وأعمال الأنبياء تكاد تكون معروفة لدى عامة الناس .

بيد أن ما أصبو إليه بيانا هو أن عمل كل منهم ربما لا يروق لأغيار أن يمتهنوه ، ولربما لم يسغ لآخرين أن يعملوه!

لكن اصطفاء الله تعالى لكل نبي - وهو أمر متفق عليه - لم يكن نابعا من فراغ، ولم يكن خاليا من اعتبار!

ومنه بالطبع عمل كل منهم، فلست أروح بعيدا إذا قلت إنه كان مقصودا ربانيا واختيارا إلهيا!

ومنه لزم التواؤم بين عمل من هم أشرف الخلق - عليهم السلام - وما يحسبه بعضنا من عملهم أن ليس راقيا أن يكون عملا مريئا!

فتسليمنا باصطفاء الله تعالى لكل نبي أو رسول يلزم منه تسليمنا باختياره تعالى كل مهنة عمل بها هذا الرسول أو هذا النبي !

ذلك لأن كل شيء في كونه تعالى إنما يحصل بأمره ، وذلك لأن كل قضاء ينفذ في ملكوته فإنما ينفذ بسلطانه سبحانه .

ومنه نكون قد وقفنا على أرضية قوام ترابها مسك عنبر يتنسم منه عبير الزكاء والاصطفاء والتوفيق والرشاد والإلهام.

وربنا الرحمن سبحانه يخلق ما يشاء ويختار. وما كان لأحد من خيرة فيما فرض الله له ، وتلك سنته تعالى، وهذا سبيله سبحانه !

قال الله تعالى ﴿ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ۗ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾. [القصص: 68].

ومنه يكون المأمول أن ينهض كل لعمل قد وفق إليه غير مبتئس، وليس مكترث في تكلف، وغير مباشره في عنت .

وحينها ليجدن كل امرئ رضي أن له الرضا، ليهنأ أمره ، وليسعد يومه، فيعيش عيش السعداء المكتفين، ويحيا حياة الناصبين المجتهدين .

بيد أن مجاهدة النفوس على الرضا أمر ذو بال .

ومنه ليت كل يُرَضّي نفسه بقسمة مولاه، وعندها يكون بعمله مِنْ أسعد من خلق، وحينها يكون باكتفائه  من أنبل من برأ!

ذلك لأن عملا يحصل المرء منه على قوته، ليبلغ قوته وراحته واطمئنانه، لحري به أن يحيا حياة الأنفة والإعزاز والإكرام والنبل !

فيغنيه سؤالا لغيره، ويكفيه جبرا لخاطره، ويمنحه أنفة وإعزازا لخاصة نفسه أمام الأغيار.

ذلك لأن عملا يراه الناس متواضعا أمامهم ربما كانت منه سعادتهم ،وحري به أن تكون به هناءتهم، ولعله كان به التوفيق، وعساه يكون به رزقه، وأخاله منه عزته وسؤدده.

ذلك لأن العمل شارة السعداء، وذلك لأن البطالة دالة الأشقياء .

كنت في إحدى المحلات التي يشار إليها بالبنان سعة وغزارة وسمعة ، ولا تكاد تستطيع عد علب الفول فيها وحسب ! وما بالك بغيرها من سلع وأدوات وضروريات وكماليات وكهربائيات ومنزليات وفرش وأثاثات  وفواكه وخضراوات وما به تلذ أعين وما به تشتهيه أنفس !

وعند هذه الصورة التي اختصرت بيانها استحضرت صورة شاب بسيط ، وهو جالس في بقالته ، وأكاد أعد ما وراءه على الأرفف من كافة ما فيها ، وإذ بها لا تعادل علب الفول في الهايبر الذي شرحته آنفا !

وقلت في نفسي حينها : إنه الرضا ! وحسبك بالرضا !

ولا أريد الدخول في أعماق النفوس وبواطن الخواطر.

لكنك ربما لو بحثت عن السعادة لرأيت صاحب البقالة هو أسعد من غيره بمراحل عديدة !

وإن سألت عن السبب ؟ أسعفتك بقولي: إنه الرضا !

ومن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط.

قَالَ النبِيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: "إِنَّ عِظَمَ الْجزاءِ مَعَ عِظَمِ الْبلاءِ، وإِنَّ اللَّه تَعَالَى إِذَا أَحَبَّ قَوماً ابتلاهُمْ، فَمنْ رضِيَ فلَهُ الرضَا، ومَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ " .[رياض الصالحين كتاب المقدّمات  باب الصبر  حديث رقم 43] . ورواه الترمذي وقَالَ: حديثٌ حسنٌ

وليس في ذلك افتئات على أحد.

لكن السيرة جرت أن البساطة واليسر والرضا كفلاء السعادة، وأسباب الراحة والأمن والاطمئنان!

وقيام الأنبياء والرسل على عمل حلال طيب ليأكلوا من سببه طعامهم طيبا حلالا زكيا هو نهج الراشدين ، وقد أعملوه ، وهو سبيل الناجين وقد فعلوه!

فهذا نبي الله نوح عليه السلام كان يَعمل في النجارة ، وقد صَنَع بيده السفينةَ التي كانت سببًا في نجاتهم مِن الغرق بعد فضْل الله تعالى.

قال تعالى( وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ ) . [هود: 38].

وكان خليلُ الله إبراهيم - عليه السلام - بنَّاءً، وقد أشرف بنفسه على بناء الكعبة البيت الحرام ، وعاونَه في ذلك ولدُه إسماعيل - عليه السلام .

قال الله تعالى ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [البقرة: 127].

وهذا نبيُّ اللهِ داودُ عليه السلام كان حدَّادًا، وقد ألَانَ اللهُ له الحديدَ، فكان يَصنع منه الدروعَ وغيرها مما يعود نفعه ويعم خيره.

قال الله تعالى ﴿وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ . [سبأ : 10 - 11].

وكان نبي الله زكريا عليه السلام نجَّارًا؛ كما أَخْبَر بذلك النبيُّ صلى الله عليه وسلم.

قال الإمام مسلم رحمه الله تعالى(حَدَّثَنَا هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ ، عَنْ ثَابِتٍ ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : كَانَ زَكَرِيَّاءُ نَجَّارًا).[ صحيح مسلم كتاب الْفَضَائِلِ  بَابٌ فِي فَضَائِلِ زَكَرِيَّاءَ عَلَيْهِ السَّلَامُ  حديث رقم 4510].

وكان إلياسُ - عليه السلام – نسَّاجًا.

وكان نبي الله موسى عليه السلام راعيا للغنم.

قال الله تعالى ﴿ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى ۞ قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى ﴾ [طه: 17 - 18].

وكان نبي الله عيسى عليه السلام يَعْمَل بالطبِّ .

قال الله تعالى ﴿ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [آل عمران: 49].

 ولما أن عرض ملك مصر على نبي الله تعالى يوسف عليه السلام أن يكون مكينا أمينا في بحبوحة قصره وملكه، وغيره يتمنى وسواه .

فذاك وضع أثير، وذاك أمر يسير، فرغدة في عيش، وحظوة في كلأ!

لكنها طبائع أولي النفوس السامقة، ولكنها شكيمة أولي النهي والكرامة والإباء والعزة!     

لكنها قوته، ولكنها أنفته، ألا يعيش إلا من كسبه الحلال الصرف الزلال!

وكذا كل  امرئ مري ، وهكذا كل عزيز سخي !

فمروءة عزيز ألا يأكل إلا حلالا، وسخاء كريم ألا يعيش إلا أبيا جوادا رفيعا شريفا.

وبه ينال المجد والسؤدد والمكانة، ومنه تخاله عظيما بأسه، وفيه تحسبه وجيها جاهه!

قال الله تعالى ﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ﴾ .[ يوسف : 57].

وقد عمل رسولُنا الكريم محمد ﷺ  منذُ أن كان صغيرا راعيًا للغنم، وهو لم يبلغِ السادسة من عُمره. وكان يذكُر ذلك في غِبطة وسرور .

قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ المَكِّيُّ ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى ، عَنْ جَدِّهِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا رَعَى الغَنَمَ ، فَقَالَ أَصْحَابُهُ : وَأَنْتَ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ ، كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لِأَهْلِ مَكَّةَ) .[صحيح البخاري  كتاب الإجارة  باب رعي الغنم على قراريط  حديث رقم 2170].

وقال أيضا(حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى ، أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ ، عَنْ ثَوْرٍ ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ ، عَنِ المِقْدَامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ: مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ ، خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ).[صحيح البخاري  كتاب البيوع  باب كسب الرجل وعمله بيده  حديث رقم 1988]  .

وقال رحمه الله تعالى أيضًا (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ ، عَنْ عُقَيْلٍ ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَأَنْ يَحْتَطِبَ أَحَدُكُمْ حُزْمَةً عَلَى ظَهْرِهِ ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ أَحَدًا فَيُعْطِيَهُ أَوْ يَمْنَعَهُ ) .[ صحيح البخاري  كتاب المساقاة  باب بيع الحطب والكلإ  حديث رقم 2274] .

ومن شأن الأعمال أنها تثمر بدنا صحيحا، و خلقا حميدا، وصبْرا جميلا، وقوَّة في احتمال، وملكة رأفة، وعاطفة رحمة، وحُسْنَ سياسة، وشارة كياسة، ونظرا في تأمُّل، واعتبارا في تدبُّر!

ونظام حياة الأخيار هو قيام أجسادهم على الحلال الصرف قولا واحدا !

قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى( حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ، حَدَّثَنِي أَخِي ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلاَلٍ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ القَاسِمِ ، عَنِ القَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، قَالَتْ : كَانَ لِأَبِي بَكْرٍ غُلاَمٌ يُخْرِجُ لَهُ الخَرَاجَ ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَأْكُلُ مِنْ خَرَاجِهِ ، فَجَاءَ يَوْمًا بِشَيْءٍ فَأَكَلَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ ، فَقَالَ لَهُ الغُلاَمُ : أَتَدْرِي مَا هَذَا ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَمَا هُوَ ؟ قَالَ : كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لِإِنْسَانٍ فِي الجَاهِلِيَّةِ ، وَمَا أُحْسِنُ الكِهَانَةَ ، إِلَّا أَنِّي خَدَعْتُهُ ، فَلَقِيَنِي فَأَعْطَانِي بِذَلِكَ ، فَهَذَا الَّذِي أَكَلْتَ مِنْهُ ، فَأَدْخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ ، فَقَاءَ كُلَّ شَيْءٍ فِي بَطْنِهِ). [صحيح البخاري  كتاب مناقب الأنصار  باب أيام الجاهلية  حديث رقم 3664] .

وكان المبارك - والد عبد الله بن المبارك - عبدًا رقيقًا أعتقه سيده، ثم اشتغل أجيرًا عند صاحب بستان، وذات يوم خرج صاحب البستان مع أصحاب له إلى البستان، وقال للمبارك: ائتنا برمان حلو، فقطف رمانات ، فقدمهنَّ إليهم، فإذا منها الحامض والتالف، فقال صاحب البستان: أما تعرف الحلو من الحامض؟ فقال المبارك: أنت ما أذِنت لي أن آكل حتى أعرف الحلو من الحامض، فقال له: أنت منذ كذا وكذا تحرس البستان، وتقول هذا، وظن أنه يخدعه، فسأل الجيران عنه، فقال: منذ أتى هذا البستان ما أكل رمانة واحدة، فتعجب صاحب البستان ودعاه، وقال: يا مبارك، ليس عندي إلا ابنة واحدة، فلمن أُزوِّجها؟ فقال له: اليهود يزوجون للمال،والنصارى للجمال، والعرب للحسب والنَّسب، والمسلمون للتقوى، فقال صاحب البستان: ما رأيت أتقى لله منك، فزوَّجه ابنته.

وهكذا تبين أهمية العمل في حياة الأمم والأفراد، وهكذا تتضح آثاره من قضاء على الفراغ الذي أفسد حياة الناس والشباب منهم بصفة خاصة ، وهكذا تبدو نتائجه في تحمل المسؤليات ومجابهة المخاطر والابتلاءات ، وهكذا تظهر ملامحه في تمرين الناس ودربتهم ونشاطهم، مما يضفي عليهم صحة وبأسا، قتقوى مناعاتهم، وتصح أبدانهم، وتعف أنفسهم عن أكل الحرام، أو مقارفة السيئات، بسبب بطالة مهينة ، تذهب مروءات الناس، وتخلع عنهم أثواب العزة والإباء، فلا يمدون أيديهم إلا إلى الحلال، ولاتحدثهم أنفسهم ميلا إلى الحرام، بما قد أعزوا به ذوات أنفسهم من عمل كان سبب إغنائهم عن الناس قاطبة، إلا رب الناس الموفق والهادي إلى سواء السبيل.