وقفات حول قوله تعالى(كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ )[الأعراف:2]

3

وقوله تعالى(فَلَا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ) ربما أوجب تساؤلا إذ أي حرج يمكن أن يكون من كتابه تعالى وهوالقائل فيه (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ)[النحل:89]؟! فهوإذا كان ذلكم وصفه وحيث إن ذلكم نعته تبيانا لكل شيئ! وهدى لايعتوره ضلالة واحدة ورحمة في ذاته وسبيلا لها فأي حرج إذن؟.

 والكتاب من هديه أنه بشرى! وبألفها المقصورة لتنشر بشراها في الآفاق فتعم سائر الأرجاء وبما توحيه من فأل حسن وبما تبعثه من رضا وإيجابية لتسلك سبيلها إلى المؤمنين هادية الى كل خلق كريم، وناهية عما لاترضاه النفوس العالية، وتتأباه القرائح السامقة، وهذه وأمثالها موجبات لنفي حرج- أي حرج- منه!

 ولست أريد شرحا لموجبات نفي حرج ولو واحد منه لكنه ضرورة لمناسبة وروده في الآية الكريمة لأجول حول مخرج، ولأطوف حول تأويل سائغ، لأنه تعالى(...الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا، قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا)[الكهف1-2] ولربما كانت هنا الضالة كاشفة لنرى!

 ذلك أن الكتاب لضرورة الإرشاد إليه، ونصب المعاندين لواء الشرعليه، ولعدم إدراكهم ما يؤول إليه كان منهم جدال وحصل منهم إعراض وأنالوا الرسول منهم نصبا. وكان موجبا أن يحترز القرآن لذلكم ليقول له(فَلَا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ)مما سوف تلاقيه ولاتأس مما قد تعانيه! وذالكم من طلاقة التوجيه ودلالة التحصين وتفرده سبحانه بغيبه.

فنفي(حرج منه) ولو حرج واحد! نفاه النص الكريم أو نهى عنه يكون لمجيئه على ذلكم نحو. مسوغ ذلك أن النفس جبلت على عامل الاستجابة للمحيط والتفاعل مع أحداثه، وكيف إذن يكون حال مشفق على قومه من أمثال نبينا محمد صلى اله تعالى عليه وآله وسلم وهو يغشاهم حيثما كانوا ليخرجهم من الظلمات إلى النور وهم مناصبوه عداءهم؟!

بيد أن نفي وقوع حرج أوالنهي عنه لزم تحريره بعضا. ومن مقدماته مجيئه نكرة سبقت بنفي أو نهي - على وجه - لإفادة عموم لحرج مع علم أن حرجا إذا وجد فإنما محله الفؤاد ومنه ينصرف النص إلى ما قد يطرأ من هم أو ما يحدث من غم مما علم الله تعالى في غيبه أنه حاصل. وقد حصل فكان ذلكم ترياقا وقائيا!.

 ونفي حرج من القرآن يقين قائم ذلك أنا رأيناه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقوم ليله به وينشرح صدره به ويعلو ذكره به كما في البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم اقرأ علي قلت يا رسول الله آقرأ عليك وعليك أنزل قال نعم فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا قال حسبك الآن فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان)[البخاري.4763].

وثبات فؤاده صلى الله تعالى عليه وآله وسلم به، وقيام ليله به، وتبركه به،واستشفاؤه به. كل ذلكم قاطع ألا حرج منه لذاته بل لعارض كما بينت آنفا مما يُكاد له أثناء دعوته إلى هداه، ولما استنكفوا آذوه فوقع بسببه ذلكم حرج. كما قال الله(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ)[الحجر:97]. وقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم (إني أخاف أن يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة)خرجه مسلم.

 ووجيهٌ قولٌ بتقديم وتأخير. أي أنزل إليك الكتاب لتنذر به فلا يكن في صدرك حرج منه. وبه يستقيم المعنى ويزول الإشكال بإذنه تعالى. وهو ما يتسق مع القول أن حرجا مما يلقاه داعية خيرٍ من قومه لما يناوؤه، ومن عنتهم لما يعادوه رفضا للرشاد، واتباعا للعناد تعبيرا عن نفرة نفوس وكأنها(فرت من قسورة)!

وانتفاء الحرج لسبب أن يكون داعية الحق واثقا مما يدعو إليه متمكنا من خلجاته ليقف من ثم على أرض صلبة لاتهتز مشاعره أمام تبعة من تبعاته، وهو من ثم باعث على الإقناع، وهاد إلى مواجهة القوم بالتي أحسن. فلا تلعثم في البيان ولاشك فيما يدعو إليه.ذلك لأنه داع باطمئنان، موقن بصدق حديثه، وبصحة دعواه.

 والإيمان بصحة ما يدعو إليه المرء عامل حاسم لنجاحه. إذ تراه صادعا به بانشراح، مدافعا عنه بحجة دامغة، ولغة بالغة، لايكاد الخصم أمامها إلا مذعنا لسلطانها إذ لاشبهة تعرض له فتسبب له حرجا! فيلوك بها خصمه لينشغل وكيف المخرج؟! وتلك عادة المجادلين ينصبون فخاخا في الطريق إحراجا للدعاة العاملين.

 وحرج ألمً بداعية الحق ينقل المعركة إلى حيث لاميدانها! وكأنما شباك قد نصب لإلهائه. ومن فطنته الإنتباه لذلك ألا ينجر إليه. كما عرضوا على الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ما عرضوا فتنة له. وكان جوابه حاسما(والله ياعم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه).

وصلة بين نفي حرج والانذارالمعلل! إذ كما حكيت منه طرفا أن استيثاقا مما يدعو إليه قمن أن ينذر به حق الإنذار روية وثقة ويقينا. وهو أدعى لقوة حجته أمام خصمه، وأرجى لخصمه أن ينقاد. صلاحا لحاله، واستشرافا لحسن مآله، وهو مبتغى المصلحين، وغاية المرشدين أن يأخذوا بأيدي القوم إلى طوق النجاة.