قال تعالى(وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ) وأستلهم عونه تعالى بيانا لها.

والقائل هو سيدنا إبراهيم عليه السلام وفيه تبكيت لأولئك الذين اتخذوا الأصنام أندادا من دونه تعالى وأفيده من مفهوم منطوق الآية الكريمة.

 كما وأنه  من مفهوم المخالفة تنويه بشأن فئة مؤمنة نبذت الأوثان من جانب وعادوها من ثان وأنكروا على قومهم في ثالث وتلكم ثلاثة أركان لنبذ الشرك والشركاء كيما تكون العقيدة في الله تعالى صافية لايكدرها كدر ولايعكرها مدر ولايشوبها وبر.

 وتبكيتهم على ذلكم باعتبار أن غيرهم فتنوا بالآلهة المدعاة وأعطوها قيمة هي والعدم سواء وما ذلك إلا لأنها(وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا)[مريم:42]. وهم  عباد وحسب. كما قال تعالى(إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ ۖ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)[الأعراف: 194]. (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ (13) إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ۚ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ)[فاطر:(14].

 وتلك خلاصة الأنداد ومن تال لاينهض دليل عقلي واحد فضلاعن دلائل الشرع المعتبرة سالفة البيان على أنها  تغني عن أحد شيئاً بما في ذلك هي نفسها. مما يسلبها إذن شرعية وجود فضلا عن شرعية استحقاق لأن تعبد.كما قال تعالى أيضا عن سيدنا إبراهيم عليه السلام في تخليد كريم للحنفاء وإمامهم (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا)[مريم:42].  

وربنا تعالى أراد أن يعز خلقه باتخاذه وحده إلها كيما لاتفسد العبد الآلهة المدعاة. وكيما يكون عزيزا كريما. ذلك أنه تعالى غني. ومن غناه أن بسط فضله  على وليه فأعزه يوم ركن إليه وحده فلا تتنازعه أنداد الأرض. وتلك بدهية عقدية وشارة عقلية لاينتهض زبد شرك عندها. ذلك أن غيرهم فتنوا بالآلهة المدعاة وأعطوها قيمة هي والعدم سواء. وما ذلك إلا لأنها(لاتغني عنك شيئاً). وتلك خلاصة الأنداد. ومن تال لاينهض دليل عقلي واحد فضلا عن دلائل الشرع المعتبرة على أنها لاتغني عن أحد شيئاً بما في ذلك هي نفسها ممايسلبها إذن شرعية وجود فضلا عن شرعية استحقاق لأن تعبد.

ومنه يتأكد ما يشير به نظم الآية من إنكارسيدنا إبراهيم على قومه ذلكم مسلكا. وكذا من إقراره تعالى له. لدلالة السياق ذكرا عنه بلا نكير ونقلا عنه بلا تعقيب. وكيف وقد كان كما قال تعالى(إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ ۚ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ،وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ۖ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)[النحل:120-122].

ثم يوجه الله تعالى رسوله محمدا صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أن يقتدي به في إشارة إلى الاقتداء بالصالحين كون سبيلهم نورا وكون مسلكهم هدى ليفوزوا بأجرهم وأجر من سار سيرتهم .وأفيده من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ سَنَّ سُنَّةَ خَيْرٍ فَاتُّبِعَ عَلَيْهَا فَلَهُ أَجْرُهُ وَمِثْلُ أُجُورِ مَنْ اتَّبَعَهُ غَيْرَ مَنْقُوصٍ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا وَمَنْ سَنَّ سُنَّةَ شَرٍّ فَاتُّبِعَ عَلَيْهَا كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهُ وَمِثْلُ أَوْزَارِ مَنْ اتَّبَعَهُ غَيْرَ مَنْقُوصٍ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا . [رواه الترمذي رقم 2675 وقال هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ].ومنه كان حقيقا مجيئ أمره تعالى  لرسوله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالاقتداء به كما قال تعالى(ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)[النحل: 123].

ومنه كما ترى ذكرا لأوصاف العزة ومقامات الكرامة لنبيه إبراهيم عليه السلام.

وتلك شامة كل حنيف في كل زمان وفي كل مكان؟!. 

ويالخيبة امرئ يتخذ أندادا من دونه تعالى وهو الذي خلقه، وهو الذي رزقه، وهو الذي بيده أمره كله. ولو شاء لذهب بهم وأندادهم جميعاً. لكنه لطفه ولعلهم أن يؤبوا. ومن عجب أنهم أنداد كثر لاندا واحدا!.إمعانا في إرهاقهم وإذلالهم كما قال تعالى(وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا)[الجن:6].

 وقد رأيت الله تعالى ماقتا فعلهم لما نصبوا لواء المودة بينهم على مقدار عبادتهم أوثانهم ونسوا أنه(ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ)[العنكبوت:25]. هذه العذابات الأربعة المتتاليات تفقد أيا صوابه، وتجعله يدور دوران الرحى خائفا يتملكه رعب لما ينتظره في أخراه من سوء عاقبة ووحشة مصير.

وليس في أخراه وحسب بل ودنياه لما سبق من قوله تعالى(فَزَادُوهُمْ رَهَقًا)ومن قوله تعالى أيضا(وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ)[طه:124]. 

وأناس يعيشون ضنكا ومايشعرون.! ختما من الله وطبعا من لدنه.ذلك لأنه تعالى يغار على حرماته(فَهَلْ مِن مُّدَّكِر) القمر:ٍ22]. و(أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[المائدة:74] . 

واجتماع قوم في أنديتهم ومجالسهم مودة بينهم في الحياة، ذلك لما ينضوي عليه اجتماعهم من اجتماع على غير هدى من الله ومحادة له تعالى.ومن شر صنيعم يذوقون ويلا!.ذلك لأنهم يتحابُّون على عبادة الأهواء ويتوادّون على خدمتها فيتواصلون عليها ويتقربون إليها وتلك حقيقة قمن أن يراجعوها لعلهم ينتهون ليفوزا.

وخلة على غير تقوى من الله ورضوان إلى بوار. ذلك لأنه تعالى قال(الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ)[الزخرف:67]. وماأحلكها صورة على أربابها الذين هم صانعوها يوم تجدهم كلهم لاينفك أحدهم عنها!ذلك لأنها مركبة من أهوال ومؤلفة من تبعات ثقال!.كما قال تعالى( ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ):

  • يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ.
  • وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا.
  • وَمَأْوَاكُمُ النَّار.
  • وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ. 

واذا كان القول عن ابراهيم عليه السلام فيبقى السؤال: من أنبأه بهذه العقوبات الكثيرة العديدة لمن سلك عبادة الأوثان واتباع الشهوات؟! وجواب حاسم؛ أن هذه طبيعة الفطرة السوية المتعلقة بالله تعالى. لاتنطق إلا حقا، ولاتقول الا صدقا، ولاتنبو عن بهتان ابدا. وتلك فراسة كل امرئ عابد وتلك هبة رب كريم.

واللافت أن قول إبراهيم عليه السلام ذلك كان بعد خروجه من نارهم المستعرة! وفيه بيان إصرار داعية الحق على هديه فلا تعوقه عثرات الطريق ولاعقبات السبيل مهما أوذي في سبيل الله تعالى. ولربما كان الإيذاء فيه تعالى هو زاده على الطريق. كما قال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: (لقَدْ أُوذِيتُ في اللهِ ومَا يؤذَى أَحَدٌ وأُخِفْتُ في اللهِ ومَا يُخَافُ أحَدٌ ولقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَلاثُونَ مِن بَينِ يَومٍ ولَيلَةٍ ومَا لِيْ ولِبِلالٍ طَعَامٌ يَأكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إلا شَىءٌ يُوارِيْهِ إبْطُ بِلالٍ)[  صحيح. رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان].

 وثبات داعية الحق في إصرار عجيب سمة من سماته وصفة من صفاته.!

 وكأنه من لوازم الدعوة الإيذاء في سبيل الله، وكأنه زادها إمعانا في لمعانها، وكأنه تبرها إمعانا في بريقها. فقط لما يكون في سبيل الله!. فتحتمل النفوس، وتحتسب أجرها عند ربها الكريم .لأنها بالإيمان تصير مصقولة معادنها، وبالتقوى تصبح أمتن من الجبال فرائدها، وما ذلك إلا للمؤمنين. 

ذلك لأن هذا هو طريقهم. وليس أمامهم طريق للنجاة سواه. فيجدون فيه سلواهم، وفي العيش معه سعادتهم. لأنهم مستغرقون محبة لله تعالى ربهم الحق؛ فأفاض عليهم من بركاته وأسبغ عليهم من رحماته.فأنساهم وحشة الإيلام، ومنحهم وسام الصبروالاحتساب؛ فكانوا(قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ)[النساء:]. وأوسمته تعالى لا كأوسمة من سواه.

ومقتضى عقل وفطرة سوية كون مودة بين القوم داعية بعضهم بعضاً أن يتعاونوا على الهدى ونبذ الأوثان. لكن القوم جعلوها داعية لحمل بعضهم بعضا على الغواية باتخاذهم الأنداد وهذا من عجيب تخرصات الناس. فلم لايتعاهدون على التقوى فينالوا أجر الحسنيين؟ أجر اجتماعهم وأجراهتدائهم!.

ألم تر كيف تعاهد أهل الكهف على الحق وصابروا؟ !.فكان لهم الذكر الحسن والثناء الجميل؟!

ولايخافن داعية حق نصب ألوية التعذبب  وعنابرالتأديب! فإنها يمكن أن تكون بردا وسلاما كما كانت بردا وسلاماعلى إبراهيم عليه السلام!. ولا غرو كما قال أحدهم: ما يفعل أعدائي بي؟أنا جنتي وبستاني في صدري. أينما رحت فهي معي. أنا حبسي خلوة و نفيي سياحة وقتلي شهادة. وذلكم شعور حق من قلب متصل بالله.

لكن اجتماع قوم على باطل لايمنحه شرعية. فإحقاق حق أو إبطال باطل فإنما هو حق أصيل لله تعالى وحده لأنه وحده أيضا(. . . يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ  )[البقرة:220] . وادعاء غير لذلك اعتداء على حقه تعالى فضلا عن أنه لاينهض. لأن الله تعالى وحده(يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)[الملك: 14] . والقوم جاهلون بحقيقة أنفسهم ومايصلحها أو مايفسدها.

وما لأحد من دونه تعالى من ولي ولانصير.لافي الدنيا ولافي الآخرة. لكن غلبة ما يأتي ذلكم نفي يكون متعلقا بالدار الآخرة. ذلك لأن الله تعالى يخلي بينهم ليرى أحدهم بهتان ما توهمه من نصير مزعوم أو ولي يدفع عنه العذاب. فدل على أنه كان سرابا.فحق إذن قوله تعالى(وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ)[البقرة:  107] .

ومجيئ الناصرين جمعا في الآية لأنهم جمع في اتخاذهم النظراء.ودل على خذلانهم وضعفهم مع اجتماعهم ألا يغنوا عنهم شيئا. لكن تفرد الله لكونه وحده النصير قمن أن يدفع عنهم العذاب. كما أنه سبب كريم لينالوا رحمته يوم أن يتخذوه وحده وليا دون سائر الأولياء سبحانه. وتلك من طلاقات القدرة وموجبات السلطان القويم لله تعالى.

ومخاطبته عليه السلام لهم جمعا بدليل ضمائر الجمع الواردة في الآية كلها يشي بأن القوم كلهم على ضلال. ولايعطي ذلكم للباطل أدنى سند من حق أو أقل ذرة من قبول. ليظل باطلا أبدا. وليعطي في نفس الوقت قوة دافعة لأهل الحق ولو كان واحدا. كما هوحال سيدنا إبراهيم عليه السلام لقوله تعالى(إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً)[النحل:120].وكونه أمة وحده يعطيه أنسا ولاترهبه وحشة.وفيه دلالة وهن الباطل. وحامل معه لواء قوة الحق ليطمئن كل صاحب حق إلى نصر مولاه سبحانه.

وقوله(مِّن دُونِ اللَّهِ) دليل تمكن العبودية من قلبه عليه السلام.وهوإعداد رباني كريم وتربية إلهية تلائم تبعة الحق ولأواك المعركة الحتمي قيامها بين أهل الحق وأدعياء الباطل. وهو درس لكل داع لله أن يتسربل بلباس التقوى (وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ)[الأعراف:26]. وليكون رداؤه الركون إلى مولاه لا أحدا غيره معه أو سواه.

وفيه استمطار لعونه تعالى.

 ومجيئ الأوثان جمعا دليل تعددها.كما وأنه دليل إمعانهم في الشرك ليتنازعوا أحدهم بينهم فيزداد معهم رهقا. وقد كان يمكنه أن يسلس قياده لله  تعالى وحده كيما يعيش مطمئنا. لأنه تعالى حصر الطمأنينة في ذكره وحده كما قال:( الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[الرعد:28].وصدق الله(أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّار([يوسف:39]؟! . 

ومجيئ(أوثانا) نكرة هكذا دليل بطلانها وسند إنكارها أيضا. وتلك من توفيقات الله تعالى لعبده يوم أن يصيب الحقيقة في قوله معبرا عنها بأجمل ما يكون التعبير في دقة واختصار مبين كما لوكان معه قراطيس بيان أو ملكات بلاغ.