف القرآن البائنة المعهودة، وذلكم من إشاراته المَعْرُوفة المَعْلومٌة !
إذ ينبيء ذلكم عن انصهار الكل في بوتقة واحدة، ويُبْعِدُ عنهم وصفا قد يكون مدخلا للقوميات المشينة التي ما انفك الناس يتعاهدون عليها إلا من رحم!
وهذه هي دعوة الإسلام، تذيب الفوارق في مهدها، وتقض مضاجعها في وكرها.
وهو أيضا إعمال لمنهج الإسلام في نظرته الكلية الشاملة للناس حينما ناداهم القرآن العظيم بقوله ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات :13].
وإيثارهم فريد!
ذلك لأن امرءا قد يؤثر لا عن حاجة!
أما أن يؤثر آحادهم أخاه عن حاجة، فهذه نفوس قد أنقيت من حظها، وهذه قلوب قد أوعت ما يوجبه عليها إيمانها من إيثار ﴿وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾!
وأن تؤثر نفوس عن حاجة فلربما قد ساغ قبوله!
أما أن تؤثر عن شدة من حاجة، فذلكم طراز ليس معهودا !
إلا في ظل مساحة من اليقين بالله تعالى أن ساقت أولاء إلى أن يؤثروا إخوانهم عليهم ﴿وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾!