(الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ)[الشعراء:218]

 قال الطبري رحمه الله تعالى :(الذي يراك حين تقوم إلى صلاتك.

وكان مجاهد يقول في تأويل ذلك ما حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مجاهد, قوله:(الَّذِي يَرَاكَ       حِينَ تَقُومُ) قال: أينما كنت).    

وقال القرطبي رحمه الله أيضا: أي حين تقوم إلى الصلاة في قول أكثر المفسرين عن ابن عباس وغيره .

وقال مجاهد : يعني حين تقوم حيثما كنت .

قلت:

وهو الله العزيز الرحيم الذي يراك حين تقوم.

وهي رؤية حنو وإكلاء ورحمة ورعاية.

.وماأجمل أن يطمئن امرؤ إلى رعاية ربه وحفظ مولاه.

 وأجمل برب كريم بلغ من كرمه أن يحيط عبدا من عبيده بعنايته ورحمته.

وأجمل برب رحيم حين يخاطب عبدا من عبيده بذلكم خطاب حتى لكأنك تراه معها مطمئنا فؤداه ساكنا جنانه صالحا باله.

  وأثني على رب رؤوف أن أحاط عبدا من عبيده بتيكم رؤية تتولد عنها كل عصمة يروح معها الخيال أو يفكر بها البال.

وأعظم برب لطيف بلغ من لطفه أن خص عبدا من عبيده برؤيته وأن قد أفاض عليه برحمته.

 وهي رؤية باعثة على معنى الأمان بكل معنى ممكن يجول فيه الخيال أو يعمله عقل بشر.

 وهو ناهض بطمأنينة عبيد لله في يومه وغده ومستقبله لأن الله تعالى أسبغ على عبيده من لطائفه وأفاض عليه من معارفه ما يجعل المرء خارا ساجدا لمولاه أبد الآباد لأنه تعالى قال(أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) [الزمر:36].

  والتعبيربالرؤية كاشف لكل معاني الرعاية لا واحدها أو بعضها.

وهو كناية عن العناية التامة من الله تعالى لعبده إذا ما كان عبيد أهلا لتيكم عناية. إذ من فضله ألا تؤتى إلا لمن استحق درجات من عليين من لدنه تعالى رب العالمين. ولذا فتخصيصها بجانب من الرعاية دون الرعاية كلها في أو سع معانيها إنقاص ولاشك لما اقتضاه السياق من شمول ولما حواه من عموم.

وهي من كنايات القرآن الحكيم جاءت موقعها لتؤتي أكلها ولتثمر ثمارها يانعة رطبة هنيئة للآكلين سائغة للشاربين.

ولئن قلت إنها إثبات لصفة الرؤية لمولانا الله تعالى لكان حقا قولك.

ولئن قلت إنها تقرير لذلكم إثبات لكان أيضا صوابا.

وكل يفيد منها ضمانا لرعايته يوم أن يكون عبيدا لله وحين يصير موقنا بعناية مولاه.

فظن حسن بالله تعالى مصحوب بعمل صالح وفق شرعه في مزيج إخلاص له تعالى أسباب لنيل درجات العليين من لدنه سبحانه.

وفيه دوام صلة عبيد بالله بدلالة الفعل المضارع(تقوم) الدال على استمرار قيامه والموحي بمحبته لمولاه وتقديم مراضيه على كل مرضاة أخرى من مراضي العباد.

وفيه إعلاء لشأن الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بدلالة كاف الخطاب في الفعل المضارع(يراك) .

وفيه دوام رؤيته تعالى لعبيده حال قيامه.واستمرار رؤيته حال منامه.وفي سفره وترحاله.

لكن التعبير بالقيام ثناء على رسوله ومصطفاه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لأنه كما جاء عن عائشة رَضي اللَّه عنها أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَان يقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حتَّى تتَفطَرَ قَدمَاهُ، فَقُلْتُ لَهُ، لِمْ تصنعُ هَذَا يَا رسولَ اللَّهِ، وقدْ غفَرَ اللَّه لَكَ مَا تقدَّمَ مِنْ ذَنبِكَ وَمَا تأخَّرَ؟ قَالَ: أَفَلاَ أُحِبُّ أَنْ أكُونَ عبْداً شكُوراً؟ [متفقٌ عَلَيهِ. هَذَا لفظ البخاري، ونحوه في الصحيحين من رواية المُغيرة بن شُعْبَةَ].

وفيه تفرده تعالى عن العباد إذ في دوام رؤيته تعالى ما يبينه سبحانه عن خلقه. إذ الخلق محدودون في رؤيتهم إن زمانا وإن مكانا .

لكن الله تعالى يرى بلا قيد ورؤيته تعالى لايحدها حد. سبحانه.

ورؤيته تعالى بلاوصف ولاتمثيل ولاتكييف لأنه تعالى غني عن النظير كما وأنه سبحانه غني عن الظهير.ذلك لأنه(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)[الشورى:11)].  

وفيه إذن بيان لقيومته وإظهار لعظمته تعالى لأنه تعالى(الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ)[الحشر:23]. 

وفيه إيناس للرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم منضافا إلى إعلاء شأنه معا.وهي مرتبة عالية يشمرلها الصالحون كيما ينالوا محبته وكيما يشرفوا برضاه.

وهي مرتبة قوامها طول القيام وحسنه معه؛ لله تعالى رب العالمين.

وهي زاد الصالحين كل وقت وحين.معينة على مجابهة النوائب وسلاح فتاك في مواجهة المصائب.

فكم من عبيد تكلمه أفات الطريق وكم من سالك توجعه سهام إبليس وجنده المسخرين لبطش العباد ولفتنة الزهاد.فجاء القيام بين يديه تعالى لذلك ترياقا. معه لايشعرون بكلم وعنده لايحسون بوعك. كما قال أحدهم الشيخ الجليل والعالم النحرير(ماذا يفعل أعدائي بي ؟جنتي وبستاني في صدري. حبسي خلوة. ونفيي سياحة. وقتلي شهادة )!.

وهو نعيم فوق النعيم وزاد فوق الزاد. ألم تر أن عروة بن الزبير رضي الله عنه لما أصيب ساقه بالسرطان، وأخبره الأطباء:ألا علاج لها إلا البتر، وأراد الأطباء أن يعطوه شيئاً يخدرونه حتى لا يشعر بألم القطع، فقال عروة: والله لا أتعاطى شيئاً يغيب عقلي عن ذكر الله تبارك وتعالى. ثم قال لهم: إذا دخلت في الصلاة وجلست لقراءة التشهد فاقطعوا ساقي فإني عندما أكون بين يدي الله، لا يكون في قلبي إلا الله تبارك وتعالى!.  

وهذه من موجبات الرؤية ومن دلالات المراقبة ومن براهين أنس عبد صالح بربه ومولاه سبحانه.

كما قال البيهقي رحمه الله تعالى: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أنا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى الطَّلْحِيُّ بِالْكُوفَةِ، ثنا أَبُو الْحَرِيشِ أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى الْكِلابِيُّ، قَالَ : سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ مُعَاذٍ الرَّازِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُنْشِدُ :"أنَّ الْمَلِيكَ قَدِ اصْطَفَى خُدَّامًا مُتَوَدِّدِينَ مُواطِئِينَ كِرَامَا رُزِقُوا الْمَحَبَّةَ وَالْخُشُوعَ لِرَبِّهِمْ فَتَرَى دُمُوَعَهُمْ تَسِحُّ سِجَامَا يُحْيُونَ لَيْلَهُمْ بِطُولِ صَلاتِهِمْ لا يَسْأَمُونَ إِذَا الْخَلِيُّ نَامَا قَوْمٌ إِذَا رَقَدَ الْعُيُونُ رَأَيْتَهُمْ صَفُّوا لِشِدَّةِ خَوْفِهِ أَقْدَامَا وَتَخَالَهُمْ مَوْتَى لِطُولِ سُجُودِهِمْ يَخْشَوْنَ مِنْ نَارِالإِلَهِ غَرَامَا شُغِفُوا بِحُبِّ اللَّهِ طُولَ حَيَاتِهِمْ فَتَجَنَّبُوا لِوِدَادِهِ آثَامًا"(حديث مقطوع:468) .